عن معاناة الأقليات في العراق: غياب التسامح
هي قصص يرويها سعد سلوم عن معاناة الأقليات في العراق، فيستعرض مظاهر من التمييز الممارس بحق أقليات استوطنت بلاد الرافدين منذ آلاف السنين، وواجهت تحديات شتى، تتفاقم اليوم وتزداد مع اجتياح التيارات التكفيرية للمنطقة، وغياب منطق التّسامح مع الآخر .
-
الكاتب: نور بكري
- 10 تشرين ثاني 2016 21:04
معبد للطائفة الأيزيدية في العراق
قراءة: نور بكري*
عندما اجتاحت القوات الأميركية المدن العراقية في العام
2003، شهدت الأقليات مظاهر عنف وانتهاكات هدَّدت حقّها في الوجود، وتعرضت لموجات من القتل والخطف والابتزاز،
دفعتها إلى النزوح داخلياً إلى مناطق أكثر أمناً، والهجرة إلى الخارج فيما وُصف
بأكبر هجرة للأقليات شهدها العراق في تاريخه المعاصر.
وعندما اجتاح تنظيم داعش محافظة نينوى في العام 2014، واجهت
هذه الأقليات واحدًا من أعنف الاعتداءات التي استهدفت وجودها وحضورها في المشرق
العربي. حينها، تعرض الأيزيديون لممارسات وصلت إلى مستوى جريمة إبادة منظَّمة، بعد
أن أمعن التنظيم فيهم قتلاً وتنكيلاً، تاركاً 12 مقبرة جماعية، كُشفت بعد تحرير أجزاء
عدة من جبل سنجار وحده. لم تكن هذه المعاناة التي تعيشها واحدة من أقدم الجماعات الدينية
في العراق، إلا فصلاً من فصول صراع الأقليات في سبيل البقاء، بدأت منذ تأسيس
الدولة العراقية في العام 1921.
ظُلِمَ الأيزيديون سابقاً يوم حرِّف اسمهم على لسان
أبناء جلدتهم، فأُسقطت الهمزة، لتنسب هذه الأقلية إلى يزيد بن معاوية، وتثير لبسًا
عن معتقداتهم. ومن ثمّ حرّف المعنى، فصار "عبدةُ الخالق"، كما يصطلح على
اسمهم، يلقبون بعبدة إبليس، ويواجهون خطابات باعثة على الكراهية، ويتعرضون لإساءات
على المنابر تصل إلى حدِّ تكفيرهم.
الصابئة المندائيون أبناء أقلية يشاركون الأيزيديين التمييز
والاضطهاد. والبداية من الاسم، فهم المصطبغون المتعمدون العارفون بوجود الله
وتوحيده، باللغة الآرامية. أبناء ديانة إبراهيمية توحيدية، يقر بذلك كتابهم المقدس
الذي ترجم إلى العربية في فترات سابقة، ولكنهم مرتدّون في نظر فئة تسعى إلى تأويل
كلمة "الصابئة" بالعربية لوسمهم بالخروج عن الدين، ليصار إلى محاربتهم
فيما بعد، بعد إصدار فتاوى مناهضة لهم، واتهامهم بالوثنية، وبعبادة النجوم
والكواكب والمياه، وممارسة السحر والزنا. والاتهامات التي بدأت بإطلاق الشائعات،
لم تلبث أن استحالت واقعاً، تمظهر في رفض شركائهم في الوطن مشاركتهم الطعام أو
الشراب.
الكاكائيون بدورهم طالتهم محدلة التمييز، فصار البعض يعزف
عن الشراء من محالهم ودكاكينهم، ويرميهم بالهرطقة، ويعتبر أنهم عبدة الشيطان. ومع
استهداف تنظيم داعش لمحافظة نينوى، تعرضوا لهجمات اضطرت البعض منهم إلى إشهار
إسلامهم، خشية مهاجمتهم، فيما تمسك آخرون بهويتهم، وأعلنوا أن الكاكائية دين
مستقلّ، معتبرين أن التصريح بكونهم مسلمين لا يعدّ حلاً لوقف اضطهادهم.
هي قصص يرويها سعد سلوم في كتابه "التنوع في الوحدة: التعددية وتعزيز المواطنة الحاضنة للتنوع الثقافي في العراق"(مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية، الطبعة الأولى، 2015).
معاناة الأقليات في العراق تبدأ هنا، وتكاد لا تنتهي عند
حدٍّ. في بلاد الرافدين، تعيش جماعات مختلفة إثنياً ودينياً وثقافياً لطالما خاض
أبناؤها معارك وجودية على محاور اللغة والدين والهوية.
يستعرض سلوم مظاهر من التمييز الممارس بحق أقليات استوطنت
العراق منذ آلاف السنين، وواجهت تحديات شتى، تتفاقم اليوم وتزداد اليوم مع اجتياح
التيارات التكفيرية للمنطقة، وغياب منطق التّسامح مع الآخر والقبول به شريكًا في
السّلطة والأرض.
البلاد التي كانت لآلاف السنوات مركزاً روحياً للديانات
السماوية الثلاثة، تظهر إحصاءات ووقائع غياب بعضها عن مسرح الأحداث، فبعد أن كان
العراق يضمّ أكبر الجاليات اليهودية في الشرق الأوسط، لا يكاد عددهم اليوم يبلغ
ستة أشخاص، يقول سلوم.
كتاب"التنوع في الوحدة" لسعد سلوم
والمسيحيون القلقون على وجودهم في المشرق بشكل عام، تظهر إحصاءات منظمات مسيحية تراجع أعدادهم في العراق إلى حوالى 300 ألف، بعد هجوم داعش على نينوى، بعدما كان العدد يقرب من مليون و400 ألف. أبرز الانتهاكات التي يشير إليها سلوم بحقهم في العامين 2014 و2015، تتمثل بعودة حالات الخطف التي واجهوها سابقاً، والاستيلاء على عقاراتهم. وحتى وقت قريب، كان تزامن احتفالاتهم بأعياد الميلاد، لأربع سنوات متتالية، مع ذكرى عاشوراء، يدفعهم إلى الإعلان رسمياً عن إلغاء الاحتفال بأعيادهم في بعض الحالات (البصرة في العام 2010)، أو الاحتفال بصمت داخل البيوت.
لئلا يجفّ "النهر الرابع"، كما يسمّيه سلوم، ويريد به التنوع العرقي واللغوي والديني والإثني والثقافي في العراق؛ مورد غنى البلاد الرابع بعد نهري الدجلة والفرات، ونهر "النفط"، يطرح سلوم في دراسته أنموذج "دولة المواطنة الحاضنة للتنوع"، في مقابل أنموذج "دولة المكوّنات". للعراق تجربة في الأنموذج الأخير بعد العام 2003، تنطوي على مخاطر تقسيم البلاد إلى كيانات، وتعزيز الصراع على السلطة بين الجماعات الثلاث الكبرى؛ الشيعة، السنة، والأكراد، مع تمثيل رمزي للأقليات. في ظل هذه الدولة، استحالت مفاهيم المواطنة وحقوق الفرد والتعدّدية مفاهيم مثالية، وانطلق أنموذج قائم على فكرة "المكون"، وفقاً لقرائن يطرحها سلوم تطعن في هذا الأنموذج، وتؤسس لهويات متشظّية على حساب الهوية الوطنية.
ففي العام 2003، جرى تأسيس دولة المكونات، الّتي رسمت شكل مجلس الحكم بناءً على الجماعات الكبرى، فغاب أي تمثيل للمندائيين والكرد الفيليين، ما أدى إلى تعزيز تهميش الأقليات. اعترف الدستور بالإسلام ديناً رسمياً للبلاد، يضيف سلوم، وتبنى مقاربة للعلاقة بين الدين والدولة على نحو يخلّ بحياديتها. ثم جاء الدّستور الدائم في العام 2005، ليؤكد إسلامية الدولة، ويعتبر الإسلام مصدراً للتشريع، مع مراعاة عدم سنّ قانون يتعارض معه.
لم يكن في الهوية الدينية من جديد على صعيد العالم العربي، فمعظم الدّول العربيَّة تتبنى الإسلام ديناً للدولة، ولم يكن فيها أيضاً طرح جديد على مستوى الدساتير العراقية منذ العام 1925، غير أنّ القانون الجديد شدّد على مركزية دين الدولة، وكان بمثابة إعلان "وصاية ثقافية" لدين الأغلبية على جميع المعتقدات الأخرى في البلاد، وفقاً لسلوم.
وقد أتى قرار البرلمان العراقي، مؤخراً، منع بيع الخمور واستيرادها وتصنيعها، متماشياً مع إسلامية الدولة، ولكنّه سرعان ما أعاد إلى الواجهة مطالب الجماعات الدينية المختلفة في المشاركة السياسية الفاعلة، والحصول على مقاعد تتيح لهم اتخاذ القرارات المؤثرة التي تمسّ بمجتمعهم، وارتفعت الأصوات التي رأت فيه إلغاءً لحرية الاختيار ومصادرة لحقوق الأقليات. وكان قد سبقه العام الماضي قرار يقضي برفع الضريبة الجمركية على المشروبات الكحولية إلى 80 في المئة، لقي أيضاً ردود فعل مشابهة.
اصطدم قانون دولة المكوّنات كذلك بمطالب الحفاظ على لغات الأقليات، كاللغة المندائية مثلاً، التي أدرجت في العام 2006 ضمن اللغات المهددة للانقراض، ومطلب الحفاظ على الثقافة ومنع التمييز ومواجهة الطائفية والتقسيم وغيرها.
يذهب سلوم إلى أنَّ دولة المواطنة تضمن المساواة والشراكة والتعايش، وتحافظ على "رأس المال الحضاري" الذي ينعم به العراق، وتحفظ التركيبة الديمغرافية للبلاد وطابع التنوع الديني، وتتصدى لمخاطر زعزعة الاستقرار الاجتماعي وإفقار الهوية المشرقية، وتكفل التوازن بين أطياف المجتمع.
معالجات الكاتب وافرة في هذا الإطار، يتبعها بخلاصة قوامها خطة لحماية التنوع، من خلال إصدار تشريع مستقل لمكافحة التمييز، يلحظ حق الأقليات التي لا تحظى بالاعتراف الرسمي، مثل البهائيين، والأقليات التي لا تلقى تقديراً لحقها بالمطالبة بالحقوق، مثل العراقيين من أصول أفريقية، وصياغة تشريعات تضمن الحفاظ على الهوية واللغة، وتضمن حقهم في التعليم والوصول إلى وسائل الإعلام.
ويتضمّن المخطط استحداث مناهج دراسية وسياسية تعليمية تعزز التعددية والمواطنة الحاضنة للتنوع، أو تعديل القائم منها، والعمل على صياغة تشريعات تضمن الهدف نفسه، وذلك أن بعض مناهج التعليم تكرّس ثقافة التمييز في أذهان الطلاب، مثل منهج التربية الوطنية للعام 2009 للصف الخامس الابتدائي، الذي يصنّف "الشبك" كإحدى الديانات غير المسلمة مع المسيحيين والمندائيين والأيزيديين!
وتبقى طروحاتٌ مثل إجراء حوار مجتمعي شامل، يشارك فيه علماء دين وشباب ونساء، والركون إلى مشروع مصالحة وطنية هدفه إزالة الغموض والبحث عن المشتركات، بعضاً من مقترحات يقدّمها سلوم ضمن مشروع متكامل يرى فيه منهجاً أكاديمياً عن حماية التنوع للباحثين والطلاب وصناع القرار على المستوى المحلي والوطني.
*كاتبة لبنانية.