مفاتيح السياسة الروسية.. الأوراسية والمخاوف من توسع "الناتو"
يوضح وايت أن شيئين يعكسان مسار السياسة الروسية: الأول هو مشاعر العزلة وعدم الأمان والثاني هو الإعتقاد بأن روسيا تمثل حضارة أوراسية.
يؤكد ستيفن وايت في كتابه "مفاتيح السياسة الروسية" الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت، أن طريقة حكم روسيا مسألة تهم العالم أجمع مباشرة، وليس الروس فقط.
ويوضح وايت أنه حتى ولو لم تعد روسيا الإتحاد السوفياتي، إلا أنها لا تزال تشكل سبع مساحة العالم، إذ تمتد على قارتين وتغطي 11 منطقة زمنية مختلفة. كما أنها عضو مؤسس في الأمم المتحدة وتحتل أحد المقاعد الدائمة في مجلس الأمن، وتعد أحد أهم الدول ذات القدرات والتقنيات العسكرية المتقدمة جداً، وتتمتع بأحد أضخم أقتصاديات العالم، إذ لديها مخزون من الموارد الطبيعية يعد من بين أكبر الإحتياطات في العالم وهي تشكل جزءاً من توازن الطاقة مع كثير من الدول الأوروبية والدول الأبعد.
ويبين وايت في كتابه الموسوعي أن زوال الإتحاد السوفياتي ليس بالضرورة زوال مصادر الإنقسام الأقدم. ففي عهدي بوتين وميدفيديف جرى كرد فعل استعداد بالغ للدفاع عن مصالح روسيا ضد الثورات الملونة. ولكن بأي طريقة؟.
أشارت النقاشات التي دارت في عهدي بوتين وميدفيديف إلى ثلاثة أجوبة مختلفة: استراتيجية" "الغربنة الليبرالية"، أو الخيار "القومي المتطرف" أو اتخاذ موقف "قومي براغماتي" بدا أنه قريب إلى موقفي السلطات الحاكمة نفسها.
تعتبر الشخصية الروسية أن من واجباها العمل على تطبيق "المهمة المقدسة" وهي عودة روسيا التاريخية كإمبراطورية. فيبين وايت أن شيئين يعكسان مسار السياسة الروسية: الأول هو مشاعر العزلة وعدم الأمان. والثاني هو الإعتقاد بأن روسيا تمثل حضارة أوراسية فريدة تواصلت إلى ما بعد العام 1917 في الأيديولوجية الماركسية – اللينينية التي اعتبرت الإتحاد السوفياتي بطل الإشتراكية المحاصر في العالم. وقد تأكدت هذه الرؤية مع سعي الجيوش الأجنبية إلى إسقاط الحكومة السوفياتية بعد الثورة مباشرة، وغزو البلاد مجدداً في حزيران/ يونيو عام 1941.
إن التعداد السكاني الكبير لروسيا ومساحتها الشاسعة جعلاها منعزلة وعكس عليها تأثيراً جغرافياً. فقد تعرضت الأراضي الروسية بحدودها الكبيرة للغزو والاحتلال مرات عدة من قبل قوى خارجية. فتعرضت موسكو للحرق مرتين على أيدي تتار. واحتلها البولنديون في القرن الـ17 ونابليون في القرن الـ19 وكاد الألمان في عهد هتلر يحتلونها من جديد خلال الحرب العالمية الثانية.
تأثر الليبراليون الروس بالنظام الدستور الغربي مقارنة بنظامهم الأوتوقراطي، وكانون يرون دولتهم عضواً منفلتاً نوعاً ما من الحضارة الأوروبية. ومال الوطنيون والمتحفظون أكثر إلى رؤية روسيا دولة تتمتع بتاريخ وثقافة فريدة ودولة يجدر بها أن تبحث في تقاليدها عما يلائمها من النظام الإجتماعي. وقد أيدت الكنيسة الأرثوذكسية التي كانت شبه منحازة للسيادة القومية الروسية أفكارهم هذه، وقد ساعدت على تعزيز الشعور بأن الروس "شعب متميز يتمتع بقدر حضاري خاص".
كان هم الرئيس بوتين الأول بعد وصوله إلى سدة الرئاسة عام 2000 هو إعادة مكانة روسيا التاريخية وأن تخرج من مرحلة اقتصاد نزع الأسلحة التي كان اقترحها الرئيس السوفياتي الأخير ميحائيل غورباتشوف لتعود إلى مكانها الطبيعي كقوة عظمى وصاحبة ثاني أقوى جيش في العالم.
يوضح وايت أنه لطالما كان طموح الروس الظفر بمرافئ على المياه الدافئة في الجنوب وإنشاء شبكة من الدول التابعة لها في أوروبا الشرقية كوسيلة لتعزيز دفاعات البلد في وجه القوى القارية الأخرى. فقد كانت روسيا قوة آسيوية أوروبية بدءاً من القرن الـ16، يوم بدأت سلاسل الغارات الأولى تخضع سيبيريا لهيمنة الامبراطورية.
ويشير المؤلف إلى أن المسألتين الأهم بالنسبة لروسيا هما:
الأولى الهيكلة الأمنية لأوروبا ما بعد الشيوعية، وتحديداً توسيع الناتو. فقد اعتبر كثير من الروس بعد انهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991 أن توسيع حلف الناتو إلى أوروبا الشرقية والوسطى يهدد بانقسام القارة ويشكل تهديداً لأمنهم يعادل في خطورته المواجهة العدائية التي وقعت اثناء الحرب الباردة. وقد بعث الرئيس يلتسين في عام 1993 برسالة احتجاج إلى القادة الغربيين لدخولهم المبكر إلى دول أوروبا الشرقية مقترحاً عوضاً عن ذلك تعزيز الأمن الجماعي. وردت الولايات المتحدة على ذلك باقتراح "الشراكة في سبيل السلم". وقد استجابت قمة الناتو عام 1994 لهذا الاقتراح ورفضت في الوقت عينه الدخول المبكر إلى دول أوروبا الشرقية.
وقد أصر حينها الرئيس يلتسين على "اتفاقية خاصة تلحظ "منزلة روسيا ودورها في شؤون العالم الأوروبية والقوة العسكرية والمكانة النووية لبلدنا". وعاود يلتسين تأكيده بأن روسيا لا يمكنها أن تقبل انتقال حدود الناتو إلى حدود روسيا. وقد اعتبر حينها تصريحه هذا أحد أقسى التصريحات الدولية في موسكو منذ سقوط الشيوعية.
وعلى الرغم من ذلك لم تستطع روسيا وضع فيتو على دول أوروبا الشرقية التي أرادت دخول عضوية حلف الناتو الذي أعلن موافقته في عام 1997 في قمته السنوية في مدريد على عضوية المجر وبولندا وجمهورية التشيك كأعضاء جدد في الحلف ثم أعقبها الموافقة عام 2004 على انضمام جمهوريات البلطيق (إستونيا،لاتفيا، وليتوانيا) الثلاث وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفنيا كأعضاء جدد ثم في عام 2009 تبعتها ألبانيا وكرواتيا.
شكل التوسع الأضافي للناتو قلقاً لروسيا أكثر من السابق وتحديداً الإنضمام المحتمل لأوكرانيا وجورجيا، لكن الظروف كانت مختلفة. فبدا الرأي العام في أوكرانيا معادياً لانتساب بلده إلى الناتو. ولم تكن الدول الغربية بدورها راغبة بالإضرار بعلاقتها الأهم بكثير مع موسكو أو تولي المسؤولية التي ستلقى على عاتقها وهي الدفاع عن كامل أراضي دولة عضو، قيادتها متقلبة، إذا انخرطت أو حتى تورطت في صراع عسكري مع روسيا.
ومع ذلك وافق حلف الناتو في قمة بوخارست عام 2008 على أن تصبح جورجيا وأوكرانيا عضوين فيه في مرحلة معينة. وقد كان ذلك بمثابة فتح الباب أمام هواجس روسية لا نهاية لها. فأوكرانيا بحسب "العقيدة الروسية" جزء أساسي من "أوراسيا" التي تسعى روسيا لتطبيقها.
الثاني: الخلاف حول نصب منظومة الدفاع الصاروخية في وسط أوروبا حيث بدأت دول الناتو الغربية تقيم قواعد عسكرية على الحدود الروسية وتخطط لنصب دفاعاتها المضادة للصواريخ في دول الأعضاء الجدد: بولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وجمهوريات البلطيق.
وقد اقترح الرئيس بوتين رداً على ذلك ضرورة "رد قوي جداً" على الدفاعات المضادة للصواريخ التي يُقترح نصبها في وسط أوروبا. وأعقبه إعلان النائب الأول لرئيس الوزراء السابق سيرغي إيفانوف في أيار/ مايو عام 2007 عن الإختبار الناجح لصاروخ باليستي عابر للقارات قادر على التغلب على أي منظومة من منظومات الدفاع الصاروخي الراهنة او المستقبلية. ووفق محللين غربيين يحمل الصاروخ الجديد عدداً من رؤوس نووية مما يجعل سقوطه شبه مستحيل وبمقدوره أن يصيب أهدافاً على بعد أميال.
وعاود بوتين الرد في شباط/ فبراير ومجدداً في تشرين الاول/ أكتوبر 2007 بإعلانه بأن روسيا تفكر في الإنسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى التي وقعت في 1987 بين الرئيس الأميركي في حينه رونالد ريغان ورئيس الاتحاد السوفياتي يومذاك ميخائيل غورباتشيف، لأنها "لم تعد تخدم مصالح روسيا". وقد وصفت هذه المعاهدة "بالتاريخية" لأنها ألغت فئة كاملة من الصواريخ يراوح مداها بين 500 و5000 كيلومتر.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر عام 2018، أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن واشنطن ستنسحب من هذه معاهدة، متهماً روسيا بأنها "تنتهك منذ سنوات عديدة" هذه المعاهدة. وقد رد ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين مباشرة على ذلك بقوله إن روسيا ستضطر للرد بالمثل إذا بدأت الولايات المتحدة تطوير صواريخ جديدة بعد الانسحاب من هذه المعاهدة.
وقد اعتبر مصدر روسي لوكالة نوفوستي يومها بأنّ هذا القرار يندرج في إطار السياسة الأميركية الرامية للإنسحاب من هذه الاتفاقيات القانونية الدولية التي تضع مسؤوليات متساوية عليها وعلى شركائها. وقال المصدر إن "الدافع الرئيسي هو الحلم بعالم أحادي القطب".
وقد اعتبر السيناتور الروسي أليكسي بوشكوف في تغريدة على تويتر أنّ قرار ترامب الانسحاب من المعاهدة هو "ثاني ضربة قوية تتلقاها منظومة الاستقرار الإستراتيجي في العالم"، مذكراً بأن الضربة الأولى تمثلت بانسحاب واشنطن من "معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ لباليستية" في عام 2001. وأضاف بوشكوف: "مجدداً إن الولايات المتحدة هي الطرف الذي بادر للانسحاب من المعاهدة".
وقد أعلنت الولايات المتحدة، في الأول من شهر / شباط/ فبراير 2019 أنها ستعلق التزاماتها المفروضة عليها بموجب الاتفاقية.
وقد ردت روسيا على ذلك بتعليق مشاركتها في هذه المعاهدة. وقال الرئيس الروسي "أعلن شركاؤنا الأميركيون تعليق مشاركتهم في المعاهدة وبدورنا نعلق مشاركتنا أيضاً". ولم يكتفِ بذلك بل أعلن أن روسيا ستبدأ في تطوير صواريخ جديدة.
يؤكد وايت أن كل هذا يمثل "أسوأ خلاف حول الحد من التسلح خلال الحقبة التالية للحرب الباردة ويقارن ذلك مع أزمة الصواريخ الأوروبية في الثمانينات، عند ما أدى نشر صواريخ كروز في القارة الأوروبية إلى تظاهرات شعبية عارمة، وقد أشار بوتين نفسه إلى حالة مشابهة لأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 عندما وقف العالم أجمع على حافة حرب نووية.
ويخلص المؤلف في كتابه "مفاتيح السياسة الروسية" إلى أن الدبلوماسيين الروس في ظل حكم بوتين وخلفه، واستغلالاً للنفوذ الذي منحتهم إياه مواردهم الطبيعية الهائلة وأسعار النفط المرتفعة، وجدوا أن فرصة أكبر قد سنحت لهم لتوكيد أولوياتهم.. وأمست البيئة الدولية أكثر تنافسية وأحياناً أكثر احتداماً بالفعل.