"حي السريان" تناقضات المدينة والأرواح
يدخلك علي السقا في "حي السريان" إلى مكنونات نفوس أبطاله بكل جرأة، في رضية، وفي صافي، في علي وفي الدادو. وفي يوسف. حيث يرى كل منهم الحياة من شباك تركيبته الفريدة. وتطلعاته إلى البعيد، ومعاناته في وحول القريب الآني.
يجيد السقا في هذه الرواية استحضار التناقض إلى المشهد. فيصور مركّبات حيي السريان والتنك الدقيقة، في مقابل نقيضهما "الجنة الفارغة". تلك الأبراج شبه الخالية، بأسطحها المخصصة لمتعة الموسرين من الناس. مرتع اللذات لأبناء الذوات. أولئك الذين يستخدمون قبضايات الأحياء الفقيرة في حراسة رخائهم. حب الجنرال لزوجته طوال العمر. وبرودة العلاقة بين رضية ويوسف. تغوص "حي السريان" أكثر في أعماق نفوس شخصياتها. فتكشف عن العلاقة الأكثر خصوصية بين الأم وابنتها الأكثر، في زمنٍ حقيقي عانت في المرأة من قيود اجتماعيةٍ قاسية. وتنتقل إلى علاقة الأخت بأختها. نظمية الحامية الكبرى لأحلام أختها الصغرى. تلك التي تكبرها بسنواتٍ قليلة، كرّست حياتها لمهمةٍ واحدة. تعبيد هذه السنوات الفاصلة في العمر لأختها، حتى لا ترى ما يروعها منها. ويختصر السقا هذه العلاقة على لسان رضية: "نظمية أماني من الخوف. نظمية حضن واسع". هذه رواية عن الصداقة أيضاً. الصداقة بين حدثين سجينين. الصديق الذي يتصدى بصدره للمخاطر ليحمي صديقه. وليعلمه ما سبقه إليه من دروس الحياة. وهي أيضاً عن الحب. حب الصغيرة الأول لابن خالتها. ذلك الشعور الدافئ في جوف صدرها. تفاصيل الأحاسيس الأولى. الاشياء التي لا تحكى. دهشة كل تفصيل، وأثره على الوجه وفي الجسد. وهي حكايةٌ عن ديوك الأحياء الفقيرة. الضعفاء الذين لا يملكون سوى عضلاتهم وقلوبهم يقاتلون بها أنفسهم طمعاً بابتسامة على ثغر أسيادهم. لقمة العيش التي تذل صاحبها أسوأ الذل. فتجعل منه شبعاناً من الطعام فقط. وجائعاً لكل شيء آخر. مجموعة من القضايا يريد لها الثقة أن ترقد في ذهن القارئ. ذاكرة بيروت. أبنيتها الأثرية. تنوع أحيائها الطائفي. المقاومة. جشع المتمولين والجشع إلى التموّل. تناقضات تحتوي تناقضات في البيئة نفسها. وهكذا دواليك وصولاً إلى أصغر الدوائر. نموذجان لرجل الدين. ذلك الذي حوّل دينه إلى دكان يشتري فيه الملذات ويبيع فيه العقائد. والآخر المرهف الذي يقضي عمره في خدمة الناس وعلى الجبهات. الأزعر وصاحب الضمير. نتانة "الدادو" وطهارة الشهيد حسن. نموذج حيدر مقابل نموذج صافي. الجنرال شويفاتي مقابل الحاج اسماعيل. الخير والشر. ولكن الكاتب أراد أن يخرج الخير أيضاً من قلب النتانة. فحمّل "الدادو" مروحة إلى البلهاء "جميلة" ليقيها قيظ تموز. يتنقل السقا بين الأزمة، كمن يريد أن يؤكد للقارئ تبدل الأشخاص وبقاء الأدوار نفسها. لا شي يتغير في هذه البيئة سوى الأسماء. البؤس المكتوب على أبناء الحي، لا يفارقهم. حتى حين خرجت الناس لتثور على الظلم. بقي الوسم على أبناء حي السريان بأنهم قذارة منبوذة. العنف والجريمة والفوضى. التوحش والمخدرات. سمات ألصقت بأبناء الحي. لكن السقا يعيدها إلى أصولها الأولى. وهو حين يجول في الأزمنة يعطي القارىء فرصة ليستجمع كل التراكيب التي أفضت بالأبطال إلى حالهم الراهن. يدخلك علي السقا في "حي السريان" إلى مكنونات نفوس أبطاله بكل جرأة، في رضية، وفي صافي، وفي علي وفي الدادو. وفي يوسف. حيث يرى كل منهم الحياة من شباك تركيبته الفريدة. وتطلعاته إلى البعيد، ومعاناته في وحول القريب الآني. ينتقل السقا بالوقت أمام أعين القارئ إلى الوراء وإلى الأمام. حتى يستحضر رائحة الزمن إلى ذهنه. هو لا يكتفي بنقل الصورة والحدث وتنغيم الأصوات، بل يريد لقارئه أن يشتمّ روائح الزمن الذي يأخذه إليه. ليطرح أمامه صورة عن المجتمع، أقل ما يقال فيها أنها "حقيقية".