أنور عبد الملك تنبأ باكراً بصعود الصين كقوة عظمى
رأى أنور عبد الملك باكراً في خمسينيات القرن العشرين أن الصين "ساحة فراغ" سوف تصحو في يوم قريب.
كان الفيلسوف والمفكر المصري الراحل الدكتور أنورعبد الملك من أوائل الأكاديميين العرب الذين زاروا الصين. وقد كانت أولى رحلاته الدراسية الست إلي الصين في تشرين الاول/ أكتوبر عام 1978 التي امتدت حتى ربيع 1994.
ويروي عبد الملك في كتابه "الصين في عيون المصريين": كنت آنذاك مديراً للأبحاث في المركز القومي للبحث العلمي في باريس، وبعد انتخابي نائباW لرئيس الاتحاد العالمي لعلم الاجتماع، توليت مهام الأستاذ المنسق للمشروع الرئيسي في العلوم الإنسانية بجامعة الأمم المتحدة في طوكيو (1976 ـ 1989). وفي هذه الظروف التقيت بالعالم الكبير فاي تشاو تونغ، مندوب الصين في مجلس الجامعة ورئيس اتحاد علم الاجتماع الصيني الذي كان يتولى منصب مدير معهد الأقليات في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وهي الترسانة الفكرية التي أقامها شو إن لاي، رجل الدولة العظيم وزير خارجية ورئيس وزراء الصين، لتعبئة أهم مفكري وباحثي وعلماء الصين في جميع المجالات لمواصلة بناء الصين الجديدة بعد تقلبات الثورة الثقافية.
ويكمل عبد الملك سرده المفعم بالحماس والإعجاب بالتجربة الصينية: أدرك العالم الكبير تونغ، عمق اهتمامي بنهضة الصين بعد الثورة، وقرر التوسط لدى الأكاديمية لدعوتي إلي الصين.
ويؤكد عبد الملك أنه ثاني المفكرين بعد صاحب كتاب "الصين: تاريخ جديد"، المؤرخ الأميركي جون فيرباك الذين تمت دعوتهم، بعد ثلاثة شهور من نهاية الثورة الثقافية وإقرار التوجه الجديد الذي رفع لواءه سكرتير الحزب الشيوعي الصيني الأسبق دنغ شياو بينغ، رفيق ماو تسي تونغ، حول شعار أن نتعلم من الواقع وليس من تراث النظريات السابقة.
وقد كان لدنغ شياو بينغ الفضل في الإنتقال من الإقتصاد الموجه إلى إقتصاد السوق الذي ساهم في أن تتبوأ الصين مكانتها الحالية، وعودة العلاقات مع واشنطن عام 1979 وانتزاع اعترافها رسمياً بالصين، وكان مفاوضاً أساسياً ناجحاً في إعادة هونغ كونغ إلى الصين عام 1997.
كان عبد الملك سباقاً منذ خمسينات القرن الماضي في إكتشاف قوة الصين قبل الكثير من الكتاب والمفكرين. ولهذا يقول في كتابه "الصين في عيون المصريين" الصادر عن دار الهلال في القاهرة، أن "ظاهرة الصين العملاقة وانطلاقها الصاروخي في مطلع هذا القرن لاحتلال مكان الصدارة في منظومة النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب يثير تساؤلاً مركزياً من حيث المنهج".
ويرى عبد الملك أن العالم تسود فيه ثلاث دوائر حضارية في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وأن دوائر النفوذ الثلاثة تلتقي في منطقة الشرق الأوسط، وأننا في هذه المنطقة لن نستطيع تحقيق مرحلة النهضة الحضارية إلا بربط مصيرنا التاريخي بمصير القطاع الآخر من الحضارة الشرقية القائم في آسيا.
ويؤكد عبد الملك في كتابه أن المركز الجديد للقوة والنفوذ والتأثير العالمي سيكون في الشرق، وهو يختلف عن المركز الغربي.
وكان الباحث من أوائل الشخصيات العربية التي رأت في مؤتمر باندونغ، الذي أسس عام 1955 لحركة التضامن الأفرو-آسيوية، بأنه ليس مجرد حدث سياسي. بل كان يعده حدثاً حضارياً بحق لأنه جمع، لأول مرة منذ صعود الغرب في القرن السادس عشر، زعماء مصر والهند والصين وأندونيسيا وبورما لإعلان إمكان قيام نظام عالمي مستقبلي. وقد كان يستدل، في أعوامه الأخيرة، على صحة موقفه هذا بعهد التعددية القطبية الذي صرنا نحياه اليوم، حيث أنه يرى فيه الترجمة العملية للمغزى الحضاري لمؤتمر باندونغ.
اكتشف عبد الملك مبكراً منذ إقامته عام 1959 في المنفى الاضطراري في فرنسا، أن نظرة الباحثين الغربيين للشرق عامة وللعرب خاصة نظرة تهميشية، تعامل كل تجاربنا ومؤسساتنا على أنها "حالات استثنائية" لا ترتقي إلى أي سوية يعتد بها. ولهذا نشر عام 1963 مقالاً بالفرنسية بعنوان "الاستشراق في أزمة". وقد نالت المقالة شهرة واسعة، وقوبلت بهجوم حاد بعدما عدها كثيرون "تصفية حساب مع الغرب". وعدت الطلقة العربية الأولى في معركة نقد الإستشراق التي بلغت مداها مع صدور كتاب ادوارد سعيد " الإستشراق" عام 1978 الذي أخذ الفكرة إلى اَفاق أوسع.
يلفت عبد الملك نظرنا إلى أن "الرواد الذين اكتشفوا جوهر تحرك الصين المعاصر واتصال مسيرته الحضارية العظمى يكادون في بلادنا أن يحاصروا في دائرة التهميش إن لم يكن التغييب"، وعلى رأسهم الصحافي الأميركي "إدغار سنو" الذي اكتشف ثورة الصين عام 1936 على صفحات كتابه الرائع "النجم الأحمر فوق الصين"، والعالم البريطاني الموسوعي وأحد أعلام جامعة "كامبريدج"، جوزيف تيدهام، صاحب موسوعة "العالم والحضارة في الصين" .
ويتابع الباحث أن كبار الأساتذة الغربيين يلقون نفس المصير في بلادنا من التهميش أو التغييب، كما هو الحال مع أعمال المتخصص بالصين، المؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه، والمؤرخ الاميركي جون كنغ فيربانك، صاحب الكتاب المرجع "الصين: تاريخ جديد"، والرحالة القس الإيطالي ماثيو ريتشي(1552 ـ1610) عضو هيئة اليسوعيين في إيطاليا الذي قرر الذهاب إلي الصين عام 1583 ليحمل إليها معاني العلم الجديد والفكر المسيحي المستنير. وكانت رحلته من أكبر رحلات استكشاف الصين قبل ماركو بولو.
استقر الأب ريتشي في بلاط الإمبراطور الذي رحب به عالماً ومفكراً ومبشراً لدين يحترم حضارة الصين، بل وعينه مستشاراً علمياً له، واجتهد ماثيو ريتشي، لبناء قنوات التفاهم والشراكة بين تعاليم المسيحية الكاثوليكية وأفكار كونفوشيوس الملهمة لحضارة الصين، وهو المنهج الذي أطلق عليه فيما بعد منهج التثاقف ـ بعيداً عن التبشير والتعالي.
ويتذكر عبد الملك أنه في أول زيارة له إلى الصين و"على أبواب العاصمة رأيت عمودين على بداية مداخل العاصمة. الزميل المرافق أمر بتوقف السيارتين، وإذ بأشياء غريبة فوق العمودين. قال صديقي المرافق: إنها أدوات للرصد الفلكي جاء بها الصديق القس الإيطالي ماثيو ريتشي (1552 ـ 1610) عندما جاءنا في القرن السادس عشر. وقد أمر الرئيس ماو، ألا تمس هذه الأدوات أثناء الثورة الثقافية اعترافاً من الصين بما قدمه الصديق العالم الكبير لبلادنا".
ولهذا يرى عبد الملك أن الصين "ساحة فراغ أو لعلها مفرغة. سوف نصحو في يوم قريب ونتساءل أين كنا عندما تغير تاريخ العالم؟". فقد ذهب الرئيس عبد الناصر أيام الثورة إلى قمة دول عدم الانحياز في باندونغ عام 1955، يداً في يد مع شوان لاي رئيس وزراء الصين الأسبق و نهرو وسوكارنو . وراح التوجه الأفرو – اَسيوي إلى مهب الريح بعد حصار الثورة.
اليوم تؤكد مجلة "فورين أفيرز" الأميركية عبر الكاتبين الأميركيين كورت كامبل وروش دوشي ما تنبأ به عبد الملك حول مستقبل قوة الصين والتوجه شرقاً. فقد قارنا أداء أميركا "الفاشل" بأداء الصين تجاه الوباء، حيث قالا إن الأخيرة تحركت بسرعة لتستفيد من الثغرات التي صنعتها الأخطاء الأميركية وتملأ الفراغ وتضع نفسها في قيادة العالم لمواجهة كورونا.
وقالا إن صناع القرار في أميركا يجب أن يعوا أن واشنطن إذا لم ترتق لمستوى التحدي الراهن، فإن وباء كورونا سيسجل "لحظة سويس أخرى". ففي عام 1956 كشف تدخل فاشل في قناة السويس اضمحلال بريطانيا العظمى وسجل نهاية نفوذ المملكة المتحدة كقوة عالمية. وأشارا إلى أن النظم العالمية تميل إلى التغيّر التدريجي بداية الأمر، ثم تتغيّر بالكامل في لحظة واحدة.
يحاول عبد الملك أن يرسم لنا منهج دراسة الصين: المنهج بطبيعة الأمر يكون بالعودة إلى معطيات وثبة حضارة الصين في العالم المعاصر، من دون التعليقات التى تنهمر علينا من الغرب ومعظمها يتشكك ويتنمر و يهاجم ويرفض الاعتراف بإرهاصات صياغه العالم الجديد الذي سوف يمسك فيه الشرق الحضاري بمفاتيح المبادرة التاريخية حول دائرة اَسيا الشرقية وفي قلبها الصين.
وتابع: الصين في بلادنا تتبدى من خلال قنوات الإعلام الأميركي والغربي كقارة تكاد تكون هامشية تائهة أطلقت عليها دوائر المركز الغربي أيام هيمنتها منذ القرن السادس عشر لقب الشرق الأقصى ثم أضافوا أنها موجودة في ساخة الجنوب حيث يعيش ثمانون في المئة من البشر في عالمنا اليوم.
اليوم أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد فى العالم، وأكبر دولة من حيث الصناعة وحجم تجارة البضائع، واحتياطي العملات الأجنبية.
لم تعد الصين مجرد منتج أو مستهلك كبير للتكنولوجيا، ولم تعد أكبر متهم بالتجسس التكنولوجي في العالم كما كان الحال من قبل، ولكنها تتفوق الآن – ومنذ عام 2016 ــ على الولايات المتحدة نفسها فى البحث العلمي الأصيل، وفي العلوم النظرية الأساسية، وخاصة الفيزياء والرياضيات والهندسة. فطبقاً لدراسة شارك فيها البروفيسور الأميركي ريتشارد فريمان من جامعة هارفرد فإن الأكاديميين الصينيين أصدروا وحدهم في العامين الأخيرين أكثر من ثلث الإنتاج العالمي من البحوث العلمية في هذه التخصصات الثلاثة، من دون حساب ما نشره علماء صينيون يقيمون في الخارج، وما ينشره العلماء الصينيون داخل بلادهم نفسها.
وتقول هذه الدراسة إن البحث العلمىي في الصين يتحسن كيفاً، مع زيادته كما على نحو ما أشرنا، والمثال الأبرز هو أن 20 في المئة من المواد المنشورة في مجلتى "نيتشر" و"ساينس" في عام 2016 كانت لمؤلفين صينيين، والمجلتان هما من أكثر المطبوعات العلمية احتراماً في العالم.
ابتدع أنور عبد الملك مفهوم "فائض القيمة التاريخي"، أي أن الغرب ما كان ليصير غنياً على هذا النحو الصارخ لولا قرون خمسة من الغزو والإستعمار والنهب. ولهذا فإن هنالك ارتباطاً بين نجاة بعض أمم الشرق من السيطرة الغربية المباشرة في القرن 19 وبين نهضتها المشهودة في عالم اليوم.
عندما صدرت دراسة "صدام الحضارات" لصموئيل هنتغتون، سألت المفكر الفلسطيني أحمد صدقي الدجاني، لماذا لم يأخذ كتاب أنور عبد الملك "العالم يتغير" الصادر عام 1985 القيمة العلمية التي أخذها هنتغتون، فأجاب: أن عبد الملك عربي والعرب لا يعرفون كيفية إبراز علمائهم.
يقول الباحث المصري سمير مرقص أنه كان للدكتور أنور عبد الملك، حضور عالمي كبير، حيث كانت العديد من دول العالم وعلى رأسها الصين تستعين به وبأفكاره ورؤاه حيال القضايا المختلفة، وكان يُستقبل في الصين استقبال أهم الرؤساء.
ويذكر عبد الملك أنه في زيارته الأولى للصين فوجئ بوفد استقبال وسيارتين من الأكاديمية وسجاد أحمر وزهور، قال له مندوب الأكاديمية: يقول كونفوشيوس، أستاذنا الأول: إن الضيف الذي يحضر لزيارتنا من بعيد هو ضيف كريم.. كلمات فتحت طريقاً جديداً بعيدا ً عن الكتب.
أثناء زيارتي إلى القاهرة عام 1997 حرصت على زيارة عبد الملك في منزله، الذي يتوزع على جدرانه صور جمال عبد الناصر ومحمد علي باشا ورفاعة الطهطاوي وماو تسي تونغ وسون تزو وشهدي الشافعي. ويقول "هذه الشخصيات أدّت دوراً مهماً في تكويني….الطهطاوي ومحمد علي رائدا نهضة مصر، وجمال عبد الناصر بطل عظيم. كان لقائي به مثل لقاء ماو تسي تونغ قائد العصابات المسلحة، ثمّ شوان إنلاي".
أذكر يومها أنني سألت عن نصيحته بما يجب ان أطالع، فأجابني: هناك كتاب مهم صدر قبل أيام للدكتور جلال أمين بعنوان "ماذا حدث للمصريين"، أذهب وإشتره فسعره لا يذكر.
ويشير إلى أحد المقاعد في صالون منزله: "هنا جلس إدوارد سعيد... جاء إلى مصر ليزورني".