"وداعاً حارس ثقافتنا".. الأردن يفقد "وزير الثقافة الشعبية"
كان مجبولاً بروح المكان في أزقة وسط البلد في عمّان، واستحق لقب "وزير الثقافة الشعبية".. من هو حسن البير الذي رحل عنا قبل أيام؟
-
حسن البير (صورة عن النت)
في زاوية عتيقة على ناصية أقدم شوارع العاصمة الأردنية، تقع مكتبة متناهية الصغر، هي اليوم خافتة بعد رحيل صاحبها حسن أبو علي؛ بائع الكتب الأشهر الذي عرفته عمّان منذ عقود طويلة.
هذا الرجل كان مجبولاً بروح المكان في أزقة وسط البلد، إذ اعتاد المارة والزائرون أن يكون ذلك العجوز مع "كشكه" جزءاً من ترتيب زمني آلي ومنهجي نتيجة حضوره الأشبه بـ"السرمدي" في تلك البقعة المكانية، حيث تتراصف الكتب وتتلاصق ببعضها البعض وكأنها تتهامس بصمت بأمور لم تُكتب في صفحاتها.
هكذا، تبدو الكتب وهي متكدسة على أرفف ضيقة في "كشك الثقافة العربية"، أو كما يطلق عليه "مكتبة حسن أبو علي" لصاحبها حسن البير (1944 - 2022)، الذي بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي ببيع الصحف والمجلات، ثم انتقل بعدها إلى بيع الكتب في السبعينيات، وتحديداً في العام 1978، إذ أنشأ كشكاً صغيراً مملوكاً لـ"نقابة الصحفيين الأردنيين"، ليصبح رمزاً ومعلماً ثقافياً وشاهداً على ملايين الوجوه التي مرت بذلك المكان، حتى ارتبط اسم ابو علي بقصص الحبر والورق والفكر.
لم يكن حسن أبو علي مجرد بائع، بل كان قارئاً ومتذوقاً للأدب وسبّاقاً إلى طرح نقاشات بأبعاد سياسية واقتصادية وفكرية. وغالباً ما كان للشخصيات السياسية والأدبية مرور برحلة حسن أبو علي، وكان للعديد من أعلام الفكر وأهل السياسة حكايات ومواقف ظل الراحل يستذكرها ويرويها كلما سنحت له الفرصة في جلساته المعتادة إلى جانب كتبه، وكأنها أصبحت تفصيلاً ذاتياً فيه غير قابل للانفصال. هذا ما جعل البعض يطلق عليه لقب "وزير الثقافة الشعبية" في الأردن، لمساهمته خلال كل تلك السنوات بتعزيز الثقافة، من خلال بيع الكتب بأثمان زهيدة، ورفضه مبدأ الربح المادي.
شارك في تشييع حسن أبو علي ونعيه العديد من الشخصيات الثقافية والسياسية الأردنية. بدورها، أعلنت وزيرة الثقافة هيفاء النجار مدى حزنها لخسارة "وزير الثقافة الشعبية"، إذ قالت: "وداعاً أبو علي حارس ثقافتنا. كان الموعد أن نلتقيك مساء الجمعة، لكن القدر كان أسرع منا، وحرمنا وداعك".
وتابعت: "خسرناك اليوم قامة ثقافية أردنية مثّلت روح الأردن وتاريخه، ولكننا نعاهدك بأن تبقى مكتبتك أمانة في أعناقنا، نتعهدها بالرعاية والاستدامة، ليبقى ذكرك حياً في قلوب الأردنيين".
أما رئيس الوزراء الأسبق عمر الرزاز، فغرّد في "تويتر" مستذكراً الراحل: "أبو علي، هذا الإنسان المسكون بالثقافة والأدب، ومن كشكه الصغير في وسط البلد، أنجز ثورة في الحياة الثقافية وشكل حالة أردنية ثقافية فاقت ما قدمته بعض الجامعات والمراكز الثقافية"، مضيفاً: "رحمة الله عليك معلمنا حسن أبو علي، وأسكنك فسيح جنانه، وليستمر موروثك الثقافي في عقول وأفئدة تلاميذك المحبين".
المخرج والمسرحي نبيل كوني تحدث إلى "الميادين الثقافية" عن حسن أبو علي، وقال: "لقد شكل ظاهرة شعبية، وكان علماً من أعلام مدينة عمّان، من خلال كشك صغير كان يوفر الكتب للشغوفين بالقراءة، وخصوصاً عندما كانت الكتب ذات قيمة فكرية ومعنوية".
وأضاف: "كان الشباب في الماضي يتسابقون للحصول على آخر إصدارات الكتب الفكرية والأدبية، حتى إنها كانت فرصة للتباهي أمام الآخرين. من هنا، أصبح حسن أبو علي أشبه بمؤسسة نشر وتوزيع لكل قارئ وشغوف وملجأ للعديد من المثقفين والأدباء. ولهذا، كانت له مساهمة كبيرة في نشر الثقافة والأدب لسنوات طويلة. ورغم تراجع معدلات القراءة والقيمة الإنسانية لاقتناء الكتب ودور الكتاب الورقي، فقد ظل محافظاً على وجوده، وبقي معلماً ثقافياً ومكانياً في الأردن وعمّان على وجه التحديد".
أما الكاتب والصحافي الأردني طلعت شناعة، فتحدث عن حسن أبو علي الذي كانت تربطه به علاقة شخصية ممتدة لسنوات طويلة، وأشار إلى أن الراحل لم يكن يحمل اسم حسن أبو علي فعلاً، ولكنه كان مجرد لقب له. كما أن شخصيته البسيطة والودودة كان لها دور في جذب الناس والتفافهم حوله.
وبيّن شناعة بأن أبو علي الذي جاء إلى عمان في سن صغيرة مع أهله كلاجئين فلسطينيين، واستقر في أحد جبال عمان، "اضطر إلى امتهان بيع الصحف في سن صغيرة، ولم يكمل دراسته، إلا أنه كان شغوفاً بالأدب والفكر والثقافة".
واستذكر شناعة حدثاً في بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما حاولت "أمانة عمان" إزالة كشك أبو علي، ما دفع العديد من الكتاب والصحافيين إلى التضامن معه، كذلك، وقفت معه جريدة "الرأي" الأردنية من أجل منع قرار الإزالة، ونجحوا في ذلك. حينها، تأكد دور الراحل مع مكتبته بخلق تلك البؤرة الثقافية النابضة في قلب عمّان، كما شكّل وجوده بوصلة وموسوعة معلوماتية عمانية.
ولكن تراجع دور الصحافة ودور النشر في السنوات الأخيرة، والانتكاسات التي جاءت نتيجة التغيرات السياسية، وتغير ذائقة الأجيال الجديدة واهتماماتها، أثر كله في عمل أبو علي، وبالتالي "كنت أراه في أغلب الأحيان حزيناً وشاكياً مما وصل إليه حال الثقافة بشكل عام"، يضيف شناعة.
على الرغم من رحيله، فإن حسن أبو علي سيبقى ظاهرة إنسانية وثقافية. ورغم بساطة ذلك الرجل، فإنه استطاع أن يرفد الشارع الثقافي الأردني ويكون داعماً ومصدراً مهماً للباحثين والأدباء والمفكرين.
يذكر أن حسن البير كُرّم من قبل الملك عبد الله الثاني بوسام الاستقلال بمناسبة الاحتفال بعمان "عاصمة للثقافة العربية" في العام 2002. حينها، قال حسن أبو علي: "إنه أسعد يوم في حياتي. لم أتوقع أن يحدث هذا لي في يوم من الأيام بصفتي صاحب كشك كتب صغير ومنزوٍ في وسط المدينة".