هل انتهى دور المثقف؟
ما زالت علاقة المثقف بالسلطة إشكالية، ما يدفع إلى طرح السؤال التالي: هل انتهى دور المثقف وفقد قدرته على تغيير الواقع؟
إذا كانت المعرفة هي الغواية الأولى للإنسان، فهل يمكن أن نعدّ السياسة جحيم العارف بخفايا دروبها الارتدادية المهتزّة؟
هذه الأسئلة تضع الباحث على محك الريب من حقيقة الوصول إلى إجابة شافية حول علاقة المثقف بالشأن السياسي ومدى قدرته على تغيير الواقع، خاصة إذا افترضنا منذ البداية أنّ المثقف العربي يمرّ بحالة موت سريري جرّاء استقالته من دوره النقديّ للواقع الذي يعيش فيه، سواء أكان هذا الواقع سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، وسواء أكان محليّاً أو إقليميّاً، في مقابل انزلاقه في جوقة المديح والتزلف والموالاة لأصحاب الجاه والقرار كلّ بحسب مجال فعله.
صار الكاتب مقيّداً بتوازنات أصحاب الصالونات والمجالس التي تتعارض مصالحها مع وظيفة المعرفة والثقافة، وصار القلم مؤجّراً حسب الحاجة.
وإذا سلّمنا مبدئياً بهذه الملاحظات المزعزعة لطمأنينتنا حول الواقع الثقافي في بلادنا، فهل يمكن أن نجد قبساً ثقافيّاً ناصعاً ينقض هذه الصورة الشائعة ولو جزئياً؟
للإجابة عن هذا السؤال توجّهت "الميادين الثقافية" إلى عدد من المبدعين التونسيين يجمعهم المشغل الثقافي ويختلفون ويفترقون في مجال تخصّصهم، فمنهم ذوو المشغل الأدبي أو الفني أو الأكاديمي أو الإعلامي، وطرحنا عليهم الأسئلة التالية: هل انتهى فعلاً دور المثقف؟ وهل نحن في زمن "الحضارة الماديّة"، بحسب تعبير المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل؟
جواباً عن هذه الإشكاليات، ترى الكاتبة والروائية أمينة زريق أن انخراط المثقف في الشأن السياسي هو فعل إلزام وليس فعل اختيار.
فالمثقف الحقيقي أو "العضوي" الغرامشي - حسب رأيها - ملزم بالانخراط في شؤون بلاده، وهي من جهتها لا تحبّذ انخراط المثقف في الممارسة السياسيّة حتّى لا يقع "احتواء" آرائه وانتقاده من جانب أيّ طرف سياسيّ،"فالمثقف لا بدّ له من المحافظة على مساحة شاسعة من الحرية، وهي حرية ملتزمة بمفهومها السّارتري"، وتعني بذلك المثقف الملتزم بالقضايا الكبرى من حرية وعدالة وبحث دائم عن الجانب "الإنسانويّ" فينا بلمّ شتاته المتشظي وتوحيد فكره ورسم أهدافه.
أمّا عن واقع المثقف في تونس - بعد الثورة تحديداً - فترى زريق أنّ المثقف يركض خلف الأحداث لتسارعها "فلا قلم الكاتب استطاع هضم ما يراه من مشاهد ومواقف، ولا ريشة الرّسام استطاعت رسم ذلك"، ما جعل المثقف في تونس يستنزف جهده في البحث الدائم عن ذاته منشغلاً بــ"اليومي" ومنغمساً في تفاصيله.
فالمسألة إذن، في نظرها، ليست بسيطة، "لأنّ التغيّر السريع للمشهد السياسي جعل المثقف سجين حيرته، بالإضافة إلى وقوعه في حيرة أعمق إزاء مفاهيم كبرى مثل الديمقراطية والحريّة ومفهوم الدولة". حيرة ترجو الكاتبة ألا تدوم كثيراً حتّى يتمكّن المثقف في تونس من استعادة ثقته في هذا المشهد السياسيّ الراهن.
أمّا الفنان الكاريكاتوري رشيد الرحموني، صاحب العمود النقدي في الصحف التونسية، فيقول إنّ: "فنّ الكاريكاتور هو من أبلغ الفنون وأرقاها باعتباره يعتمد على الجانب الرمزيّ، ويتناول مواضيع ذات أبعاد كونيّة تخوّل كلّ إنسان مهما اختلفت ثقافته ولغته أن يستوعب أبعاده"، فهو فنّ "الإشارة بامتياز"، على عكس الفنون الأخرى التي تتطلّب معرفة مسبقة بنوع الفنّ وخصوصيّاته، وهذا إلى جانب أنّ الرسوم الكاريكاتورية تهتم عادة بالشأن العام والقضايا العالمية كالحرب والفقر والتمييز العنصري، ما يجعلها لغة موحّدة تشترك فيها الإنسانية.
إذن، هذا الصراع السوسيو - ثقافي بات واضحاً من خلال رؤية النخبة المثقفة في تونس بمختلف مشاربها وانتماءاتها، إذ تتعدّد المفاهيم حول دور الكاتب وعلاقته بالشأن السياسي من زاوية النقد وكشف الهَناتِ.
وإجابة عن الإشكاليات المطروحة، يقول الكاتب والإعلامي في الإذاعة الوطنية التونسية زهير النفزي إنّ: "تونس شهدت في السنوات الأخيرة تحوّلاً سياسيّاً عميقاً أعلنته ثورة 2011 على هذه الأرض المتحرّكة المرتبكة، فالتقى الفاعلون السياسيون والخبراء للمساهمة في رسم الصورة، وقد ارتحلت من صيحات الغضب وخطاب الرفض إلى ملامح المشروع الممكن وتفاصيل البدائل".
ويضيف: "في تربة هذا الحدث كبرت شجرة الأسئلة ومنها: أيّ دور للمثقف في محاورة مستجدات الواقع السياسي؟ هل يكون للمثقف صوت في فضاء المتغيّر والمتحرّك ضمن مسار التطوّرات السياسية ذات الصّلة بالخطاب والأطروحات والمؤسّسات؟".
يرى النفزي أنّ البلاد "حين رامت إرادة الحياة ووطن الحريّة ظلّت في حاجة إلى مثقف ذي عقل عمليPratique لا يغيب عن العصر، فهو "شاهد" لا يُهادن الموجود. فلا يكون (والعبارة للمؤرخ عبد الرحمان بن خلدون) آلة السلطان التي تُجالس الحاكم هادئة أو تشغف بالسلطة راضية مرضيّة. المشهد السياسي يتطوّر حتماً بمثقف ذي تصوّر مجتمعيّ، يمشي بين الناس في الأسواق وشوارع المدينة، يُصغي إلى اللحظة والثورة فيكون لسان الحال الذي يُتابع الواقعيّ والمرئي ويرصد ما وراء ذلك من بُنى فكريّة وعقليّة وثقافيّة".
أمّا المثقف في مقامه الإعلامي الاتّصاليّ فينبغي له أن يتّصف - حسب رأيه - باليقظة لحظة رصده لمشهديّة اليومي والواقعيّ، وعليه أن يُنشئ جسراً من جماليّة الخطاب يصله بالمتلقّي فيحقق جماليّة التبليغ وصدق لسان الحال.
فرسالة الكاتب، من منظور النفزي، هي كشفُ الحقيقة للناس، وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف الألمانيّ نيتشه بقوله:" فمن لم يكن يحيا لكشف الحقيقة كاملة فهو أفّاك... لا قدْرَ له ولا مُقام له".
ولئن كان هذا رأي رجل إعلام تونسيّ، فإنّ الأسعد العيّاري، أستاذ الأدب في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، يرى أنّ العلاقة بين المثقّف والسياسيّ هي علاقة جامعة مانعة في آن معاً وأنّ "خصوصيّة هذه الروابط الممكنة تتطلّب تحرير الثقافة من سلطة السياسة ليتمكّن المثقف من النهوض بأدواره من دون قيد أو شرط، وعلى السياسة أيضاً أن تتعامل مع الثقافة باعتبارها مجالاً حيويّاً قادراً على صناعة المعنى الحقيقيّ للوجود الإنساني"، وهو بذلك يختزل وظيفة المثقّف ضمن عوالمه المعرفيّة وحدوده اللغويّة وإن كان الهدف منها توعويّاً أو تنويريّاً.
وتفاعلاً مع ما صرّح به هؤلاء المثقّفون الذين يعدّون عيّنة دالّة للمثقفين بحسب اختلاف مراكز عملهم ومجالات اهتمامهم، نذكّر بأنّ المراد من هذا الطرح الاستقصائي في أقصى أهدافه هو البحث عن نواة فكرية منتجة عضويّة وغير وظيفيّة تستوعب التجاذبات السياسية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية، وتشحذها بمقترحات خلّاقة رصينة لتجاوز مخاض التحوّلات الاجتماعية العميقة التي تشهدها المجتمعات بين حين وآخر، من أجل إعادة إحياء صورة المثقف النموذج وحقيقة دوره الجادّ لنحت ملامح جديدة لواقع مأمول، بعيداً من التعثّر والانجرار إلى أخاديد الفعل المبني للمجهول.