"كوبا الحلم الغامض"... ودور غيفارا
اقترح غيفارا على بن بيلا أن تصبح الجزائر محطة لتزويد الحركات الثورية الأميركية اللاتينية بالأسلحة، دفعاً لعيون واشنطن التى هي قريبة من كوبا، وكان رد بن بيلا الموافقة الفورية والإيجابية.
يبدأ الدكتور عبد الحسين شعبان تقديم كتابه "كوبا الحلم الغامض"، بقوله: "حاولت من خلال انطباعاتي الشخصية، الجمع بين ما هو فكري وما هو عملي، وبين ما هو سياسي وما هو ثقافي، وبين ما هو كوبـي وما هو أميركي لاتيني، وبالقدر نفسه مع ما هو اشتراكي وإنساني. ولم أتوقف عند الصورة النمطية (التبشيرية)، بل سعيت لنقد التجربة من داخلها.
ويقارن شعبان في كتابه الصادر عن "دار الفارابي" في بيروت، بين غيفارا ورامبو ودون كيشوت، بين شبح ماركس أو أسطورته وبين شبح غيفارا وأسطورته، وتوقف المؤلف عند علاقة غيفارا بعبد الناصر وأحمد بن بيلا والمهدي بن بركة.
ويتحدث الكاتب عن الحياة الثقافية الكوبية من خلال الروائي الأميركي إرنست همنغواي وحانة بودغيتا دل ميديو، ويستذكر ما بين الشاعر محمد علي الجواهري وهمنغواي، ثم يتوقف عند علاقة كاسترو بأبـي عمار وجورج حبش.
و يتوقف شعبان عند انهيار أنظمة أوروبا الشرقية وهواجس عدن "عاصمة اليمن الجنوبية سابقاً". ويعرّج على علاقة الثقافة بالسياسة المعادلة القاسية، من خلال إظهار العلاقة المتميزة لكاسترو بغابريل غارسيا ماركيز.
ويفرد الكاتب فقرة خاصة لعلاقة الثورة الكوبية بالدين عنوانها "ملكوت السماء وملكوت الأرض" و"الاشتراكية والإيمان الديني" و"الروح والمادة: حوار المتدينين مع الماركسيين" و"الثورة والكنيسة" و"كاسترو والدين".
وعن إعجابه بالتجربة الكوبية يقول المؤلف: "هتفت مع كريستوفر كولومبوس: يا الله ما أجمل هذه الأرض".
لقد قاد غيفارا ثوار جبال السيرامايسترا في الهجوم على القطار الذي كان ينقل عتاداً حربياً للدكتاتور في هافانا، فاعترضه الأنصار المسلحون في مدينة سانتا كلارا (حيث يوجد نصب ومتحف ومقبرة لغيفارا ورفاقه)، وقد استسلم جنود الحكومة الكوبية، وشاع خبرهم، وأضطر يومذاك رئيس كوبا باتيستا للفرار إلى الولايات المتحدة، وحدثت المفاجأة حين امتنعت سلطاتها عن استقبال طائرته فاتجه إلى الدومينيكان الذي كان يحكمها صديقه الدكتاتور نوهيو.
انجذب غيفارا لثورة جمال عبد الناصر منذ أن كان مع صديقه كاسترو في المكسيك. ويومها نظم أيبات شعر أسماها نشيد النيل عام 1956 على إثر العدوان الثلاثي.
كانت القاهرة أولى محطات غيفارا عام 1959 إلى أفريقيا، حيث بقي فيها لمدة أسبوعين، بعد ان عيّنه كاسترو "سفيراً مطلق الصلاحيات" في أوائل العام ذاته لشرح أهداف الثورة الكوبية.
ويعتبر شعبان أن اختيار القاهرة له أكثر من دلالة منها أن زعيمها عبد الناصر بطل حرب السويس والصامد بوجه العدوان الإسرائيلي، واتخاذه مسارات جديدة أكثر راديكالية وثورية بعد ثورة تموز / يوليو 1952، وأن مصر قلب العروبة وأكبر بلد عربي وهي مصدر إلهام لحركات التحرر العربية، وأنها تشكّل قاعدة لدول عدم الانحياز، ومركز ملهم للثوار الأفارقة.
ويضيف شعبان أن غيفارا أراد دراسة التجربة المصرية لاسيما الصناعية منها والزراعية، وبخاصة الإصلاح الزراعي وتجربة سد أسوان بهدف استفادة الكوبيين من خبرة مصر في هذه الميادين.
وخلال حضوره مناورات عسكرية مصرية في البحر الأبيض المتوسط، سأل غيفارا الرئيس عبد الناصر : كم عدد الأشخاص الذين اضطروا للهرب من البلاد بسبب الإصلاحات الزراعية؟ فأجابه عبد الناصر: إنهم قلة، فرد غيفارا وقد غلبه الشك: "هذا يعني أن الثورة لم تحدث تغييراً مهماً في مجال الإصلاح الزراعي، إني أقيس عمق التغييرات الإجتماعية بعدد الأشخاص الذين تنالهم هذه الإصلاحات".
وخلال زيارته للقاهرة حصل عدوان إسرائيلي على غزة التي كانت تحت الإدارة المصرية فلم يتوانَ عن القيام بزيارته يوم 18 حزيران/ يونيو 1959 ويتجول في المخيمات.
ويؤكد محمد حسنين هيكل أن عبد الناصر كان معجباً بغيفارا وارتبط معه بعلاقة حميمة. وكان الأخير كذلك شديد الأعجاب بقيادة عبد الناصر التي بإمكانها الإنخراط في جبهة البلدان المتحررة من الاستعمار.
وعن علاقة غيفارا بالجزائر، يقول الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بيلا: "تعرفت على غيفارا إبّان الأزمة الدولية خريف 1962، نتيجة قضية الصواريخ وكذا حصار كوبا الذى أعلنت عنه أميركا.. اقتضى الأمر أن أتوجه إلى نيويورك فى أيلول/ سبتمبر 1962 لأحضر دورة الأمم المتحدة، وأرفع العلم الجزائري فوق هذه المؤسسة".
ومن نيويورك سافر بن بيلا إلى كوبا يوم 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1962 رافضاً تحذير الرئيس الأميركي جون كينيدي له فى لقائهما يوم 15 تشرين الأول/ أكتوبر.
يتذكر بن بيلا: "وصلنا كوبا يوم 16تشرين الأول/ أكتوبر، استقبلنا بابتهاج شعبي فائق الوصف، وبناء على البرنامج، يفترض أن تجري المباحثات السياسية داخل مقر الحزب في هافانا، لكن الأمور جرت بطريقة مختلفة كلياً، فما أن وضعنا حقائبنا فى المكان المخصص لإقامتنا حتى كسرنا البروتوكول، وانساب حوار مفتوح بين فيدل، غيفارا، راؤول كاسترو، والمسؤولين الذين كانوا برفقتي.. دام اللقاء ساعات وساعات".
ويروي الكتاب أن غيفارا زار الجزائر ثلاث مرات: الأولى بمناسبة الذكرى الأولى للاستقلال في تموز / يوليو 1963، ومكث فيها نحو 3 أسابيع، وأبدى إعجابة بقدرة الشعب الجزائري وبطولته في طرد المستعمرين الفرنسيين.
والثانية كانت بعد زيارته لنيويورك بعد أن القى خطاباً باسم كوبا في الأمم المتحدة في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1964.
والثالثة في كانون الأول / يناير عام 1965، وقد بقي فيها ثلاثة أشهر وشارك في ندوة للتضامن الإفريقي الأسيوي، خلال الفترة الممتدة ما بين 22 و27 شباط / فبراير 1965 في الجزائر العاصمة. وقد ألقى في تلك الندوة خطاباً باسم الوفد الكوبي، وهو الخطاب الذي اعتبر محطة فاصلة وسيعرف في الأدب السياسي بـ"الخطاب التاريخي"، إذ الأول ينتقد فيها غيفارا الاتحاد السوفياتي، تلميحاً، خاصة بعد عودته من زيارة إلى الاتحاد السوفياتي، ولقائه بالرئيس بريجينيف، وعدم اقتناعه بجوابه، بخصوص ضرورة منح السلاح مجاناً إلى ثوار العالم، من أجل محاربة "الإمبريالية".
شكّل "الخطاب التاريخي" اَخر ظهور علني لغيفارا ومفصلاً مهماً في مستقبله السياسي. وقد جرى بعد عودته من الجزائر والقاهرة في 14 آذار / مارس 1965، اجتماع مغلق مع كاسترو لم يعرف ما جرى فيه حتى الاَن.
يعتبر شعبان أن غضب الاتحاد السوفياتي إثر "الخطاب التاريخي" قد يكون وراء ضغوطه ضد كاسترو، ولم يكن غيفارا يريد أن يحرج صديقه مثلما كان حريصاً على الثورة الكوبية.
يقول شعبان: "سواء حصل اتفاق بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بقناعة تامة أو بنصف قناعة، أو تحت الأمر الواقع، فقد تقرر أن يخوض غيفارا في المهمة العسكرية – الأممية خارج حدود كوبا، وبدعم منها وهو ما أراد، وأن تستمر الدولة وإدارتها وعلاقاتها الدولية، طبقاً لتوازن القوى السائد أنذاك، ولاسيما العلاقة الكوبية – السوفياتية.
وفي هذه الزيارة الأخيرة للجزائر اقترح غيفارا على بن بيلا أن تصبح الجزائر محطة لتزويد الحركات الثورية الأميركية اللاتينية بالأسلحة، دفعاً لعيون واشنطن التي هي قريبة من كوبا، وكان رد بن بيلا الموافقة الفورية والإيجابية، بل والأكثر من ذلك تحضير التجهيزات اللازمة لذلك، وحدد مركز القيادة فيلا كبيرة فى مرتفعات العاصمة تدعى فيلا "سوزيني".
ويروي بن بيلا أن "هذه الفيلا كانت مخصصة للتعذيب ومركّزاً للفرنسيين أيام الاحتلال، ومات داخلها مجموعة من المناضلين والمناضلات، وإذ بها تتحول إلى مركز يستضيف الحركات الثورية لأميركا اللاتينية تحت الإشراف المباشر لغيفارا، وشكلّت عدة شركات للاستيراد والتصدير بهدف التمويه".
انتقل غيفارا بعد "الخطاب التاريخي"يجوب أرض الله الواسعة ليبشّر بالثورة ويحرض على المستعمرين وكانت مهمته الأولى في أفريقيا، ومن الكونغو تحديداً.
وعن سبب ذهاب غيفارا إلى أفريقيا يقول بن بيلا: "كان يعتبر أن الحلقة الأضعف للإمبريالية توجد في قارتنا، وبالتالي ينبغي عليه تكريس كامل قواه قصد مواجهتها.. حاولت أن أشرح له بأن "العمل المسلح" ليست الطريقة الأجدى في مساعدة النضج الثوري الذي ينمو في القارة السوداء".
وهكذا ذهب غيفارا إلى أنغولا والكونغو وبرازفيل، ولم يكن مرتاحاً من علاقاته مع بعض الأحزاب الماركسية في الدول التي زارها. وقد حاول التصدي لقتلة لوموبيا وإذا به يُحاصر فكرياً وسياسياً، ويداهمه المرض ليضطر إلى الرحيل بعد فشل تجربة الكونغو، ثم يرحل ليلتقي كاسترو ويغادر بعدها راكضاً وراء حلمه ليستشهد في بوليفيا في 9 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1967.
ويعتبر عبد الحسين شعبان في كتابه أن المحطة الاولى المهمة للعلاقة بين الكوبيين والفلسطينيين هو مؤتمر القارات الثلاثة عام 1966 الذي كان يحضر له المهدي بن بركة والرئيسان عبد الناصر وأحمد بن بيلا.
وكان لغيفارا دور كبير في تكوين هذا التصور خصوصاَ من خلال اطلاعه على ما كان يناقش ويصدر عن منظمة التضامن الاًسيوي ومن خلال علاقته بالرئيسين عبد الناصر وأحمد بن بيلا والمهدي بن بركة وزيارته للجزائر والقاهرة.
وتعمّق الموقف الكوبي في القضية الفلسطنية من خلال بعض اللقاءات بين الطلبة الفلسطنيين والكوبيين.
وتعززّت العلاقة في إطار منظمة التحرير الفلسطنية عام 1964 حيث التقى غيفارا بعض القيادات الفلسطنية خلال زيارته للقاهرة. ويؤكد صلاح صلاح القيادي الفلسطيني أن كوبا اعترفت بمنظمة التحرير وفتحت لها سفارة في هافانا منذ وقت مبكر، لكن العلاقة تعززت في السبعينيات.
وقد لعب المهدي بن بركة دوراً كبيراً مثل غيفارا في بلورة خطة قبول كوبا وعضوية دول أميركا اللاتينية في مؤتمر القارات الثلاثة عام 1966 الذي كان مزمعاً عقده في هافانا والذي انعقد بعد اغتياله عام 1965 قي باريس. وقد صاغ مع غيفارا برنامج "التحرير الكامل".
رسالة الوداع من غيفارا إلى كاسترو
وجّه غيفارا إلى كاسترو رسالة وداعية قال فيها:
العزيز فيديل
في هذه اللحظة أتذكر أشياء كثيرة، حينما قابلتك في منزل سانتا ماريا، وحينما عرضت عليّ أن أشارك في التحضيرات. يوم سألونا عمن نود إبلاغهم حال موتنا، وكون هذا الاحتمال حقيقياً، صدمنا جميعاً. بعد ذلك أدركنا أنه حقيقة، ففي الثورة – اذا كانت حقيقية – المرء ينتصر أو يموت . العديد من الرفاق سقطوا علي درب الانتصار.
اليوم، أصبح الموقف أقل دراماتيكية، فقد نضجنا، لكن اللحظة تعيد نفسها. أنا أشعر أني أتممت دوري في المهمة التي ربطتني بالثورة هنا في كوبا، وأقول وداعاً لك وللرفاق، ولشعبك الذي أصبح شعبي.
أنا أستقيل رسمياً من منصبي في قيادة الحزب، ووظيفتي كوزير، وأتخلى عن رتبتي العسكرية، وعن الجنسية الكوبية. لم يعد هناك شيء رسمي يربطني بكوبا. الروابط التي تربطني بكوبا ذات طبيعة أخرى، لا يمكن التخلي عنها كالتخلي عن المناصب.
وبالنظر الي حياتي الماضية، أشعر أنني هملت بأمانة وإخلاص لتأمين الانتصار الثوري. و العيب الوحيد الخطير ، هو أنني لم أكن أكثر ثقة فيك من اللحظات الأولي في السييرا مايسترا، وأنني لم أفهم بما فيه الكفاية من السرعة مميزاتك كقائد وكثوري.
لقد عشت أياماً رائعة، وبجانبك شعرت بفخر الانتماء لشعبنا أيام أزمة صواريخ الكاريبي، تلك الأيام المجيدة، وإن كانت حزينة. نادراً ما كان هناك رجل دولة متألق مثلك في تلك الأيام. أنا أيضاً فخور باتباعك دون تردد، أني تعلمت طريقتك في التفكير ورؤية المبادئ والأخطار.
هناك بلاد أخرى في العالم تحتاج الى جهودي المتواضعة، أستطيع أن أفعل ما لا تستطيع أنت فعله بسبب مسؤوليتك كرئيس لكوبا، وقد حان الوقت كي نفترق.
يجب أن تعلم أني أفعل ذلك بمزيج من السعادة والحزن. أنا أترك هنا أعظم آمالي، وأكثر ما أعتز به. أترك شعباً استقبلني كأحد أبنائه. وهذا ما يجرح روحي. لكني أحمل الى أرض معركة جديدة الإيمان الذي علمتني اياه، الروح الثورية لشعبنا، الشعور بضرورة استكمال المهمة المقدسة: أن أقاتل ضد الإمبريالية أينما وجدت. هذا هو مصدر القوة، الذي يضمد كافة الجراح.
أؤكد مرة أخرى أني أخلي كوبا من أية مسؤولية، إلا كونها مثالاً. إذا ما حلّت ساعتي تحت سماء أخرى، آخر ما سيجول بفكري سيكون عن هذا الشعب وعنك. أنا ممتن لكل ما علمتني ولكونك كنت مثالاً سأعمل جاهداً للبقاء مخلصاً له حتى آخر تبعات قراراتي.
لقد كنت دوماً مخلصاً للسياسة الخارجية لثورتنا، ودوماً سأكون . أينما كنت سأشعر بمسؤوليتي كثوري كوبي، وسأتصرف علي هذا الأساس. أنا لست آسفاً أنني لم أترك لزوجتي وأطفالي شيئاً يكفيهم مادياً، وأنا سعيد بهذا ولا أطلب لهم شيئاً، لأن الدولة ستوفر لهم ما يكفيهم ليعيشوا ويتلقوا تعليمهم.
لدي أشياء كثيرة أقولها لك ولشعبنا، ولكني أشعر أنها غير مهمة. الكلمات لا يمكنها التعبير عما أود أن أقوله، لذا لا فائدة من إهدار الأوراق.
إلى النصر دائماً، وشعاري الوطن أو الموت.
لك مني حضن ثوري دافئ.
تشي غيفارا