"أشجارٌ غيرُ آمنة" لدارين حوماني: الشعر نجاة
حوماني التي تمثل قصيدة النثر القلقة والحقيقيّة، افتتحت مجموعتها الشعريّة السادسة بعنوان "اكتبي الشعر أولاً"، وهي تضع الأمور في نصابها منذ البداية، وكأنّها تثبت لنفسها أولاً وللآخرين أهميّة الشعر للنجاة من الهواجس.
"أيُّ زمنٍ هذا الذي يكادُ يُعدُّ فيه الحديث عن الأشجار جريمة، لأنّه يتضمّنُ الصمت على العديد من الفظائع؟".
هكذا، بعبارةٍ تثيرُ الريبة والقشعريرة، للشاعر والمسرحي الألماني برتولت بريشت، تقدّمُ الشاعرة اللبنانية دارين حوماني مجموعتها الشعريّة "أشجارٌ غيرُ آمنة" الصادرة مؤخّراً عن "دار النهضة العربية" في بيروت.
ربّما هي غير آمنة لأن الجالسين على أغصانها ليسوا إلا شعراء أو فلاسفة يثيرون من الزوابعِ ما يكفي لاقتلاعِ الثبات العاطفيّ، أو لأنّها تحاولُ أن تمدَّ يديها إلى الله منذ ولادتها فيمنعها قصرُ القامة وضبابٌ على علوٍّ متوسّطٍ يشوّش الرؤية.
على أيِّ حال فرائحة الريبة والوحشة كانت حادّةً في 120 صفحة من الشعر العالي، الذي يلفتُ إلى حساسيةٍ عميقةٍ تجاه العالم، وشغفٍ خالصٍ بمسألةِ الوجود.
نجحت دارين إذن، في إيصال انطباعاتها الشعريّة لا كلماتها وحسب، وهكذا دخلت رواق الشعر من أوسع أبوابه، وهذا ليس جديداً عليها.
حوماني التي تمثل قصيدة النثر القلقة والحقيقيّة، افتتحت مجموعتها الشعريّة السادسة بعنوان "اكتبي الشعر أولاً"، وهي تضع الأمور في نصابها منذ البداية، وكأنّها تثبت لنفسها أولاً وللآخرين أهميّة الشعر للنجاة من الهواجس.
النجاة من هاجس التكنولوجيا والوهم الذي تفرضُه:
"قريباً ستتوقف الحضارة
عن تنشّق الشتاء
وسنقبع بلا معنى
داخلَ عالمٍ إلكتروني
يفصلُ بيننا صحنٌ طائر
ووهمٌ عميق.."
وهاجس العمر وتسارع الأيام:
"أريد أن أجلس معكَ على طاولة
وأن أحبّك أكثر
وان أتمنّى لو رأيتك في بورتريه
في فندقٍ مهجورٍ منذ عشرين عاماً
فقد مرَّ العمرُ كصورةٍ فوريّة
لا معنى في تجاعيدها
سوى ثقل القدر..."
وحتّى هاجس البحث عن الحقيقة:
"الحقيقة تنشُّ السواد
الكتب والجرائد تنام في سريري
وأنا أريدكَ أكثر
لأنسى الحقيقة
ولأكتب الشعر أولاً.."
وهذه هواجسُ يمكن اختصارُها بهاجس الوجود، الوجود في زمنٍ هلاميّ، وقيمٍ تتبدّلُ قبل أن ندركها.
"ثمَّ تكتشف" في "الشجرة الأخيرة":
"ألّا أحد هنا يشبه الله
وألّا أحد
سيخرج بحديقةٍ في رأسه"
قصيدةٌ على صفحةٍ واحدة تكثّفُ علاقة الشاعرة الملتبسة بالمدينة ثمَّ الدين والله المطلق:
"المدينةُ تتمدّدُ على ظهري
قاسيةً وحشيّة
من يديرها عني نحو القبلة
كي أردّدَ ما لا أزال أحفظهُ من الشهادتين
وأنا أشكّك بهما
وبجدوى هذه الحياة
وبالله
ثمَّ أُعدَم
تحت الشجرةِ الأخيرة في مدينتي..."
البحث عن الإله الحق، سمةٌ حاضرةٌ في كلِّ قصائدِ المجموعة تقريباً، تطلُّ ملامح هذا الإله في أماكن متفرّقة، كأن تقول في "شريط لاصق من الموت":
"الإله الممدّدُ على الهلال
يركّزُ على الجنة والنار
وأنا أريدهُ كما أحسّه
حيث لا عار لامرأةٍ في المدن السفلى
ولا شريطَ لاصقاً حول الرأس
حيث الضوء يتحرّقُ ظمأً
لكسر القضبان..."
وتتساءل في "لستُ بخير":
"أهناكَ حياةٌ أخرى
أقلُّ نبوّةً وأقلُّ ظلمة
يمكن أن تبتكرها السماء؟"
وفي "هذا الكوكب من نافذتي":
"هل كان الله سعيداً في عزلته
قبل أن يقرّر وجود الإنسان؟"
ثمَّ تدرك في "فقط مطر" أن:
"الإنسان كائنٌ أحمق
يصلّي لله
ليقتل آخر يصلّي لله
والله تركهم جميعاً
ليكون في مكانٍ آخر..."
وتتركُ لخيالها أن يكتشفهُ في "نحن الذين نظنُّ أننا أحياء":
"الله روحٌ حزينة
هكذا أتخيله
يحمل بطاقات الحب
ونحن نثرثر عليه..."
العلاقة بالمطلقِ والمجرّدات في نص دارين تنمُّ عن وعيٍ بذات الشعر وجوهرهِ بصفتهِ مفهوماً كونيّاً يحضرُ في كلِّ الموجوداتِ وخارجَها، ويُستلُّ من مجرّدهِ عبر طقوسٍ روحيّةٍ تقنيّة، يمسكُ فيها الشاعر بأدواتهِ اللغوية ويستدعي حساسيّتهُ تجاهَ تجاربه ومشاهداتهِ، وفي التوتُّرِ الذي يقعُ من اتصال العمليِّ بالحسيّ يحدثُ الشعر، وعلامةُ ذلك العبارة الحادّة المفتوحةُ على التأويل، وهذا كثيرٌ في شعر دارين حوماني.
تقول في "من أجل الحريّة":
"أرهقتني القبور وأنا أغسلها
كي لا تبهت الوجوه..."
مع هذه الوحشةِ الرقيقة كشفرة، وهذا الألم الخفيّ، تواجهُ بالشعر ومن أجله، لأن "الحقيقة" كما تقول في "حوادث سيئة السمعة في بيروت":
"لا تقالُ إلّا مرّةً واحدة
وقولها يحتاجُ إلى يومٍ غائمٍ حزين
وإلى شعورٍ بأنَّ الموت قريب..."
أمّا ما تريدُ هي قوله، فتشيرُ إليهِ ولا تسمّيه في "الشّكل الأساسيِّ للوحدة":
"ما أريدُ قولهُ حزينٌ جدّاً قد يؤلمكم
سأحملهُ في ظلّي فقط...
لا أريدُ أن يُظهرَ وجهه
إلّا للحقيقةِ المطلقة..."
وبالحقِّ فهو حزينٌ جدّاً، ولأنَّ "لا أحدَ يعاقَبُ في هذه الحياة إلا القلوب الرقيقة" تبدو ملامحُ الحزن في عذوبةٍ مفرطةٍ تطلُّ من بين العبارات الحادّة كأنها نسمةٌ من روح دارين الطفلة التي ما تزالُ هنا في الدّاخل:
"هذا الذي في داخلي
يجعلني أحسُّ بالبرد دائماً
أريدُ أن أنتمي لأهدأ...
هذا الذي في داخلي
لفرطِ ما بكى
لم يعد يؤمنُ بشيء
ولا يحبُّ أحداً..."
وكشاعرة أوّلاً وفنّانة بالضرورة، تقعُ مسؤوليتها المفترضة في فتحِ مساحةٍ لهذا الطفل وغيره من الأطفال ساكني دواخلنا، يمارسون فيها طفولتهم:
"نحنُ مطالبون بهزِّ الصدى
كي يبقى لطفولتنا مكانٌ تلهو فيه"
الشعر إذن، رسالةٌ من حيث هو لا من حيثُ ما يحملُ على عاتقه، نافذةٌ للتنفّس كما هو إطارٌ للوحدة، قوقعةٌ تحمينا من قسوةِ الخارج، بالنوستالجيا والطفولةِ واللهوِ والحِس، ملاذٌ آمنٌ لمن يقصدهُ فراراً من صخب العالم:
"سوف نكتبُ على الأقلِّ عن أشجارنا
عن تنهيدةِ الوردة في دار أمي عند الصباح
مثل انخفاض روح الله إلى الأرض
عن خط الحدود الذي يفصل الفراشة عن الزهرة"
وكما تحضرُ الطّفولةُ بعذوبتها المفرطة، يحضرُ عالمُ الكبارِ بقسوتهِ وغرابته، في ثيماتٍ كالجنس والشهوة والحرب والقتل والغربة النفسيّة وغيرها، ويعودُ التوتّرُ إلى العبارة مع اصطدامها بالواقع:
"ثمّة من يقع من قاربٍ كلَّ ثانية، يريدُ حصّتهُ من الحياة
وآخرُ يقتلُ على طريقِ تحرير الأرض
يريدُ حصّةً من حياةٍ أخرى
...
والخارج... الخارج... خارج هذا العالم
متروكٌ لموسيقى الحداد..."
تكرارُ كلمة "الخارج" في العبارة الأخيرة مصداقُ التوتّرِ الحاصل بمجرّدِ خروجِ الشاعرة المرهفة من ذاتها إلى العالم، وإلى التوتّرِ يحضرُ الغضب أيضاً حيث تقول:
"الفراغ
ذاك الذي يغفو في بطن الكون
ينشدُ عزلته
ضجيج متحاربين وجثث
أيُّ محادثةٍ ولّدت هذا العالم القذر؟"
وفي موضعٍ آخر يحضرُ الجنسُ كثيمةٍ للغثيان:
"بعد الجنس
رغبةٌ مبرحة
في تقيؤ الأرض..."
ويحضرُ في موضعٍ آخر كثيمةٍ للحزن والكبت:
"الجنس أحجيةٌ منطقيّة
لكن في بلادي الجنسُ ظاهرةٌ حزينة
لنساء لم يتزوّجن
متن كما جئن إلى هذا العالم
عفّةٌ تامّة خوفاً من هؤلاء البشر القذرين
وجود مغفل يفصل المرأة
عن تاريخ الطبيعة البشرية"
لا تنتهي الحدّةُ بالحديث عن الحب الذي يمكن أن يأتي بارداً أيضاً، فتقول في قصيدةٍ بديعة عنوانها "مواجهة أصنام هذه الأرض":
"أحببتُ عدداً من المرّات حبّاً غير دافئ
فيه ثلجٌ كثير
ثمَّ أيقنتُ أنّهُ كان مجرّدُ هواءٍ في الفراغ
لمرور الوقتِ الحزين..."
ويعودُ تقيّؤ الأرض ليظهرَ في مشهدٍ آخر بعيدٍ عن الجنس قريبٍ من الموت هذه المرّة، في نهاية النصٍّ المعنون "هذا الكوكب من نافذتي":
"على رصيفٍ خارج هذا الكوكب
نتقيّأ الأرض تحت شجرةٍ هرمة
بصوت خافت
مخافة إيقاظ العالم
من موته..."
الحديث عن "أشجار غير آمنة" يمكنُ أن يمتدَّ طويلاً وعميقاً، ولكنّني سأكتفي بما أسلفتُ في هذه العجالة، ويبقى أن أشير إلى ورود أسماءٍ كثيرةٍ لكتّاب وشعراء وفلاسفة بين دفّتي المجموعة، كلّهم غربيّون، ابتداءً من بريشت إلى سيلفيا بلاث¹ وسارتر² وبيسوا³ وسيوران⁴ ونيتشه⁵ وريتسوس⁶ وغيرهم، ولكنّي سأتوقّف في نهاية هذا المقال عند اسمٍ واحدٍ لرجلٍ شرقيٍّ لبنانيّ، هو الشاعر اللبناني الرّاحل عصام العبدالله⁷، وهو الاسمُ الوحيد الذي خصّصت لهُ حوماني قصيدةً أختم مقالي بها:
عصام العبد الله
الشاعر الكبير
باعوا قصائده بثمن بخس
في كشك لبيع الكتب
وسط شارع الحمرا
وحين اشتراه
قرأ إهداءه
إلى التي كتب لأجلها القصائد...
خريف مزدحم بالحياة
شجرة دائمة الخضرة
تُهدي أوراقها
لأولئك الذين ماتوا متجمدين
ولأولئك الذين لم يموتوا بعد
لكنهم يخافون أن يسقط منهم أحد
الطاولة حديقة ناقصة
فزِعة بدونك
فراغ الكرسي
مثل عزلة مخيفة
ووجه حيّ يمشي ويضحك
من خلف الزجاج...
ثمّة وجوه يقيم البحر فيها
تظن لوهلة أنها لن تموت
عندما كنا نجلس معك على طاولة
وسط شارع الحمرا أو قرب البحر
كنت تسبق الألم بضحكة
بكلمة ساخرة من عالم يبادل أشجاره
كل يوم
بإسمنت هش...
عصام العبدالله
كنت على الطاولة وفي القلب
بستان حضور أخضر
بحرا كاملًا لن يجف...
***
¹ سيلفيا بلاث، 1932 - 1963: شاعرة وروائية أميركية توفّيت منتحرة.
² جان بول سارتر، 1905 - 1980: فيلسوف وروائي ومسرحي فرنسي.
³ فرناندو بيسوا، 1888 -1935: شاعر وكاتب وفيلسوف برتغالي.
⁴ إميل سيوران، 1911 - 1995: فيلسوف وكاتب روماني.
⁵ فريدريش نيتشه، 1844 - 1900: فيلسوف وشاعر ولغوي ألماني.
⁶ يانيس ريتسوس، 1909 - 1990: شاعر يوناني.
⁷ عصام العبد الله، 1941 - 2017: شاعر لبناني، أحد رموز حركة الشعر المحكي اللبناني.