"حكمة الشرق وعلومه: دراسة العربية في إنجلترا في القرن السابع عشر"

يحقق الكتاب أكثر من فائدة: فمن جهة يذكرنا برحلة اللغة العربية في إنجلترا خاصة، والعالم الغربي بصفة عامة، وهي رحلة ماتعة مثيرة تبدأ في أواخر القرن السادس عشر، حين كان وجود اللغة العربية في إنجلترا ضعيفاً، إلى أواخر القرن السابع عشر حين استقر وجودها في الجامعات والمعاهد الإنجليزية والأوروبية.

كتاب "حكمة الشرق وعلومه" للباحث جيراند جميس تومر
قراءة: صالح محروس محمد

يعد كتاب "حكمة الشرق وعلومه: دراسة العربية في إنجلترا في القرن السابع عشر" للباحث جيراند جميس تومر، من الدراسات النادرة المهمة فهو ضرب من تاريخ الفكر وتاريخ الترجمة ونقل المعارف والعلوم من اللغة العربية إلى اللاتينية، عندما كان العرب النموذج الذي كانت إنجلترا تحذو حذوه وكانت العلوم العربية والمخطوطات العربية وعلوم وحكمة الشرق منبع العلم والمعرفة وهدفاً لعلماء أوروبا وكنزاً يسعون للحصول عليه وترجمته إلى اللاتينية.

ويوضح المؤلف لماذا اختار القرن السابع عشر قرن للدراسة فيقول إنه أهم القرون في التاريخ الأوروبي عامة وفي التاريخ الإنجليزي على وجه الخصوص. ففي القرن السابع عشر الميلادي بدأت الأمة الإنجليزية تشق طريقها بين الأمم الأوروبية الحية وبدأت تتجاوز عصر النهضة إلى عصر الحداثة الفعلي. فقد تطور نظام الحكم فيها من النظام القبلي إلى نظام الدولة بما تعنيه من مشاركة الأطراف الثلاثة في الحكم وهم البرلمان الذي يمثل الشعب والحكومة التي يختارها الشعب أو البرلمان، والدستور الذي ينظم العلاقة بينهما.  فإنجلترا في القرن السابع عشر كان فيها نظام ملكي يحكم من خلال برلمان يختاره الشعب وليس بمبدأ الحق الإلهي، وقامت بها ثورتان الأولى قادها أوليفر كرومول ألغى فيها الملكية عام 1659، والثانية ثورة بيضاء يسمّونها الثورة المجيدة عام 1688 التي قضت على آمال الملكيين في الحكم على أساس حق الملوك الإلهي وبعد أن هزم الأسطول الإنجليزي نظيره الأسباني الذي كان يسمّى الأرمادا في العام نفسه. وترتب على ذلك أن نشطت التجارة الإنجليزية مع دول العالم وفي مجال العلم تشكلت الجمعية الملكية للنهوض بالعلوم الطبيعية عام 1660 والتي رأسها نيوتن (1642- 1727).

وطبيعي مع ازدهار التجارة الإنجليزية مع العالم الإسلامي القوي في هذا القرن والقرون التي قبله حيث كان العالم الذي ينشر أضواءه الثقافية والعلمية في كل مكان، فكان الملك تشارلز الأول مغرماً بجمع المخطوطات العربية والفارسية. وفي عام 1649 ظهرت أول ترجمة للقرآن الكريم أعدها روبرت روس.

إن الحضارة العربية ظلت تشغل الإنجليز في مختلف المجالات الفكرية الاجتماعية  فقد تم إنشاء كرسي اللغة العربية في جامعتي أكسفورد وكمبردج فكان طلابهما يدرسون الفروع العربية من العلوم الاسلامية وذكر بعض المؤرخين أن اللغة العربية كانت لغة العلوم الفيزياء والتنجيم والبلاغة.

وكانت بداية اهتمام الأوربيين باللغة العربية وعلومها في القرن التاسع الميلادي حين أُنشئت الدولة الأموية في شبه جزيرة أيبيريا وأنشأ المسلمون هناك جامعة قرطبة وزوّدوها بمكتبة ضخمة، وأقبل طلاب العلم إلى الأندلس من كل حدب وصوب.

يقول تشارلز بنت في كتابه (دخول العلم العربي إلى إنجلترا) إن ازدهار علوم الرياضيات والفلك بفضل جهود علماء المسلمين مثل مسلمة المجريطي المتوفي في عام 1007 الذى كتب "رسالة الأسطرلاب"، و"تمام علم العدد"، و"اختصار تعديل الكواكب من زيج البتاني"، وطور جداول الخوارزمي وأضاف إلى ترجمة المجسطي، وكتاب بطليموس في الفلك.

لقد بدأ تعلّم العربية في إنجلترا في بلاط الملك هنرى الثاني (1133- 1189)، وهو العهد الذي بدأت فيه إنجلترا تأسيس جامعة أكسفورد. يقول بنت حول هذا الموضوع: "كانت العربية غاية الباحثين الغربيين والمعلمين الإنجليز، وخاصة أولئك الذين كانوا يقومون على تربية الأبناء في القصر". ويذكر المؤلف رحلة العلامة دانيال مورلي إلى أسبانيا لطلب العلم والحكمة العربية الذي يقول إنه أثناء رحلته إلى أسبانيا توقف في باريس في العصور الوسطى، وهناك رأى حميراً في ثياب رجال يجلسون على كراسي العلم، ولكن جهلهم لم يجعل منهم ما هو أفضل من تماثيل الرخام ولما سمع عن عقيدة العرب التي تشجعهم على المعرفة والعلم (الهندسة – الفلك – الحساب – الموسيقى) والتي كانت تدرس في طليطلة في تلك الأيام، سافر إلى هناك لعلله يسمع من أكثر فلاسفة العالم ثراء بالمعرفة والحكمة. ثم عاد من أسبانيا إلى إنجلترا يحمل معه الكثير والكثير من الكتب النادرة والمخطوطات الثمينة.

يقول الكاتب إن الكتب التي جاء بها دانيال مورلي من أسبانيا كانت نواة مكتبة جامعة أكسفورد والتي بدأت إرهاصاتها في القرن الحادي عشر وازدهرت في عصر هنري الثاني، ثم في جامعة كمبردج التي أنشئت عام 1209.

ويستعرض الكاتب الدراسات العربية في العصور الوسطى ويقول إنها كانت تلتمس لسببين: الأول هو الرغبة في امتلاك المعرفة العلمية والثاني في التبشير بدين المسيح. وكانت أسبانيا العاصمة التي يعتصم بها أولئك الساعون إلى المعرفة، وبدأت دراسات جادة للإسلام في أوروبا الغربية والتي بدأها بطرس المبجل بغرض القضاء على ما أسماه "هرطقة الإسلام"، ويقول إننا لم نظفر من جهود الدارسين في أسبانيا في الدراسات النحوية والمعجمية سوى بمصنفين صغيرين، الأول معجم لاتينىي عربي ربما يعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي، والثاني بعنوان مفردات العربية من القرن الثالث عشر. وكان الغرض مساعدة المسيحيين الناطقين بالعربية لفهم اللاتينية والعكس صحيح. وكانت أغلب ترجمات العصور الوسطى إلى اللاتينية من العربية حافلة بالكثير من المشكلات بسب إغراقها في الحرفية وبسبب لغتها المقعرة ليس على مستوى المفردات بل على مستوى التراكيب أيضاً.

وبدأ الاهتمام بشكل كبير بالعربية في أوروبا وعلوم الشرق مع بداية عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر والسابع عشر حيث العوامل الجديدة التي ظهرت مثل انشغال الأوربيين بالصراع مع الدولة العثمانية القوية آنذاك ورغبة الأوربيين الغربين في إقامة علاقات مع الكنيستين الشرقية الأرثوذكسية والنسطورية، وقد جذبت الكنسية الكاثولكية الغربية القساوسة المسيحيين من الشرق للدراسة في الكلية التي بنيت لهذا الغرض حيث بنى البابا غريغوريوس الثالث عشر الكلية المارونية في عام 1584،  فكانوا يتقنون اللغة العربية وكانوا معلمين ومحققين في تلك الفترة المبكرة من الاهتمام بالدراسات العربية في أوروبا.

أما مراكز الدراسات العربية في أوروبا فكانت أسبانيا أولى البلاد التي شهدت ازدهاراً لها في العصور الوسطى وشهدت تراجعاً بعد سقوط غرناطة عام 1492، حيث اتبع الأسبان سياسة الإبادة والإقصاء التي طالت أيضاً الدراسات العربية. ففي أوائل عام 1499، سمعنا عن حرق خمسة آلاف مخطوطة عربية في الميدان في غرناطة بأوامر من خيمينيث دي ثييسنيروس كبير أساقفة طليطلة، وإن كانت جمعت بعض المخطوطات العربية في مكتبة الاسكوريال التي أسسها فيليب الثاني عام 1563.

وكانت إيطاليا في القرن السادس عشر في مقدمة الدول الأوروبية التي طبعت هذه المخطوطات، وكانت أولى المطبوعات العربية في إيطاليا مرتبطة بمدينتي البندقية وجنوة وكان لهما تراث طويل من العلاقات التجارية مع الشرق.

وكانت فرنسا تقيم علاقات رسمية مع الدولة العثمانية وأسست برنامجاً منظماً لتعليم العربية في عهد الملك فرنسوا الأول وكان غيوم بوستل الذي لقب بأبي الدراسات العربية في أوروبا المحاضر الملكي للغة العربية، وقد جمع العديد من المخطوطات العربية منها كتاب (الجغرافيا) لأبي الفدا، وهو عمل علمي يعود إلى القرن الرابع عشر يمعن في وصف العالم بخطوط الطول ودوائر العرض.

أما في ألمانيا فكانت الدراسات العربية قليلة نذكر منها كتاباً بعنوان "مقدمة في اللغة العربية" من تأليف بارتولوميو راتمان.

أما في إنجلترا في القرن السادس عشر فقد أحاط الغموض ببدء الطباعة العربية وكان أول كتاب منشور يضم مفردات عربية مطبوعة بحروف متحركة هو كتاب سلدن وعنوانه (البحر المغلق).

أما وليام بدول فقد أخذ على عاتقه دراسة العربية بطريقة جادة ورصينة ووصلنا كتاب عن سيرته وإنجازاته وهو كتاب هاملتون (وليام بدول المستعرب). ويعود الفضل في تأسيس كرسي الدراسات العربية في جامعة أكسفورد الكرسي الأشهر للدراسات العربية في أوروبا كلها إلى وليام لود وعاونه العديد من علماء أكسفورد، منهم بيتر تيرتز وجون غريفر وإدوارد بوكوك وجون سلدن، حيث كان لود رئيساً لجامعة أكسفورد.

في نيسان أبريل 1630 جمع لود العديد من المخطوطات العربية الشرقية وبذل المال والجهد في سبيل ذلك، فقد اشترى مخطوطات "بدول" العربية بعد وفاته وكان يشجع كلاً من بوكوك وغريفر في أثناء إقامتهما في الشرق على إرسال ما يقع تحت أيديهم من مخطوطات. كما أنشأ لود قسم اللغة العربية في جامعة أكسفورد وأنشأ منصب أستاذ كرسي اللغة العربية في الثامن من آب أغسطس عام 1636 بعودة بوكوك من حلب. واهتم لود بالطباعة العربية والحرف العربي فكانت حروف أكسفورد العربية أفضل من مثيلاتها في كمبردج وطبعت بها كتابات إدوارد بوكوك وجون غريفز.

وكان بوكوك قد زار حلب التي كانت مركزاً مهماً للتعليم والتجارة وكانت من أفضل الفرص التي أُتيحت له لتعلّم العربية من أفواه الناطقين بها ومن خلال مصاحبة العلماء وأرباب الفكر العربي. وكان يشتري المخطوطات العربية ومن الكنوز التي اشتراها من الشرق كتاب "المخروطيات" لأبولينيوس وكتاب "إخوان الصفا" وكتاب "تاريخ الجنابي"  وغيرها من المخطوطات المهمة. وزار الشرق أيضاً غريفز الذي زار القسطنطينية ومصر والذي جمع العديد من المخطوطات العربية من الشرق وترجمها إلى اللاتينية.

في كتاب "حكمة الشرق وعلومه"، يتابع القارئ واحدة من رحلات اللغة العربية وعاء الفكر والحضارة الإسلامية إلى العالم الغربي، وإلى إنجلترا بصفة خاصة، وكيف حرص الغربيون عامة والإنجليز بصورة خاصة على الإلمام باللغة العربية، وبذل الغالي والنفيس بحثاً عن مخطوطاتها، والوقوف على عبقريتها. كما يقدم الكتاب فرصة للباحثين الذين يريدون رصد ما أنجزه العرب في مجال نقل الحضارة اليونانية والرومانية إلى اللغة العربية، وكيف استفاد الغربيون من هذا الإنجاز بعد يأس من معرفة تلك الحضارة في نصوصها الأصلية.

تأتي أهمية هذا الكتاب من أنه يحقق أكثر من فائدة: فمن جهة يذكرنا برحلة اللغة العربية في إنجلترا خاصة، والعالم الغربي بصفة عامة، وهي رحلة ماتعة مثيرة تبدأ في أواخر القرن السادس عشر، حين كان وجود اللغة العربية في إنجلترا ضعيفاً، إلى أواخر القرن السابع عشر حين استقر وجودها في الجامعات والمعاهد الإنجليزية والأوروبية. ومن جهة ثانية، يضعنا الباحث أمام بحر زاخر من الموضوعات التي تحتاج إلى مزيد من البحث والتقصي، وكلها متصلة باللغة العربية وآدابها.
ومن جهة ثالثة، يذكرنا الكتاب بأولئك المستشرقين الذين عشقوا اللغة العربية وآدابها، واسترخصوا في سبيل خدمتها الغالي والنفيس: بِدوِل وسِلدِن ولود وإدوارد بوكوك وغريفز ورافيوس وجون بل وصامويل كلارك وتوماس هايد وكاستل وكثيرين غيرهم.
هذا الكتاب يعتبر صفحة مشرقة من صفحات اللغة العربية، وهو في الوقت نفسه صفحة من صفحات تاريخنا الثقافي والمعرفي، يصوّر فيها الكاتب عهوداً كان العالم يسعى فيها إلى المعرفة بالعربية وآدابها، حين كانت العربية وسيلة كل ساعٍ إلى المعرفة، ومقصد كل محتاجٍ إلى العلوم التي لا تُلتمس إلا من خلال لغتنا الجميلة.