"أرض جوفاء" .. دور الهندسة المعمارية الإسرائيلية في قمع الفلسطينيين
حض اَرييل شارون المستوطنين بعد عودته من مفاوضات واي بلاتيشن في تشرين الأول/ اكتوبر 1998 على انتزاع ما يستطيعون من التلال، "لأن كل ما نأخذه الاَن سيبقى لنا، وكل ما نتركه سيذهب لهم".
نجح المهندس المعماري إيال وايزمان، مدير مركز الأبحاث المعمارية في جامعة غولد سميث (لندن)، في كتابه "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي" الصادرة ترجمته في بيروت عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر ومدارات للأبحاث والنشر ، في شرح الدور الخطير الذي تلعبه الهندسة المعمارية في قمع الفلسطينيين وفرض سياسة الاحتلال الإسرائيلي.
ويعتبر هذا الكتاب، بمثاية إخبار أو تحقيق عن "الجناية المعمارية" التي يرتكبها الاحتلال وكيف يوظفها كسلاح سياسي وعسكري وأمني.
يقارن وايزمان بين طب التحقيقات الجنائية، وبين "معمارية التحقيقات الجنائية"، ويقول: "إننا نشبه (أطباء التحقيقات الجنائية)، لكننا لا ندرس جثث الضحايا بل المباني المتهدمة والتضاريس الأرضية المدمرة".
وقد سبق لوايزمان أن رصد هجوم قوات الاحتلال على غزة عام 2014 والتي أطلق عليها عملية اسم "الجرف الصامد"، والتي أدت إلى استشهاد عدد من المدنيين وتهديم بيوتهم. ووضع الباحث الشهادات بالصور و الفيديو التي عرضها الشهود على شبكات التواصل الاجتماعي لتكوين لوحة كاملة عن تفاصيل هجوم جيش الاحتلال، والذي سجله في فيديو كامل.
يبدأ وايزمان كتابه بقوله: بأنه بعد اتفاق أوسلو عام 1993 أصبح الحصول على تراخيص رسمية لبناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية أكثر صعوبة، مما حدا بالمستوطنين إلى اللجوء إلى التزوير عبر طرق معقدة، بهدف الحصول على مساعدة حكومة الاحتلال التي كانت تبدي حرصها، بشكل غير رسمي على تمكين المستوطنين، لكنها تخشى من انكشاف دورها في الالتفاف على قوانينها الخاصة والتزاماتها أمام المجتمع الدولي.
تستحق قضية مستوطنة "ميغرون" كل العرض السردي التاريخي الذي قدمه وايزمان عنها. فطرق الخداع والتزويز والتلفيق التي اتبعها المستوطنون لاغتصاب أرضها التي يملكها مزارعون فلسطينيون من قريتي عين بيرود وبرقة تستحق لوحدها كتاباً يوثق لنا ماذا حدث؟ فقد أصبحت اليوم أكبر مستوطنة بين 131 مستوطنة على امتداد الضفة الغربية. بعدما فشلت عدة محاولات لتكون مشروع استيطان.
عام 1999، عندما استجابت شركة أورنج لخدمة الهواتف المحمولة، لشكوى بعض المستوطنين إلى جيش الاحتلال يشتكون فيها من مشكلة الإرسال السيء في هواتفهم المحمولة خلال مرور سياراتهم حول المنعطف على الطريق السريع الذي يربط بين القدس والمستوطنات في شمالي الضفة الغربية.
وأنشأت شركة أورنج عامود هوائي في التلة المشرفة على المنعطف المقصود، لتكون موقعاً محتملاً لتنصيب سارية الهواء لاستقبال الإشارة في هذه المنطقة.
لم تنته القصة هنا فحسب، بل ارتأت قوات الاحتلال أن إقامة عامود هوائي للتغطية الخليوية مسألة أمن، ويمكن من ثم تعهدها على أرض خاصة من دون الحصول على موافقة ملاكها. واستجابت سلطات الاحتلال لطلب تقدمت به شركة أورنج، فربطت شركة كهرباء الاحتلال التلة بشبكة التغذية الكهربائية، كما ربطتها شركة المياه بنظام التروية المائي بذريعة دعم عملية بناء عامود هوائي للتغطية.
في عام 2001 نصب المستوطنون برجاً هوائياً مزيفاً بسبب التأخير في تنصيب برج هوائي كبير للإرسال، مع حيازتهم إذناً من جيش الاحتلال لتعيين حارس خاص للموقع على مدار الساعة. بداية أقام الحارس في عربة مقطورة، ووضع سياجاً حول أعلى التلة، ثم سرعان ما انتقلت عائلته للإقامة معه، وقد أمدوا عربتهم/ منزلهم بالماء والكهرباء اللذين جرى توصيلهما مسبقاً. وفي عام 2003 انضمت إليهم خمس عائلات وأصبحت بؤرة ميغرون كياناً رسمياً. وتنامى هذا الكيان بسرعة، وبنت في وزارة الإسكان حضانة للأطفال بحجة وجود عائلات، كما وصلت تبرعات لبناء كنيس.
في عام 2018 وفي بداية تشرين الثاني/نوفمبر، وضع وزير إسكان الاحتلال يؤاف غالانت حجر الأساس لمستوطنة ميغرون بعد ترخيصها بموجب قوانين الاحتلال. وأعلن غالانت أن "وضع حجر الأساس يعني أن أراضي يهودا والسامرة غير قابلة للتفاوض، وأنها ليست موضوعًا للبيع، إلى جانب الحاجة الأمنية الداخلية والخارجية. وزعم أن بناء هذه المستوطنة هو رسالة مهمة لكل شخص يعتقد أن من الممكن اقتلاع الاستيطان من الضفة الغربية بل هو سيتضاعف وينتشر و"لن تؤدي محاولات الإجلاء إلا إلى قوة وتوسيع الاستيطان".
ورغم تأكيد وايزمان أن عينات التنقيب في أعلى التلة أظهرت أن الاَثار المتبقية هي لقرية بيزنطية صغيرة، يزعم المستوطنون أنها ركام أثري يخفي تحته البلدة التوراتية ميغرون. ولهذا اعتبر وزير زراعة الاحتلال أوري أرييل أن "ميغرون هي جوهر الصهيونية".
يؤكد وايزمان بأن المستوطنات مثل ميغرون ليست مجرد بؤرة في نطاق محيط عامود هوائي. فالطاقة فيها ليست إلكترومغناطيسية وحسب، بل سياسية أيضاً، تتكئ عليها القوى السياسية كمرتكز لمختلف ضروب عمليات التعبئة والتوجيه والتنظيم. وإلا ما معنى زعم غالانت أن مخاطر أمنية جديدة تطرأ على الكيان من جهة الشرق عبر نهر الأردن واعداً بإتمام البناء خلال عام، واتهامه إيران بأنها تحاول تقويض النظام في الأردن لبناء خط مواجهة جديد عبر النهر وتحويل المملكة الهاشمية إلى ولاية شيعية على حد زعمه.
يرى وايزمان أن منطق الإتصالات الخليوية يتوافق على نحو غريب مع طريقة الإستيطان التي يقوم عليه الاحتلال في الضفة الغربية، حيث يتمدد الإثنان في المناطق بواسطة إنشاء شبكات تستقر قواعدها على أرض مرتفعة في محاذاة خطوط الرؤية أو خطوط الإشعاع.
فالشبكات الخليوية تؤدي دوراً داعماً للعمل العسكري حيث يستخدمها جيش الاحتلال لإجراء اتصالاته الخاص، وتساعده في إمكانية استبدال أجهزة البث العسكرية الضخمة بتجهيزات أصغر حجماً قادرة على تحديد مواقع وإرسال صور ميدانية من الجنود إلى وحداتهم.
وأما الإرتفاع الملحوظ في بناء بؤر إستيطانية فهو يشكل مؤشراً على ريبة المستوطنين وقياداتهم من تسويات سياسية وشيكة، والغاية منها تقويض فرص التقدم في العملية السياسية وحيازة أراض للمستوطنين قدر المستطاع في حال وجود انسحابات جزئية. وهذا دائماً ما يحض عليه قادة الاحتلال، وبالأخص أحد "ملوكهم" اَرييل شارون قبل موته، الذي طلب من المستوطنين بعد عودته من مفاوضات مع السلطة الفلسطينية وإدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون في واي بلاتيشن في تشرين الأول/ اكتوبر 1998 أن "تحركوا واهرعوا إلى انتزاع ما تستطيعون من التلال، لأن كل ما نأخذه الاَن سيبقى لنا، وكل ما نتركه سيذهب لهم".
ويشير وايزمان إلى حقيقة وهي أن عدداً من المستوطنات كان قد أقيم بهدف خلق معضلة جغرافية تستعصي على الحل. ويؤكد هنا أن خلق هذه المعضلة يدعم واحدة من أهم استراتيجيات البلبلة عند الاحتلال: تعزيز التعقيد لغوياً وجغرافياً وقانونياً. ويشار إلى هذه الإستراتيجية علناً في أحايين كثيرة بـ"التعمية الإنشائية"، وفقاً للغة الإستراتيجية التي أبدعها هنري كيسنجر، وتسعى هذه الإستراتيجية إلى تشويش حقائق الهيمنة وتطبيعها في اَن معاً.
إيال وايزمان هو باحث ومعماري إسرائيلي - بريطاني. يشغل موقع أستاذ الثقافات المكانية والمرئية في غولدسميث، جامعة لندن، ويدير مركز أبحاث الهندسة المعمارية ومشروع الهندسة المعمارية للطب الشرعي. كما أنه عضو مؤسس في جمعية دار للتخطيط المعماري والفني في بيت لحم، فلسطين.
بين عامي 2014 و2017 كان باحثاً عالمياً في جامعة برينستون. وهو مؤلف للعديد من الكتب منها: «على الأقل كل الشرور المحتملة: العنف الإنساني من أرندت إلى غزة» (2011)؛ «هندسة الطب الشرعي: ملاحظات من الحقول والمنتديات» (2012)؛ «خط الصراع: الاستعمار كتغير المناخ في صحراء النقب» (2015). ويعيش في لندن.