"ذاكرة القوافي" .. قراءة في سيرة وشعر نظام الدين فضل الله
تنساب قوافي الشاعر السيد نظام الدين فضل الله على إيقاع الحنين، وسلاسة اللغة وانسيابية المعنى، وهو الآتي من أصالة لغة القصيدة العربية، وعمق التراث الذي يزخر به جبل عامل، وتعتبر بلدة الشاعر عيناثا واحدة من أبرز مراكزه العلمية والأدبية، وفيها عائلة الشاعر الممتدة في التاريخ العاملي منذ مئات السنين.
يستعيد نجل الشاعر النائب حسن فضل الله هذه القوافي في كتابه الجديد "ذاكرة القوافي السيد نظام الدين فضل الله، بيئته، حياته، شعره"، ويقدم له بلمحة تاريخية تمتد على إمتداد الزمن العلمي والأدبي الذي كوَّن البيئة الثقافية والفكرية التي ينتمي إليها الشاعر. فالكتاب - كما يقول مؤلفه - يحوي "ديوان شاعر أبحر بين القوافي، فانتقى منها الجواهر، وحكاية تاريخ عاملي نمشي دروبه التي أوصلت هذا الجيل من الشعراء إلى القصائد التي نسجوا معانيها، وعزفوا أوتارها. دروبٌ مرت بحقبٍ تاريخية طويلة، وشقتها أيدٍ كثيرة حفرت في الصخر وعلى التلال وفي الوديان، لتكون لهذا الجبل العاملي مدارس علمه ومنابر شعره وميادين جهاده".
يجيد الكاتب تحليل الوقائع التاريخية بلغة علمية متناسقة بحيث بدا الكتاب يؤرخ لمراحل متنوعة من خلال التأريخ لبيئة الشاعر وحياته، انطلاقًا من بلدته، ومنها هجرته الى حيفا التي انضم فيها الى الفدائيين العرب قبل أن يعود مثقلاً بالهزيمة العربية، فيهاجر الى الكويت، ويعود بعد خمس سنوات ليستقر في حي النبعة ويشارك في حركة الاستنهاض الثقافي. وتتوالى بعد الحرب الأهلية معاناة الهجرة بسبب الاعتداءات الإسرائيلية والحروب الداخلية الى أن يتحقق تحرير جنوب لبنان وبقاعه الغربي من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000 فيعود الشاعر الى قريته المحررة.
أسهمت العوامل الفكرية والاجتماعية والسياسية في تكوين الوعي الثقافي للشاعر نظام الدين فضل الله، وفي صياغة شاعريته، وقد برز ذلك في اتجاهات شعره، وهي تحمل أبعاداً مختلفة منها الإباء والعنفوان المستمدان من التاريخ الإسلامي وشخصياته المؤثرة، وفي طليعتهم الإمام علي بن أبي طالب، فضلًا عن التأثر بثورة كربلاء. يقول الشاعر نظام الدين فضل الله في إحدى قصائده:
أمَّا عليٌّ فما شخصٌ يماثله أنعم به بعد طه من فتًى بطلِ
مشى لعمرو بن ودٍّ غير مكترثٍ مهرولًا غير هيَّاب ولا وجلِ
بموازاة هذا البعد تغلب الرقة على شخصية الشاعر التي برزت في العديد من قصائده:
أرى العمر يمشي مسرعًا ومولِّيًا كما أسرعت تحت النجوم الغمائم
سأبكي على ذنبي دموعًا كما بكت على الأيك فوق الغصون الحمائم
تلك الرقة ترافق غزليات الشاعر:
يا منى النفس لا تزيدي العذابا إنَّ قلبي من الصبابة ذابا
تهتِ حُسنًا وبهجةً وجمالًا سحرُ عينيك حيَّر الألبابا
هذه الرقة تتحوَّل إلى ثورة ضدَّ المزيّفين بإسم الدين، فتبرز في الشأن الاجتماعي قصائد الشاعر الثائرة، والجريئة على بعض السلوكيات الدِّينية وتوظيف المال في غير موضعه الصحيح:
يأكلون الحقوق من غير حقٍّ كذبوا فالحقوق للفقراء
يسرقون الأموال جَهرًا وظُهرًا ينهبون الأموات كالأحياء
وفي موضع آخر
شاهدت من يدَّعي الإيمان في كذبٍ أنيابُهم نفذت في داخل الجسدِ
تصل تلك الثورة الشعرية الى القضايا السياسية فيستحضر معاناة أمته:
أين العروبة أين المسلمون فهل صمَّوا عن الحق والوجدان آذانا
لولاهم ما ضاعت القدس وما جعلت أرض الجنوب لإسرائيل ميدانا
قامت مقاومة في كل ناحية سل أهل عاملة شيبًا وشبانا
ذاكرة القوافي ديوان يزخر بالقصائد المتنوعة، ففي الدِّين قصائد في النبي محمد والإمام علي وكربلاء، وفي السياسة نجد فلسطين والجنوب، وإيران، وفي التوجيه والإرشاد عبر للحياة ودروس الأب، وفي الغزل سحر عينيك وداوِ قلبي وأيَّام الصبا.
وجدت تلك القصائد طريقها إلى مهرجان الشعر العربي في بلدة عيناثا بمناسبة إطلاق الكتاب، فتوهج مسرح الانتصار في البلدة التي استعادت أمجاد الشعر العربي، وذلك من خلال حجم الحضور ونوعيته، ومستوى القصائد التي ألقاها شعراء لبنانيون وعرب.