هاجس الهويّة وحيرة الناخب الفرنسي من أصل عربي
فرنسا هذه لا يبدو أنها قد تتجاوز نفسها في يوم ولو بعيد من الأيام، وتنتخب بكل أبّهة وحماس مسلماً من أصل عربي عمدة لعاصمتها باريس تباهي به جارتها لندن.
كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية في فرنسا، ابتعد الخطاب الانتخابي لأبرز المرشّحين للإقامة في قصر الأليزيه عن مبادئ دستور العام 1958 وتعديلاته المستمدّة من "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" إبّان الثورة الفرنسية التي ألغت النظام الملكي في العام 1789؛ القانون الذي يكفل "المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز في الأصل أو العِرق أو الدين واحترام جميع المعتقدات".
هذا الخطاب الانتخابي يُميّز كل التمييز بين المواطنين الفرنسيين من أصول أوروبية بيضاء شقراء والمواطنين من أصول عربية أو أفريقية سمراء، وهو تمييز يتعدّى المستوى الجغرافي إلى السحنة واللغة واللهجة والدين والثقافة والتقاليد الموروثة من بلد المنشأ.
هذا التمييز الذي يُعتبر في حالة المواطنين الفرنسيين من أصول عربية وإسلامية نوعاً من الفصل أو العزل العنصري، تشارك فيه كل من الدولة من خلال الإهمال أو التقصير أو سوء التقدير، والرأي العام الفرنسي الذي يميل أكثر فأكثر نحو رفض الآخر المختلف، وإن كان يحمل الجنسية الفرنسية، وله الحقوق نفسها، وعليه الواجبات نفسها، وفقاً للقانون كأي مواطن آخر.
يمتدّ هذا التمييز ليشمل مجالات متعدّدة، أخطرها الاستمرار في التعامل مع هذه الفئة من المواطنين الفرنسيين، وكأنهم ما زالوا مهاجرين. ومع ذلك، تطلب منهم، بل تفرض عليهم الامتناع عن الظهور بأي مظهر أو التصرّف بخلاف السائد في المجتمع الفرنسي المغرق في طابعه الأوروبي.
من هنا، سنّ القوانين المتعلقة باللباس والرموز ذات الطابع الإسلامي، كمنع الحجاب في المدارس والإدارات العامة والمؤسسات الخاصة، بناء على طلب أصحابها. ولا يتسع المجال هنا لذكر كل أشكال الإكراه التي توضع لها قوانين، لكي يبدو الأمر وكأن "الآخر المختلف" إنما يخالف القانون باختلافه، لا أن هذه القوانين المستصدرة عند الحاجة شوفينية إلغائية في جوهرها وغايتها.
وطلباً لأصوات الناخبين الميّالين إلى منطق اليمين المتطرف واليمين بوجه عام، يركًز أبرز المرشحن في الانتخابات الرئاسية على ما يسمّونه الخطر الذي يشكّله المهاجرون، وضمناً المسلمون من أصول عربية، على المجتمع الفرنسي.
يمتدّ التمييز ليشمل مجالات متعدّدة أخطرها الاستمرار في التعامل مع المسلمين الفرنسيين وكأنهم ما زالوا مهاجرين، وتفرض عليهم الامتناع عن الظهور بأي مظهر أو التصرّف بخلاف السائد في المجتمع الفرنسي المغرق في طابعه الأوروبي.
ويقدّر عدد المواطنين الفرنسيين المسلمين بنحو 6 إلى 8 ملايين نسمة في غياب الإحصاءات الرسمية، لأن القانون يمنع إحصاء السكان على أساس الدين أو العِرق، وغالبيتهم من أصول مغاربية لأسباب تاريخية تعود إلى حقبة الاستعمار الفرنسي، غير أنهم لا يشكّلون نواة قوة تأثير في الحياة السياسية، نظراً إلى تعدد الولاءات والانتماءات إلى بلدان المنشأ وغياب المؤسسات الجامعة للكلمة بينهم، على أن غالبيتهم كانت تصوّت للحزب الاشتراكي قبل تلاشيه الذي بدا واضحاً في الانتخابات الرئاسية العام 2017.
ويبدو أن قسماً لا بأس به منهم سيصوّت للمرشح اليساري الوحيد بمعنى الكلمة جان لوك ملنشون، زعيم حزب" فرنسا الأبيّة"، الذي يدافع عن حق المسلمين في الوجود في أوروبا بكل حريّة ما داموا غير متورّطين في إيذاء أحد، ويدعو إلى التفريق بين الإسلام والإرهاب وعدم اختزال ظاهرة الإرهاب بالمهاجرين. وله رأي متميّز في الحرب في سوريا، يتمثل بأن سببها وقوع سوريا على طريق مشاريع أنابيب النفط والغاز العربية والغربية، ولم يكن أمام الرئيس بشار الأسد من سبيل إلا مواجهتها بالقوة.
أما مرشّحو اليمين الفرنسي العنصري المتطرف، فيجدون في ملف الهجرة والفرنسيين المسلمين المتحدّرين منها كبش محرقة على طريق تنافسهم في ما بينهم، ويتنافس كل منهم مع مرشحي اليمين التقليدي ومع الوسط الذي يمثله الرئيس إيمانويل ماكرون٠
وتفيد استطلاعات الرأي بأن 35% من الفرنسيين ينظرون إلى الإسلام نظرة سلبية، و50% منهم يعدّونه تهديداً للهوية الوطنية. هذه الهوية هي التي يركّز عليها الخطاب الانتخابي للمرشحة الرئاسية مارلين لوبان، زعيمة "حزب التجمّع"، وهو الاسم الجديد للجبهة الوطنية التي أسّسها والدها جان ماري لوبان، والذي أحدث مفاجأة عندما وصل في الانتخابات الرئاسية في العام 2002 إلى الدور الثاني مع جاك شيراك، الذي فاز عليه فوزاً ساحقاً، بفضل إجماع كل الأحزاب والتيارات السياسية على انتخابه، منعاً لوصول الزعيم اليميني المتطرف إلى قصر الأليزيه. الأمر نفسه حصل في انتخابات العام 2017 التي وصلت فيها ماري لوبان إلى الدور الثاني مع إيمانويل ماكرون، ولقيت الهزيمة نفسها التي لقيها والدها.
يقدّر عدد المواطنين الفرنسيين المسلمين بنحو 6 إلى 8 ملايين نسمة غالبيتهم من أصول مغاربية، غير أنهم لا يشكّلون نواة قوة تأثير في الحياة السياسية نظراً إلى تعدد الولاءات والانتماءات إلى بلدان المنشأ، وغياب المؤسسات الجامعة للكلمة بينهم.
نقاء الهوية الوطنية هو ما ينشده اريك زيمور، المرشح الرئاسي المنشق عن مارلين لوبان، ومنافسها الحالي على زعامة اليمين المتطرّف. بالنسبة إليه، إنَّ "الهوية الفرنسية تتعرّض لهجوم إسلامي، وبعض الأحياء هجرها الفرنسيون بعد أن أصبحت مدن غزو إسلامي".
ويرى هذا الصحافي من أصل يهودي جزائري أنَّ "أسلوب الحياة الفرنسي هو التحدّي في الانتخابات الفرنسية، وأن التحوّل الديموغرافي في فرنسا يقود إلى جمهورية إسلامية أو حرب أهلية".
ويتوعّد زيمور المسلمين بإجبارهم على تغيير أسمائهم ومنعهم من إطلاق اسم محمد على أبنائهم. تتحفّظ مرشحة اليمين التقليدي من حزب الجمهوريين عن مثل هذه الدعوات العنصرية، وإن وعدت بإجراء تعديل دستوري حول ملف الهجرة في حال فازت في الانتخابات التي يبدو أنها لن تنال في دورها الأول إلا نسبة قليلة من الأصوات.
أما ماكرون، المرشح لولاية رئاسية ثانية، فلم يتأخّر هو أيضاً في العمل على سحب البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف، بتبنّي بعض مقولاته، ولكن بلغته الخاصة وفلسفته للأمور، وذلك بالطريقة التي استصدر بها القانون الخاص بفكرة تجريم "الانفصالية الإسلامية " الصادر تحت عنوان "احترام مبادئ الجمهورية"، وفرض الرقابة على أئمة المساجد، وحظر النشاط السياسي على الجمعيات الإسلامية.
من هذا المنطلق، تهدف الدولة من بين ما تهدف إليه، كما يرى المراقبون، إلى وقف حملات التضامن مع الشعب الفلسطيني، على غرار ما تقوم به الجمعيات اليهودية التي تساعد الكيان الإسرائيلي، وتشكيل نوع من اللوبي اليهودي لا تعترض عليه السلطات الفرنسية.
وكان ماكرون قد تطرّق إلى موضوع الهوية الوطنية في مقابلة مع مجلة "اكسبرس" الفرنسية معتبراً أن" أصحاب البشرة البيضاء هم العمود الفقري للهوية". ألهذا يصرّ ماكرون على ألا يزعجهم الأشخاص أصحاب البشرة السمراء مثلاً؟ وعلى هؤلاء أن يمشوا مطأطين رؤوسهم احتراماً للتقاليد السائدة في فرنسا بلد الإقامة؟
لا يبدو أن فرنسا قد تتجاوز نفسها في يوم ولو بعيد من الأيام، وتنتخب بكل أبّهة وحماس مسلماً من أصل عربي عمدة لعاصمتها باريس تباهي به جارتها لندن.
هذه بعض مواقف ماكرون من مواطنيه المتحدّرين من المهاجرين الأوائل. هو الذي تدلّ كل الاستطلاعات على أنه سيفوز بولاية رئاسية ثانية، مجتازاً الدور الانتخابي الأول براحة، والفائز بأكثرية راجحة في الدور الثاني،أياً كان منافسه.
هكذا يجد المواطن الفرنسي المسلم من أصول عربية وأفريقية نفسه في حيرة من أمره. كيف ينظر إليه المجتمع والدولة؟ أهو مواطن مثل سائر مواطني الجمهورية؟ أو هو دخيل عليهم غير مرغوب فيه؟ وكيف له أن يصنع لنفسه وضعاً يمكّنه من فرض نفسه كشريك في الوطن الفرنسي، لا يتنكر لوطن الآباء والأجداد وثقافتهم ومعتقداتهم وقيمهم الاجتماعية والدينية؟
كلمة أخيرة: ثمة مفارقة ذات مغزى هي أن المملكة المتحدة أو بريطانيا العظمى التي أرست أقدم نظام ديمقراطي، وأبقت على الملك أو الملكة رمزاً وطنياً مبجّلاً، لكنه مجرّد من أي سلطة تنفيذية، لا تجد صعوبة في التعامل مع مكوّنات الأمة الموروثة من عهد الاستعمار الأكبر في العالم كله، وتنتخب مسلماً من أصل باكستاني عمدة لعاصمتها لندن.
أما فرنسا التي قطعت ثورة 1789 رأس ملكها لويس السادس عشر، وألحقت به رأس الملكة ماري أنطوانيت، وأصدرت "إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، وجعلت شعارها "حرية،مساواة، أخوّة"، فهي تبدي عسر الهضم هذا، المتمثل في عجزها عن التعايش والتكامل مع مكوّناتها ذات البُعد الاستعماري هي أيضاً.
فرنسا هذه لا يبدو أنها قد تتجاوز نفسها في يوم، ولو بعيد، من الأيام، وتنتخب بكل أبّهة وحماس مسلماً من أصل عربي عمدة لعاصمتها باريس تباهي به جارتها لندن.