رؤية المفكر جمال حمدان لأهمية ليبيا الإستراتيجية
يعتقد حمدان أن البترول أعطى ليبيا وزنا اقتصادياً، فأصبحت تملك "فائض قوة" منحتها دينامية وطاقة متدفقة.
للأسف الشديد لم يحظَ كتاب "الجماهيرية العربية الليبية: دراسة فى الجغرافيا السياسية" للمفكر جمال حمدان بالإهتمام كما يجب عندما طبع أول مرة عام 1972. فهو السفر الأهم الذي يجب العودة إليه كلما دعت الحاجة، فقد تميز الكتاب بدراسة عميقة يكشف فيها أهمية ليبيا الإستراتيجية ويتطرق في فصل "تحليل القوة" إلى الأسباب التي تجعلنا ندرك أبعاد الدخول التركي الراهن إلى ليبيا.
الكناب يجسد ما تميز به حمدان من قدرات أطلق عليها الباحث المصري الدكتور سمير مرقص: "التأصيلية المستقبلية" تناول فيها في الباب الأول "المسألة الليبية" فى ضوء "علم الجغرافيا السياسية"، وقام بجهد مبدع بما أطلق عليه "تحليل القوة" الليبية فى الباب الثاني.
يبدأ حمدان كتابه بقوله: إن "الظاهرة الليبية" جديرة بأن تسترعي انتباه الباحثين والمفكرين مثلما فرضت نفسها على المواطن العربي والعالمي. فهذه الدولة التي تحولت من "صندق من الرمال" إلى "صندوق من الذهب" والتي حولتها "الثورة الليبية" من "فراغ قوة" أو شبه فراغ إلى دولة موجبة سياسياً تلعب دوراً طليعياً مرموقاً في الدائرة العربية.
ويطالب حمدان الباحثين والمفكرين بالتنظير للدور الليبي وتقنينه علمياُ وتأصيل إطاره الفكري. وكان يأمل بأن يكون كتابه هذا مساهمة في وضع حجر الأساس العلمي لدور ليبيا الجديد.
يشرح حمدان الجغرافيا السياسية بأنها ذلك الفرع من العلم الذى يحلل الجوهر الكامن والدفين فى كيان الدولة، ويمارس التشريح الموضوعى للجسم السياسي، من الجلد إلى العظم وحتى النخاع من دون أن يقنع بدراسة الظاهرات السطحية أو العابرة.
ويستطرد حمدان بتفسيره: إنها باختصار العلم الذي يضع الدولة ككائن حي في ميزان حساس كما هو دقيق وتحت مجهر موضوعي متجرد، ليقيس وزنها السياسي وموقعها في عالم السياسة ووقعها عليه محلياً وإقليمياً وعالمياً.
يكشف لنا حمدان أمراً مهماً عن رؤيته كعالم استراتيجي في "تحليل القوة" ويقول: إذا أردنا تعريفاً جامعاً مانعاً للجغرافيا السياسية، فهي في التحليل الأخير: "تحليل القوة" الهدف دائماً أن نصل إلى تقييم للقوة السياسية، للوزن السياسي للدولة بكل ما يعني هذا وما يفترض من تحليل لتركيبها وتكوينها وخصائصها ومعطياتها، طبيعياً وبشرياً.. باختصار كل ما يؤثر في قوتها ويساهم من ثقلها.
يؤكد حمدان أن ليبيا كدولة ظاهرة حديثة جداً في السياسة الدولية، وفي حكم ومقياس الجغرافيا السياسية هي دولة قديمة للغاية عمرها عشرون قرناً على الأقل.
ولكي نفهم اَبعاد الصراع الدولي والإقليمي على ليبيا والتدخل التركي الأخير فيها، من الضروري أن نستعرض رؤية حمدان لأهمية ليبيا والمردود الذي ستستفيد منه تركيا كدولة إقليمية عظمى أو كدولة تعتبر أحد أعمدة العالم الإسلامي إلى جانب مصر وإيران.
فمنذ عرف الإغريق القدماء الأرض التي ذكرها لنا "هيرودوت باسم ليبيا، والعالم مضطر إلى أن يفردها كوحدة جغرافية متميزة". فبين "كتلة جزيرة المغرب" غرباً، و"وادى النيل بمصر" شرقاً، وإلى "الجنوب من الحوض الأوسط للبحر المتوسط، تمتد مساحة شاسعة"، لا مفر من اعتبارها منطقة جغرافية قائمة بذاتها.
ويستطرد حمدان، فيقول: ثم هي فى الوقت نفسه وإن اشتركت معهما فى القطاع الأكبر من الصحراء، التى هى بحد ذاتها عامل فصل أولي، تختلف بقطاعها الفعال عن كل منهما اختلافات متفاوتة ولكنها أساسية، سواء فى البنية أو البيئة، الطبيعية والبشرية... ومن هذين العاملين: أولاً: مطلق الإمتداد المترامي؛ وثانياً: الاختلاف الطبيعي والبشري المطلق والنسبي؛... تستمد ليبيا قوتها؛ من الموقع والثروة الطبيعية والبشرية.
ويضيف: "ومن الناحية الأخرى فإنها كما تتألف فى الداخل من نطاق متوسطي وقطاع صحراوي، تقع بين البحر المتوسط ومن خلفه أوروبا شمالاً وبين الصحراء الكبرى ومن ورائها السودان الإفريقي وإفريقيا المدارية جنوباً".
ويصل حمدان إلي حقيقة مهمة وهي موقع ليبيا التي استطاعت أن تكتسب عبر التاريخ قيمة كبيرة؛ حيث تبين عملياً وفى أوقات الحروب - تحديداً - الأهمية الاستراتيجية لليبيا حيث يمكن أن يتم "تهديد شرايين مواصلات البحر المتوسط، كما يمكن منه الزحف يميناً إلى الشرق الأوسط ويساراً إلى شمال إفريقيا"... ومن ثم تعد ليبيا "قوة بينية صغيرة تقع بين قوتين قطبيتين" مصر من الشرق، والمغرب العربي من الغرب.
ويستطرد حمدان في أهمية ليبيا قائلاً: "هي لا تتوسط ساحل البحر المتوسط الجنوبي في مواجهة إيطاليا فحسب، لكنها كذلك تقع بين قوسي الاستعمار البريطاني في شمال شرق إفريقيا والفرنسي في شمالها الغربي. وهي بذلك خشبة قفز من القاعدة الأم، وموطئ قدم على اليابس الإفريقي، ورأس حربة داخل محيط الاستعمار القديم".
ويشير المفكر المصري إلى أنه في عهد الفاشية اتسعت أحلام إيطاليا إلى إمبراطورية عظيمة "أفريقية" أو "إسلامية"، تبدأ من تونس وليبيا فلا تنتهي إلا في الصومال واليمن، وبذلك يبتلع جسمها كل الاستعمار البريطاني في حوض النيل، سواء مصر والسودان، إلى جانب القرن الإفريقي، كما يرتكز هيكلها على البحرين المتوسط والأحمر.
ووفق هذا المنظور، يؤكد حمدان على أن ليبيا كانت بالنسبة لإيطاليا عتبة أو مفتاح الإمبراطورية المأمولة، لافتاً إلى أن ما حدث كان بمثابة استعمار استراتيجي في الدرجة الأولى، استعمار مواقع وقواعد عسكرية وموقعاً جغرافياً لا موضعاً عمرانياً.
لكنه يؤكد أن مشروع الإمبراطورية الإيطالية الخيالي كان يمت إلى منطق الماضي أكثر منه إلى حقائق الحاضر والعصر، إذ تبدد المشروع برمته بصورة ساخرة حقا أثناء الحرب الثانية، لكنه يستدرك أن "هذه التجربة أثبتت على الأقل قيمة ليبيا البالغة كموقع استراتيجي دقيق وكموقعة حربية هامة".
لا يمكن لنا الحديث عن ليبيا من دون الثنائية السياسية "ثنائية الشرق والغرب" أو كما عرف تاريخياً باسم برقة، في مقابل طرابلس، وهما الإقليمان اللذان بقيا على مر العصور يحملان خصوصية مختلفة تاريخياً. ويكشف حمدان أن الاقتسام مراراً وتكراراً بين أكثر من قوة خارجية ظل أحد أهم ملامح التاريخ الجيوبوليتيكي لليبيا، وأن هناك 7 أو 8 حالات على الأقل وقعت فيها برقة لقوة أجنبية، في حين خضعت طرابلس لقوة أخرى.
فالشرق الليبي هو المساحة الأكبر الآن والأقل سكاناً، وهو اليوم تحت إدارة المشير خليفة حفتر، فسكان الشرق وعاصمته بنغازي يمثلون حوالى ثلث سكان ليبيا وهو المجاور لمصر.
والغرب الليبي هو الأقل مساحة والأكثر سكاناً وعلى رأسها طرابلس، يخضع اليوم لإدارة حكومة فايز السراج. فالغرب وعاصمته طرابلس يعيش فيه ثلثا السكان وهو يجاور هنا تونس والجزائر.
القارئ للتاريخ يعرف أن نفس السيناريو حدث ما بين عامي 1945 و1950 وكادت برقة - أي شرق ليبيا - تعلن استقلالها وتتخذ من بنغازي عاصمة لها وأن تقوم دولة أخرى في الغرب عاصمتها طرابلس. وتلعب تركيا اليوم دور "المنقذ" لغرب ليبيا ممثلاً في إرسال قوات تركية إلى طرابلس.
ويعتقد حمدان أن البترول أعطى ليبيا وزنا اقتصادياً، فكانت ليبيا "فراغ قوة" تقريباً اشبه شيء بالمنخفض الحاد بين قوى ضخمة في المشرق والمغرب لكنها بالثورة بعد البترول أصبحت تملك ما يسمى جيوبولتيكياً "فائض قوة" منحتها دينامية وطاقة متدفقة فاضت بها خارج حدودها إلى اَفاق المسرح العربي بل أحياناً إلى أبعاد شبه عالمية.
ويبقى هنا أهمية أن ندرك أبعاد توقيع تركيا مع حكومة السراج فى طرابلس اتفاقية تعطي تركيا الحق فى الحصول على جزء من ثروة الغاز فى شرق البحر المتوسط
فليبيا لديها احتياطي نفط بلغ 41 مليار برميل، وتنتج، قبل إيقاف الضخ، 2 مليون برميل يومياً، وتعد سواحلها -حتى الآن- باحتياطي غاز لا يقل عن 2 تريليون أمام سواحلها الممتدة على ساحل المتوسط.
وتقول التقديرات إن عائداته النفط الليبي تصل إلى 180 مليار دولار سنوياً، إضافة إلى معلومات تقول إن أردوغان يسعى إلى تحويل ليبيا ورقة يهدد بها أوروبا بإغراقها بالمهاجرين غير الشرعيين، وكذلك إزعاج ومناكفة النظام المصري، رداً على ما فعله بضرب مشروع الإخوان المسلمين عام 2013.
يضاف لذلك احتياطي الصندوق السيادي الليبي يقدر بنحو 90 مليار دولار الذى يمكن أن ينتعش، في حال الاستقرار السياسي والأمني، إذا بدأت عوائد النفط واستكشاف الغاز الجديد تدر مداخيلها.
نشير إلى أن دار مدبولي أعادت طباعة كتاب "الجماهيرية العربية الليبية: دراسة فى الجغرافيا السياسية" ثانية عام 1996، بعد رحيل جمال حمدان بثلاث سنوات.