"عقيدة الصدمة": كيف تستغل الرأسمالية الكوارث لتحقيق مصالحها
نعومي كلاين من أبرز الرموز الفكرية لحركة مناهضة العولمة النيوليبرالية التي انطلقت في أواخر تسعينيات القرن الماضي. وقد اعتبرتها مجلة "ذي نيويوركر" بمثابة نعومي تشومسكي، وهوارد زين قبل ثلاثين سنة.
كان من المفترض أن يكون كتاب "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث" للمؤلفة الكندية نعومي كلاين الصادر عن شركة المطبوعات للنشر والتوزيع في بيروت، عن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 والإرهاب والحروب، إلا أن سير الأحداث تغير. فقد سافرت نعومي كلاين إلى العراق كمراسلة صحافية أثناء الغزو الأميركي هناك. وفي عام 2004، حصل التسونامي في جنوب شرق آسيا، وبعده بركان كاترينا.
يشكل كتاب كلاين شهادة واضحة عن القوى النيوليبرالية وكيف تستغل عمداً حالات الصدمة التي خلقتها تلك الكوارث.
وقد لعب كتاب "عقيدة الصدمة" منذ صدوره، دوراً جوهرياً في الكشف عن المتلاعبين الحقيقيين بمصير البشرية، وفي أصعب ظروفها من كوارث طبيعية وحروب ومجازر، وقد تم تحويله كفيلم قصير حُمل أكثر من مليون مرة خلال أشهر قليلة، عن طريق شبكة الانترنت، لما يقدمه من معلومات فاجأت الكاتبة نفسها.
يعتبر الكتاب موسوعة ضخمة، ومن أهم الأبحاث الإستقصائية عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة من قبل المؤسسات والدول الكبري في العالم منذ 30 عاماً، وقد أحدث الكتاب منذ صدوره "صدمة" فكرية وسياسية بين صفوف المثقفين والباحثين والمفكريين.
تتحدث الكاتبة كلاين عن ما أسمته "سياسة المعالجة بالصدمة" في العقود الأربعة الأخيرة وتشرح ما جرى في البلدان التي تعرضت للعلاج بعقيدة الصدمة، كما على الدول التي طبقتها. فهي ترى "أن التاريخ هو تسلسل من "الصدمات" العسكرية والبيئية والاقتصادية وما ينجم عن كل منها من تداعيات. هذه التداعيات في زمننا المعاصر هي رأسمالية الكوارث".
وتعدد كلاين في مؤلفها كل التكتيكات المتبعة في مناطق الكوارث حول العالم، استناداً لنظرية عقيدة الصدمة لفهم الطريقة الوحشية المتبعة التي تستغل إرتباك جماهير العامة عبر أشكال متعددة من الصدمات: حروب، انقلابات عسكرية، هجمات إرهابية، هجمات على الأسواق، أو كوارث طبيعية، للدفع بالتدابير المؤيدة للفكر الراديكالى المسمى بـ"المعالجة بالصدمة".
وتوضح كلاين رؤيتها عن عقيدة الصدمة بأنها الإستراتيجية السياسية التي توظف الأزمات الواسعة النطاق لفرض سياسات تعمق الفوارق الاجتماعية وتزيد من ثراء النخب وتفقر جميع الآخرين. ففي لحظات الأزمات يركز الناس على الأولويات المرتبطة بضمان شروط البقاء ويميلون لمنح ثقة زائدة الى من هم في السلطة.
وتوضح كلاين تأثير سياسات اقتصاد مدرسة شيكاغو وصاحب نظريتها الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل، ميلتون فريدمان الذي سبق وعمل كمستشار لرئيس تشيلي السابق بينوشيه والمحافظين الجدد، على الدول التي طبقتها، سياسياً واجتماعياً، من إندونيسيا سوهارتو إلى تشيلي والأرجنتين والبرازيل ثم روسيا وشرق آسيا وصولاً إلى العراق حيث يقوم مذهب رأسمالية الكوارث بالتعاون مع الشركات الكبرى العابرة للقارات على استغلال كارثة، سواء أكانت انقلاباً، أم هجوماً إرهابياً، أم انهياراً للسوق، أم حرباً، أم تسونامي، أم إعصاراً، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية.
ففي الكارثة يسهل تمرير أي شيء من مخطاطتهم، إذ يكون الناس في هلع لا يملكون معه أي مقاومة. وتقول: بعد كل كارثة يتحرك المقاولون أصحاب الأعمال الخاصة مستخدمين التملق للبحث عن الأعمال المُنجزة بشكل سيء، يلى ذلك إنفاق مليارات الدولارات من ميزانية الحكومة، مثلما حدث في برج غرينفل وإعصار كاترينا، الكارثة التي كشفت عن الازدراء الذي يعانيه الفقراء.
وتعطي كلاين مثالاً على ذلك، ففي فترة ما بعد إعصار نيو أورلينز، كانت أغلب المدارس عمومية وكلما حاولوا كي يجعلوها تدخل القطاع الخاص كانوا يفشلون. لكن بعد إعصار كاترينا وجدوا فرصتهم. حيت أنه قبل عودة الناس إلى منازلهم كان قد تم خصخصة أغلب المدارس، فقبل الإعصار كانت هناك 123 مدرسة عمومية. بعده بقي 4 والباقي تمت خصخصته.
وتكمل كلاين مطالعتها: "في الخمسينات، بينما يُجري أيوين كاميرون تجاربه، كانت مدرسة شيكاغو تطور أفكارها التي ستطغى على نظريات راؤول بريبِش، داعية ما يمكن تسميته اليوم: الطريق الثالث، و اقتصاديين آخرين كانت لهم شعبية بأميركا اللاتينية آنذاك". تنقل كلاين تعبير الاقتصادي التشيلي أورلاندو لتلييه عن "الانسجام الداخلي" بين إرهاب نظام بينوشيه وسياساته لتطبيق نظام السوق الحر، ويرى لتلييه أن ميلتون فريدمان مشترك في المسؤولية عن جرائم النظام، رافضاً حجة أنه كان يقدم مجرد مشورة تقنية.
وقد لقي لتلييه مصرعه عام 1976 بانفجار سيارة مفخخة زرعتها استخبارات بينوشيه في واشنطن، واعتبرته كلاين ضحية أخرى لـ“صبيان شيكاغو” الذين أرادوا فرض رأسمالية الكوارث.
وتتحدث كلاين في كتابها عن تجارب عالم النفس الكندي الشهير أيوين كاميرون، الذي كانت تجاربه تهدف إلى مسح إدراك الإنسان وذاكرته كي يسهل برمجته والتحكم به. تجاربه التي أخدع لها مرضاه النفسيين من خلال عزلهم تماماً عن العالم الخارجي وتعطيل حواسهم تماماً.
وتقارن كلاين بين نوع من التعذيب والعلاج قائم على إعادة تربية المرء انطلاقاً من الصفر، أي غسل دماغه بالكامل وجعله أبيض قابلاً لكل إضافة، وبين اقتصاد المحافظين الجدد القائم على إعادة الرأسمالية إلى طبيعتها وترك السوق حرة من أي تنظيم أو تدخل أو زيادة. ذلك يعني رفع يد الدولة تماماً، وتقليص جسم الدولة بحيث لا يبقى منها سوى سلطتها القمعية، ومنع أي مساعدات عن البلد وتركه يتدبر أمره بنفسه، وخصخصة كل المرافق، وفتح البلد أمام الاستثمارات الأجنبية التي قد تتولى المرافق المخصخصة ورفع أي قيود حمائية.
وحول فيروس "كورونا"، تشرح كلاين في مقابلة صحافية، كيف تفسح صدمة ما المجال لسلسلة الأحداث التي سبق أن تناولتها في كتابها "عقيدة الصدمة". وذكرت كيف تقدمت مراكز الدراسات في واشنطن، مثل مؤسسة "هيريتاج"، بلائحة حلول لمفاعيل "إعصار نيو أورلينز" لا تتعارض مع "حرية السوق". وتؤكد بأن اجتماعات مشابهة تعقد اليوم، وتذكر بأن الشخص الذي ترأس ما سُمي بمجموعة كاترينا هو مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
الكتاب يكشف بالوثائق والأدلة عن النيات المبيتة لما يجري في العالم من غزو وانقلابات ومجازر. وقد لخصت كلاين أطروحتها الرئيسية في مقدمة الكتاب، إذا ما شق على القارئ قراءة الـ750 صفحة وهي عدد صفحاته. فضلاً عن أن الكتاب قد تم إنتاجه كفيلم قصير حُمل عن طريق شبكة الانترنت، أكثر من مليون مرة خلال أشهر قليلة، ولما يقدّمه من معلومات فاجأت الكاتبة نفسها.
نشير إلى أن نعومي كلاين تعتبر من أبرز الرموز الفكرية لحركة مناهضة العولمة النيوليبرالية التي انطلقت في أواخر تسعينيات القرن الماضي. وقد اعتبرتها مجلة "ذي نيويوركر" في عام 2017 بأنها بمثابة نعومي تشومسكي، وهوارد زين قبل ثلاثين سنة.
وقد حققت كلاين منذ كان عمرها 29 عاماً، ظهوراً عالمياً عبر كتابها "لا شعار" (No logo) حول العلامات التجارية وسلطة الشركات متعددة الجنسية على العالم والثقافة. وكانت قبل ذلك، عملت كمراسلة صحافية عند اثنتين من أكبر الصحف اليومية في كندا.