نصري شمس الدين: "أنا سِيد المُعَنّى والفصاحة"
رثته السيدة فيروز بكلمات مؤثرة، وأعماله لم تزل حيّة إلى اليوم.. ماذا تعرفون عن صاحب "هدّوني هدّوني"؟
تتّشح حنجرة نصري شمس الدين (1927-1983) بجمال صوته العريض، وسلاسته وعذوبته وطواعيّته ونقائه، وبقماشةٍ صوتية فريدة، وكذلك بالمساحة والمدى اللذين يغطّيهما من دون نشاز وبارتياح فائق، فيما يتغلغل إحساسه البهيّ تلقائياً بين شعاب صوته الصدّاح.
تزيد مكانة نصري شمس الدين عن كونه مجرد مغنٍّ ومطرب نُحت صوته في تاريخ الفن العربي، إذ يشكّل في خلاصة ما أدّاه حالةً غنائية سيّالة، ذات أثرٍ ونكهةٍ ممهورَين بالتميّز في عمق الرحلة والتجربة الخالدتين. صوت نصري مقِيمٌ بتجذُّر في الهويتين اللبنانية والعربية، كان ولا يزال جاذباً بأناقته الفخمة التي لا يشوبها استعراض، مريحاً للأذن في وقْعِهِ الحسَن الرخيم المشبع بالظلال الدافئة، وبمراوحِهِ التعبيرية التي كان يجيد التحكّم فيها. وبالإضافة إلى موهبته الغنائية يُعَدُّ ممثلاً موهوباً، اتّصف أداؤه بالجودة الخالية من أي تكلّف أو اصطناع، وكانت إطلالته وحضوره محبّبَيْن إلى الجمهور.
في مشهد "المصالحة" الحواري الغنائي المعروف، الذي جمعه بالراحل وديع الصافي والسيدة فيروز، غرّد نصري بهذه الكلمات المنغَّمة: "أنا سِيد المْعَنّى والفصاحة بهالساحة العلّية وكل ساحة/وسَيفي بيمسح الأعدا بحَدّو متل ما بتمسح الأرض المساحة". ليُجيبه وديع الصافي: "رماني الدهر بالمِتلَك رماني وفوارس راكعة تسقي حصاني/ إنت وبنتك إختك والسليلة وبدّي متلكُن سبعة تماني!".
ذكر سمير يوسف الحاج في كتابه المعنون "أوزان الشعر العامّي"، أنّ المْعَنَّى قد أعطى اسمه للزجل عموماً، "فكان يُقال للشاعر الزجلي: قُوّال مْعَنّى. وغالباً ما يُستعمل المْعَنَّى في المحاورات الزجلية" (صفحة 47).
هكذا تبدَّتْ على سبيل المثال أهمّية نصري، وتمظهرَ مدى تمكُّنه من الفولكور بإطاره المطوَّر في الغناء، وبرز صوته في تحدٍّ تاريخي إبداعي آسر، يعكس أيضاً تكافؤ القيمة الغنائية مع علمين من أعلام الغناء العربي.
إلى جانب إسهامه المضيء في المسرح الغنائي الرحباني، تمثيلاً وغناءً، في مسرحيات منها "ميس الريم"، "صح النوم"، "لولو"، و"هالة والملك"، شارك سينمائياً في أفلامٍ منها "سفر برلك"، "بنت الحارس"، و"بيّاع الخواتم".
كان صوت نصري جبلياً محلياً ومشرقياً عربياً من جهة، وميسراً للدرامية Dramatisation في بُعدها ومفهومها العالميين. واتّسم أداؤه في تسجيل "هيهات يا بو الزلف طِيروا وتعوا لَيّا" برشاقةِ الزخارف المقتضبة السريعة، في اختلاجاتٍ صوتية طفيفة مدروسة، وتجلّى في "الميجانا" و"العتابا" وسواهما في نطاق ألوان التراث الشعبي اللبناني.
ابن بلدة جون في جبل لبنان كان بارعاً من المقامات العربية، وقد لمع في "هدّوني هدّوني"، و"لا لا لَهْ لا لا قتّالة عيون الهوى"، علماً بأنّ الأغنيتين على نوْل مقام "البيات"، و"يا مارق عالطواحين" و"ما أحلاها"، وموّال "قالوا انساها حاج دايب بالغرام"، و"رقّصتك بالعيد رقّصتيني"، و"منتزاعل ومنرضى وبتضلّك تعتبي"، و"ليلة المحطّة جمعتنا"، و"كيفُن حبايبنا"، التي تشكّل بمفردها تحفةً غنائية سامية، وفي الكثير من النماذج الغنائية لمؤلّفين وشعراء وملحّنين كثيرين ومتنوّعين.
وإلى جانب أعماله المعروفة، ثمّة أعمالٌ أخرى له لم تنَل الحظ نفسه من الشهرة، مثل قصيدة "نالت على يدها" للشاعر الوأواء الدمشقي، التي لحّنها حسن غندور.
لم يأخذ نصري شمس الدين المكانة الشعبية التي توازي قيمة الفن الذي قدّمه، وربما يعود ذلك إلى رحيله المبكّر (55 عاماً)، والمكانة الخاصة التي للسيدة فيروز والراحل وديع الصافي عند الجمهور، وكذلك في السنوات التي أعقبت رحيله بسبب الهبوط الثقافي العام وطغيان الموجة التجارية في الأغاني، التي خُصِّصت لها فضائيات تبثّ من دون توقّف، وبسبب إهمال الدولة للفنانين الكبار وعدم الاهتمام بنتاجاتهم في حياتهم وبعد موتهم.
في ذكرى مرور 40 عاماً على رحيله، التي تُصادف في الـ18 من آذار/مارس، نستحضر كلمات السيدة فيروز في رثاءه، التي لا تعكس حالها فقط، بل حال الفن الذي تمثّله أيضاً: "بالماضي كنت أُنطرَك بفرح، اليوم رَح إتذكّرَك بحزن... نصري يا رفيقي الوفي وفنّاني الكبير... في شي بفنّي زاد لأنّك جيتْ... وفي شي نُقِص لأنّك رِحِتْ... كنتْ ربحي الكبير... وخْسِرتَك يا نصري...".