سومر شحادة وظلال الهجران الموحشة
"إني أتأمّلُ الحروب، أتساءل عن الصورة التذكارية التي ستؤخذ في نهاية الحرب السورية!"
ينحاز الكاتب السوري سومر شحادة(1989) عبر روايته الثانية" الهجران" الصادرة عن دار التنوير( 2019) لجانب تنسيق أدواته ومهاراته الفنية مجتمعة بحسّ إبداعي عالٍ، يتجه لحقن النص بمصل الجمال المطلق. الكاتب الحاصل على جائزة الطيب صالح 2016، يحيك أحداث الرواية ضمن فضاء مكانيّ بقي هادئاً بشكل نسبي خلال الحرب السورية، داخل مدينة اللاذقية على الساحل السوري، وضمن ظروف معيشية وضغوط اقتصادية ونفسية لم تكن أفضل من غيرها؛ يسرد الكاتب تفاصيل الأحوال التي راحت تشكّل الوعي لدى شبّاب المدينة في ظلّ حرب لا منطقيةٍ، وقناعات غير مسبوقة آخذة بالتبلور نحو نظرة تشاؤمية ترسم صور حياة لا تشبه الحياة.
"إني أتأمّلُ الحروب، أتساءل عن الصورة التذكارية التي ستؤخذ في نهاية الحرب السورية!".
انتزاع الصمت والعزلة:
وفي جوّ مشحونٍ بالاستبداد النفسي والمعيشيّ، يصير القبح نشيداً يومياً حيث ينتزع الكاتب من أصوات أبطاله مرارة قساواتٍ لا تنسى، ويظلّ ينوسُ حتى يرسم للقارئ أحوال موتٍ مشتهى أرخى بظلاله على وجه المدينة العتيقة، فيظهر مثل لاعب خفةٍ يتأرجح بمهارة على حبل خفي يصل بين فترتين زمنيتين متباعدتين من حياة المدينة؛ فترة الثمانينات التي أفضت إلى فترة أحداث الرواية الحالية.
ينشأ "زياد" بطل الرواية، شابّاً وطفلاً كبر على ذكرى أبٍ غائبٍ، ليعلم بعد وقتٍ طويل أنه توفي في السجن، حين خلقَ يتيماً لذلك الأب الذي تمت تصفيته مطلع ثمانينات القرن العشرين، إلى أن تتكشف القضية المحورية في الرواية، والتي تدور حول علاقة زياد بوالدته "عزيزة" الأرملة والعاشقة الهاربة من مدينة حلب كرمى لحبّ رجل يساريّ أحبّ القضية أكثر مما أحبّ ذاته! فيبقى "زياد" موصولاً إلى والدته بخيط شفيف يسم العلاقة بينهما بسمةٍ أوديبيةٍ بحتة، تكسبهُ مع مرور الزمن وعي الشباب، إلا أنه يخفي بداخله شخصية طفل خجول متردد، لا يفتأ يحبو نحو حضن والدةٍ لا ينغصّ أمانه سوى ظهور "جوري" الشابة الجميلة التي تضجّ حياة وأنوثة، والتي تعمل مع زياد في مكتب إعلاني وسط المدينة، فيمزق حضورها ثوب الوحدة التي خيمت على منزل أرخى عليه الصمت أسماله ورحل.
تبدأ العلاقة بين الشاب الخجول والفتاة الهاربة من عائلة مفككة توارب عن حقيقة انتحار أخيها الشاب "عبد الله" والذي دفعه الحب إلى الانخراط في الحياة العسكرية، فوقع في شرك أحداث الحرب، وخرج منها مريضاً عصابياً أنهى حياته بحزّ معصميه فجراً على ناصية شارع من شوارع المدينة.
معضلاتٌ شتى، تدفع أبطال الرواية للتساؤل، حول ما إذا كان الحب دافعاً لانتحار عبد الله؟ أم أن ما يحدث بين زياد وجوري هو حبّ أم محض وهم؟ وهل كان الحب دافعاً لزواج والدة زياد من أبيه ذي الميول النضالية اليسارية؟ أم أن حب والد زياد لقضيته إرث ثقيل على شاب لم يكن يريد أباً ثائراً بقدر ما كان يتمنى أن يحيا حياة هادئة وعادية؟
محنة المارد النرجسيّ:
بسلاسةٍ وهدوء، يتابع الكاتب سرد قصته عن الحرب، بعيداً عن ضجيجها، دون أن يُظهر جسدها، كما لو أنه يواريه خلف ستارة المسرح مثل موسيقى خلفية تحرك الأهواء والمشاعر، ليظهر عبرها "عادل" الفنان التشكيلي الكبير، القادم من عالم الغرب العملاق، والعائد مثل ابن بارّ بمدينته، متلهفاً ومشتاقاً لأمكنة غادرها بعد أن كان معارضاً ومناضلاً وشى بمجموعة رفاقه، وهرب خارج البلاد يبني لنفسه تاريخاً لا يشبهه، ويعطي لها صورة مارق أتخم غربة وهرب من مجزرة تنصل من تهمة اقترافها.
يقرر "عادل" دخول اللاذقية كمثل الأبطال العظام ذوي التاريخ العريق، فيهيئ لظهور لوحاته معرضاً يستقطب الأضواء والأسماء اللامعة، لتضعه الأحداث في منتصف المسافة تماماً، بين جوري وزياد. يأسره الجمال العشريني النضر وتفترسه نظرات الشباب الجامح في وجهها، في حين تقع الفتاة في هوة الامتياز والتقرب من المارد، مسيّرةً برغبة الشبق الذي يغذيه خجل زياد وتردده وهجرانه.
تبدو "جوري" مثل بطل محوري، وسط علاقة ثلاثية مريعة (هجر، فقد، غيرة). تشيح بوجهها عن آثار حادثة انتحار أخيها، وتهرب من أصوات عائلتها الصاخبة إلى سرير عادل، الذي يرى فيها تعويضاً عن غربته وخسرانه زوجته، حتى يقع بينهما الفشل في السرير، الأمر الذي يدفع الرجل الستينيّ إلى المواربة عن ضعفه ذاك كمثل أفعوان سامّ، لإشعال الغيرة في قلبها، حتى تسقط الشابة فريسة ندمٍ وحيرة يجعلانها تشعر بالوحدة وفقدان الذات التي شوهها خواء فنان فارغ ومتملق، باع رفاقه بصفقة رخيصة، في حين ينكص زياد إلى حضن والدته ويعود إلى حياة الكآبة والعزلة، فنراه يبتعد عن جوري التي سبق أن هربت من صورة تعلقه بوالدةٍ شكّلت شخصية ابنها على صورتها، حتى بات أمر انفصالهما أمراً بعيد المحال.
نهاية متداخلة:
تتداخل الأحداث وتحتدم فتنحو منحى انعدام الانحياز للقبح، إلى الاتجاه لصالح شباب تشظى بفعل الحرب، حيث ينهي الكاتب روايته بمشهد وفاة الأم الصامت، مع مشهد مقتل الأب وتصفيته، برغم امتداد خط زمني طويل بين الحادثتين، إلى أن يبقى ومن مثله، من شباب المدينة؛ زياد، جوري وعبد الله ، كمثل عينات أو صور لدمى تآلفت مع انكسارات متعاقبة تتقاذفها حبال الفقد، وحبال الحرب والهجران!
غنوة فضة كاتبة سوريّة.