ممالك الطاقة
على غرار السياسات الإيرانية، بدأ السعوديون برنامجاً لتعويض الفقراء بشكل نقدي. نجح التعويض النقدي إضافة إلى الضغط المتزايد في إبعاد الناس عن الاحتجاج في الشوارع.
يحلل الدكتور جيم كرين في كتابه "ممالك الطاقة" الأسباب الكامنة وراء سياسات الطاقة المحلية في دول الخليج ومشكلة الاستهلاك الداخلي والتي نجمت عن تلك السياسات وكيفية تعامل الأنظمة الموجودة هناك معها بطريقة تخالف النظرية السياسية للدول الريعية. ويركز بشكل محدد على ست دول في الخليج هي: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر والبحرين وعمان. واستبعد بشكل مقصود إيران والعراق بسبب الاختلافات في نوع النظام والتطور التاريخي الذي يشغل حيزاً مهماً في السرد.
يبدأ كرين كتابه بتحليل فترة ما قبل النفط ويستنتج أن المنطقة عانت من استعمار يختلف عن المناطق الأخرى حيث لم تبدِ القوى الاستعمارية رغبة بإرسال مواطنيها إلى هذا الجزء المعزول والقاسي من العالم. وبدلاً من استعمار المنطقة بشكل تقليدي أسهمت في تركيز السلطة في أيادي الأسر القبلية الحاكمة والحصول على المكتسبات منها فيما بعد. وحرضت هؤلاء القادة على ترسيم الحدود لسهولة السيطرة.
يستغرب الكاتب من استمرارية الأسر الحاكمة بالرغم من التغيرات السياسية السريعة في بقية دول العالم. ويقارن الكاتب هذه المفارقة مع مقارنة لإمكانية احتفاظ قبائل الهنود الحمر في أميركا الشمالية بالسلطة بالرغم من الهجرة الجماعية والغزو. يشرح كرين هذه الظاهرة عبر نظرية "الدولة الريعية" rentier states، والتي تقول إن الدول الريعية تقايض منافع الرفاهية في مقابل الدعم السياسي عبر اتفاق اجتماعي غير مكتوب بين الدولة والمجتمع. ويكون الهدف من ذلك تفادي جمع الضرائب والذي يعتبر رابط المساءلة بين الحكومة والشعب في النظم الديموقراطية.
ومن المثير للاهتمام نجاح تلك النظام بالرغم من العديد من العواصف السياسية التي اجتاحت المنطقة مثل القومية العربية والتحديث والعولمة وحتى التطرف العنيف. ويرى أن الممالك الخليجية نجحت في البقاء على قيد الحياة بفعل شرائها للولاء من شعوبها. وعندما وصل النفط أصبح هو المصدر الرئيسي للريع (الإيجار). مكنت الطفرة النقدية في عام 1973 تلك الممالك من رفع عائداتها مباشرة مما سمح لها بالتحليق الفوري. فككت المملكة العربية السعودية بيروقراطية الضريبة وتوقفت عن جمع مساهمات الضمان الاجتماعي وبدأت الممالك بدعم خدمات الطاقة مثل الكهرباء والماء والوقود اللازم للنقل. كانت الدولة تمول الموازنة الوطنية عبر تصدير النفط بدلاً من الضرائب.
ولكن الصورة لم تعد وردية بالنسبة للحكام. إذ تشير النظرية إلى مشكلة أساسية: عندما تتأسس المؤسسات في الدول الريعية يصعب تغييرها. فالجيل الأول الذي خبر العطايا المجانية سيكون ممتناً لها، ولكن الجيل التالي سيدعي أنها حق من حقوقه. ستبدو الصفقة مقدسة متى توطدت المؤسسات وسيتحول الدعم مع مرور الوقت من هدية من الحاكم إلى حق سياسي للمواطن.
إذاً ما الذي سيحدث إذا اضطر النظام في الدولة الريعية إلى انتزاع تلك الحقوق؟
يربط علماء السياسة إزالة الدعم برفع كبير للضرائب في النظام الديموقراطي. ومن دون الشرعية الديموقراطية يعتمد بقاء الأنظمة على حماية شبكة الولاء. وبما أن خدمات الرفاه الاجتماعي هي الجزء الأكثر أهمية من الشرعية السياسية فإن التخفيضات في الخدمات ستجلب الاضطراب السياسي وربما انهيار الدولة.
يجيب هذا الكتاب على سؤال ما إذا كان هذا الافتراض حقيقة أم لا.
ظهر التأثير الأكبر لدعم الطاقة في تلك الملكيات في نمط استهلاك الطاقة. ويشير إلى توجه ينذر بالخطر يتمثل في فرط استهلاك الطاقة في المنطقة. إذ تستهلك ممالك الخليج الآن نفطاً أكثر من اليابان والهند وروسيا أو أكثر من استهلاك قارة أفريقيا بكاملها. يلعب الدخل والسكان والتقانة والمناخ والسعر دوراً كبيراً في ارتفاع استهلاك المنطقة ولكن سلوك المستهلك هو العامل الأهم في هذه الحالة. ويندفع سلوك المستهلك بفعل سعر الطاقة بشكل أساسي. يتحكم السعر بقرار المستهلك حول كمية الكهرباء والوقود والمياه التي يستخدمها. يشكل استهلاك الكهرباء والمياه (المحلاة نظراً لعدم توفر الأنهار الطبيعية في تلك المنطقة) 70% من مجمل استهلاك النفط في تلك المنطقة. كما أن الأسعار المخفضة لا تحفز المستهلك للبحث عن المنتجات الموفرة للطاقة أو استبدال الأنظمة منخفضة الفعالية مثل مكيفات الهواء القديمة.
وبالنسبة لملكيات الخليج يكون للدعم والاستهلاك أثر مضاعف إذ يظهر في العائدات والتكاليف. تقول الحقيقة الحسابية إن كل ما تنفقه الملكيات على الاستهلاك المحلي يأتي من الصادرات. ارتفع معدل نسبة النفط المستخرج والمستهلك محلياً من 8% في الستينات إلى 24% بعد عام 2010. ومن الأمثلة الصارخة أن السعودية تستهلك 30% من النفط الذي تنتجه في الاستهلاك المحلي "وإذا لم تغير المملكة من نمط استهلاكها وتابعت هذا النمو في الاستهلاك بنفس المعدل فإنها ستستهلك كل إنتاجها من النفط مع حلول عام 2035. أي إنها ستبتلع ذاتها".
ولا يختلف الغاز الطبيعي عن ذلك. وبالرغم من وفرة الغاز في المنطقة تستورد كافة الملكيات باستثناء قطر الغاز. وتصبح المشكلة أسوأ عندما يصبح الغاز المصاحب لإنتاج النفط قليلاً ويأتي استخراج الغاز المنفصل بكلفة باهظة. ولذلك شكّل الدعم الحكومي لمنتجات الطاقة حملاً ثقيلاً على الاقتصاد الوطني يرتفع يوماً إثر يوم مع مرور الوقت. وصل الدعم في عام 2014 إلى 9.5% من إجمالي الناتج القومي في السعودية و4.4% في الإمارات و5% في الكويت و9% في عمان.
دفعت التكاليف المتصاعدة للدعم الحكومي إضافة إلى تكاليف فرص العوائد الضائعة بالحكام إلى التغيير. كان أول من قام بالتغيير في المنطقة إيران ودبي. تمثلت خطة إيران في تسعير متراتب مع إيداعات نقدية بدلاً من الدعم الحكومي تلاه رفع أسعار الكهرباء والمشتقات البترولية. أدت تلك الخطوات إلى تخفيض عبء الدعم بمقدار النصف وتخفيض 10% في استهلاك الطاقة. استخدمت الزيادة في الأسعار لاحقاً لمحاربة آثار التضخم. ونتيجة لذلك انخفض عبء دعم الطاقة في إيران من 25% من إجمالي الناتج القومي إلى 4% في عام 2016. جاءت محاولة دبي الأولى لرفع الأسعار في عام 2010 ولكنها ألغيت بسرعة إبان بداية "الربيع العربي". ثم تلا ذلك رفع للأسعار بنسبة 15%.
أجرى المؤلف استطلاعاً للرأي في عام 2011 بعد النجاح الأولي لدبي وإيران في رفع الأسعار وأظهرت النتائج أن 42% فقط من السكان في ملكيات الخليج اعتقدوا باستحقاقهم للطاقة والمياه المجانية. وبعكس ما اعتقد المنظرون السياسيون أظهر السكان استعداداً لدعم معايير التقشف إذا تم توزيعها بشكل عادل وفهموا أسبابها.
بدأت الإصلاحات في السعودية بعد صعود ولي العهد محمد بن سلمان في يوليو / تموز 2017.
كان السعوديون في منتهى الحذر حيال زيادة الأسعار وحاولوا استثناء الفقراء طالما حافظوا على استهلاك منخفض وأقال الملك سلمان وزير المياه والكهرباء عندما اقترح أن يحفر السكان "آباراً" في رد على التبرم الشعبي. قام السعوديون برفع الأسعار بنسبة 260% بالنسبة للكهرباء وبدأوا بيع الوقود بأسعار تقارب الأسعار في الولايات المتحدة.
وعلى غرار السياسات الإيرانية، بدأ السعوديون برنامجاً لتعويض الفقراء بشكل نقدي. نجح التعويض النقدي إضافة إلى الضغط المتزايد في إبعاد الناس عن الاحتجاج في الشوارع. لعب التعريف بالقوانين والسياسات العامة ونشرها على نطاق واسع بالموارد المهدورة ونقاشات المصلحة القومية دوراً مهماً في إقناع الشعب السعودي. غيّر رفع الأسعار من سلوك المستهلك وانخفض استهلاك الكهرباء بشكل فعلي. تماثل تجربة قطر والبحرين وعُمان والإمارات العربية المتحدة والكويت التجربة السعودية مع بعض التحوير. والمفاجئ في الأمر وبعكس ما توقعت نظرية الدولة الريعية لم يحدث في أي من تلك الدول احتجاجاً مدوياً عندما رُفع الدعم الحكومي عن قطاع الطاقة. رُفعت الأسعار من دون أي منافع بديلة.
ولد مزيج من الاستهلاك المتزايد والحقائق المالية والضغوط الخارجية وتغير الزعامة وتهديد الفوضى في المنطقة بفعل "الربيع العربي" أدلة تجريبية تعارض نظرية الدولة الريعية. ثمن المواطنون في تلك الدول الأمن والتقدم على الاستحقاق. أسفر التخلص من الدعم الذي لم يعد ممكناً عن تقوية وتدعيم الأنظمة السياسية بدلاً من تهديدها.
يقع كتاب "ممالك الطاقة" على نقطة تقاطع النظرية السياسية والتاريخ والاقتصاد في منطقة الخليج مع منظور الاستهلاك الداخلي. تنعكس تجربة المؤلف في الكتاب عبر أبحاثه الدقيقة وتمكن من دعم ادعاءاته بأدلة تجريبية.
صدر الكتاب عن دار نشر جامعة كولومبيا فب كانون الثاني / يناير 2019 ويقع في 224 صفحة.
المصدر: behorizon - ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو