هل يسخّر الفن لتسعير نار الحرب في السودان؟
دماء وقتلى وجرحى ومهجرون.. إزاء هذه الحال في السودان، لماذا يتحول بعض الفنانين إلى ترس في آلة الحرب؟
هل يمكن أن يتحول الفنان من داعية إلى السلام إلى ترس في آلة الحرب؟ للأسف، فالإجابة الصادمة لكثيرين هي: نعم.
لن نحتاج، في الاستدلال على هذه الإجابة، إلى الغوص عميقاً حتى أيام الشعر الجاهلي الممجّدة للحروب، كأيام البسوس وداحس والغبراء، وإنما سنمد أيادينا قريباً إلى السودان، الواقع في براثن حرب ضروس، لنتلقف بعضاً من المنتوج الغنائي الجديد، ويحرض طرفَيِ الصراع على تغليب الحسم العسكري على كل صوت، بما ذلك المنادي بالحل السلمي.
في الأحوال العادية، يناصر الناس خيار الحرب، إما من أجل قضية عادلة، وإمّا نصرةً لفئات وقطاعات مستضعفة، وإما من أجل ردّ عدوان غاشم. أمّا في الحالات الاستثنائية، فتتم نصرة هذا الخيار لمتعلقات بخدمة مصالح شخصية أو عامة، أو للانتقام من عدو باستئصال شأفته بصورة حاسمة ونهائية، وصولاً إلى الاستجابة لمحفّزات غير منطقية، على رأسها يأتي إثبات الحضور وتسجيل المواقف فقط لا غير.
وتجدر الإشارة إلى أن الحرب ذاتها، التي يراها البعض عادلة، يعدها آخرون ضرباً من الاعتداء السافر والجنون.
هذا الأمر يجعلنا نسأل ثانية: لمَ يُقحم الفنان نفسه في كل هذا الجنون؟ وخصوصاً أن الفنان، خلافاً للآخرين، في حاجة إلى تدعيم مواقفه المتبناة عادة بتقديم مبررات وذرائع، احتراماً لجمهوره، وخصوصاً إن دخل في حقل استقطاب شديد، وهل هناك ما هو أشد من الحرب؟
نسوة في خط النار
مع دخول شهرها السادس، فتحت الحرب الجارية بين الجيش السوداني، بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، «شبه العسكرية»، بقيادة محمد حمدان دقلو، «حميدتي»، كثيراً من المسكوت عنه في علائق السودانيين شديدة التعقيد، لتؤكد أنَّ المعركة العسكرية الجارية ربما تكون صديداً للدمامل المنسية طوال عقود من جراء تحاشي التعاطي بجدية مع الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المسكوت عنها.
وبالفعل، أدت الحرب الجارية، منذ منتصف نيسان/أبريل الماضي، من دون أن تبدو ملامح لحلها في الأفق، إلى حالة استقطاب حادة، ومواجهات مفتوحة، ولا سيما في مواقع التواصل الاجتماعي بين الداعين إلى وقف العملية العسكرية، أو المصطفين إلى جانب أحد طرفيها، وسط خطاب محتشد بالكراهية ولغة ترقى إلى نصب المشانق للآخر المغاير، بناءً على تهم الخيانة.
على نقيض السياسي الذي يتحرك بقيود من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب، انطلاقاً من أن السياسة في أصلها هي فن تحقيق الممكن، ينشط الفنان والمثقف –عادةً - من منصات مستقلة في تنزيل مفاهيم طوباوية إلى أرض الواقع. وعليه، فإنتاج ثقافة مساندة للسلام في وقت عصيب كالذي يمر فيه السودان، هو أمر بدهي، ولا يدعو إلى رفع التعجب، لكن ما يرفع حاجب الدهشة حتى منتهاه أن نجد منتسباً إلى قبيلة الفن، منخرطاً بفعالية في تسعير نار الحرب، التي تكاد تمسك بأثواب الجميع.
وفي عز انشغالات السودانيين بتأمين أوضاعهم الحياتية بالغة القسوة، والتطبيع مع مخلفات الحرب، وجدت أبرز نجمات الغناء الشعبي: ندى القلعة، وميادة قمر الدين، الفرصة في إنتاج أعمال فنية ممجّدة للجيش، وداعية إلى استئصال شأفة "الدعم السريع".
الفنانة ندى القلعة، التي سبق أن أظهرت مواقفَ داعمة للجيش، كما جرى في إبان عملية استعادة الفشقة «شرقيِّ البلاد» من الميليشيات الإثيوبية، نهاية عام 2020، اختارت أن تمجد الجيش السوداني وفصائله العسكرية، وفي المقابل تذم قوات "الدعم السريع"، في عمل سُمِّي «مطر الحصو»، أي «لتمطر حصى».
ومما ورد في الأغنية، من مقاطع كثيرة تتزيا بالثوب العسكري، قولها: «أكسح امسح ما تجيبو حي.. الشهادة يا الفوز والنصر»، أيّ دك حصون العدو وسوّيها أرضاً، ولا تترك وراءك أسيراً يتنفس، ليكن ذلك، أو الموت الشهادة.
أمّا ميادة قمر الدين، التي ساندت الثورة على المعزول وقائد الجيش عمر البشير، فقدمت سندها هذه المرة للجيش، في أغنية «ملوك القل»، والتي تقول في أحد مقاطعها المبدوءة بمحاكاة صوت الرصاص: «تاح تاح تاح.. تحسم بالسلاح.. ما في مفاوضات.. ودا الكلام الصاح»؛ أيّ أن الموقف الصحيح أن تحسم هذه المعركة عسكرياً، وليس عبر المفاوضات.
تحوُّل كبير.. وفن من أجل الفن؟
بالعودة إلى سؤالنا الرئيس عن كيف يمكن تفسير تحول الفنان إلى داعية إلى الحرب؟ يرد المتخصص في دراسات السلام، مروان بابكر، بالقول لـ «الميادين الثقافية»، إن أهل الفن في السودان لهم باع طويل في مساندة الحروب والديكتاتوريات، بل إن بعضهم صار حال لسان أحزاب وقوى ظلامية.
وفي هذا الصدد، أشار إلى انخراط نجوم تركوا بصمة واضحة في الأغنية السودانية، لكنهم في الوقت ذاته أظهروا انحيازاً غير خافٍ إلى نظام البشير، مستشهداً بالفنان محمد الحسن، الشهير بـ«قيقم»، والذي برع في فن الأغنية الشعبية، براعتَه نفسَها في بث الحماسة في نَفْس البشير، عبر أغنيات ممجّدة للحرب والمقاتلين، وذلك قبل خطب الجنرال الجماهيرية، الأمر الذي يوصلنا في نهاية المطاف إلى قرارات مرتجلة لخليط الحماسة والأدرينالين، تشمل إغلاق الحدود مع دول الجوار، ومنع أخرى من استخدام الموانئ المطلة على البحر الأحمر، وصولاً إلى توجيه الأمن باعتقال الناشطين والمعارضين.
أما بشأن الحرب الحالية، فيرى بابكر أن هناك شعوراً متعاظماً لدى بعض الفنانين، بأهمية اتخاذ مواقف إزاء القضايا العامة، إمّا نتيجة إحساسهم العالي بالصوابية، المتأسسة على قدرتهم على صناعة الحشد، وإمّا بهدف صعود «الترند» ليس إِلّا.
ولم يُنَحِّ بابكر تأثيرات التجربة الشخصية في دفع الفنان إلى اتخاذ مواقف سياسية، عادّاً أن موقف المغنيات الداعم للجيش قد يكون نتيجة الانتهاكات التي مارستها قوات "الدعم السريع"، أسوة بالظهير الفني للميليشيا، والمتمثل بـ«الحكامات»، وهن مغنيات باللهجات الشعبية، على طريقة الرجز، يمجّدن القبيلة، وثقافة الموت والقتال، ويعددنَ السلام والتولي يوم الزحف نوعاً من الخور والضعف، اللذين يلتصقان بصاحبهما كعارٍ لا يمكن محوه.
يُذكَر أن منظمات الأمم المتحدة وكيانات نسوية وحقوقية بذلت، في السابق، جهوداً جبارة لإقناع "الحكامات" بإبدال ثقافة الحرب بأخرى مؤيدة للسلم والتعايش، لكن من دون تحقيق نتائج ملموسة.
على خلاف النظرة المستهجنة لانخراط الفنان في تسعير الحرب، يقول رجب رضوان، الباحث في مجال الأغنية السودانية، إن ميدان الحرب والفروسية غذّى الثقافة المحلية بأغنيات وقصائد خالدة، لم تنطمس طوال عقود خلت.
وأضاف في حديثه إلى «الميادين الثقافية»: من ينسى أدب تمجيد منازلة المستعمرين، وإعلاء شأن أبطال، مثل محمد أحمد المهدي، وعبد القادر ود حبوبة، وعلي عبد اللطيف، وقصائد «المناحات» في رثاء المقاتلين العِظام، من أمثال كاسي الكعبة المشرفة، السلطان علي دينار، وصولاً إلى تمجيد «الصعلكة»، في المفهوم العربي القديم بشأن ترفيع مقام اللصوص الذين يسرقون من أجل إطعام الفقراء والمساكين، وعلى رأس أولئك «الطيب ود ضحوية».
ولفت رضوان إلى أن الإنسان ابن بيئته. لذا، من الطبيعي أن يتماهى ويتأثر بما يجري من حوله، بل أن تحدث له انتقالات كبرى، من النقيض إلى النقيض، في إطار التجريب الذي يُعَدّ – في ذاته - ضرباً فنياً.
السؤال الأبدي
هل الفن رسالة، أم أداة للترفيه وسلعة لمن يدفع أكثر؟ سؤال لم يكن وليداً عند خروج أول رصاصة في حرب السودان، وإنما سؤال قديم، قِدَم الفن نفسه.
من عصر القبيلة والفرسان، أو العصر الجاهلي الذي بدأنا به المقال، نجد أن المعلقات المكتوبة بماء الذهب ومعلقة على جدران الكعبة، تمجّد شاعراً كعنترة بن شداد العبسي، الذي تُعَدّ قصيدته المبتدرة بـ«هل غادر الشعراء من متردم.. أم هل عرفت الدار بعد توهم» مجازاً، بمعايير اليوم، إحدى منتوجات قطاع التوجيه المعنوي التابع للجيوش الوطنية، وفي الوقت ذاته تعلي قيمة الشاعر زهير بن أبي سلمى وقصيدته الشهيرة المبدوءة بـ«أمن أم أوفى دمنة لم تكلم.. بحومانة الدراج فالمتلثم» عن إرساء قيم السلام، ويجوز أن نقول بمعايير اليوم ذاتها إنها ابنة المسودّات والدساتير الحقوقية.
وبمقاربة ما يجري مع الحالة السودانية، يشدد مروان بابكر على أنّ الفن من دون رسالة لا يرقى إلى تسميته فناً، وإنما أداة للترفيه وحصد المال والإعجابات بمنظور حداثي، حاثّاً الفنانين السودانيين على استمالة جماهيرهم لمواصلة الضغط على العسكر لإنهاء حالة الاحتراب في البلاد.
بدوره، رفض رجب رضوان حشر الفنان في أدوار محددة، يرسمها عقل وصائي يعمل على وضع الفن ضمن أطر محددة، بينما هو – أي الفن - خروج عن الواقع إلى المجازات. لافتاً إلى أن خلود الفن يعود إلى مدى أصالته وقوته، وليس إلى المواقف التي يناصرها.
قد تجد وجهة النظر القائلة بضرورة النظر إلى الأعمال الفنية بطريقة تجريدية، قبولاً عند البعض، لكن واقع السودان الحالي يستدعي تقوية التيار الداعي إلى السلم، في حرب يصفها قادتها أنفسهم بـ«العبثية»، وهو ما يتطلب أن نبادر إلى سؤال أهل الفن والثقافة: لماذا يريد بعضكم الصعود على خشبة مسرح العبث؟