ماَثر الشعب المصري في حرب أكتوبر
في قرابة 32 عنواناً صحافياً ترصد "الكعك والبارود"لقطات قريبة للمصريين الذين رسموا دونما اتفاق مسبق بينهم مشاهد خالدة عن حرب أكتوبر.
لم يخطر ببال العدو الصهيوني أن يرى في ملحمة أكتوبر فلاحاً مصرياً يعبر مع الجنود مرتدياً جلبابه غير عابئ بالقنابل التي تتساقط إلى جواره، ولم يصدِّق أن الطبيب المصري سيقود سيارة الإسعاف، ويساعد في تنظيف المستشفى، ويقاتل من أجل إنقاذ حياة الجرحى، ولم يتصوَّر أن المهندس سيقود بنفسه سيارة "كسح المجاري"؛ لأن سائق العربة استُدعي لأداء الخدمة العسكرية، ولم يتخيَّل أن المدرّس تفرَّغ لإعطاء دروس خصوصية مجانية، بينما ذهب الطالب صائماً إلى مدرسته ليتعلّم قواعد الدفاع المدني. بدت أشياء خارقة، رغم بساطتها. وهذا ما يرصده محمد توفيق في كتابه الأحدث "الكعك والبارود"، وهو الجزء الثاني من كتابه "شيء من الحرب".
في قرابة اثنين وثلاثين عنواناً صحافياً أرشيفياً يرصد الكاتب لقطات قريبة لناس مصر الذين رسموا دونما اتفاق مسبق بينهم مشاهد خالدة على الضفة وداخل البلاد؛ يتوقّف خلالها الكتاب عند تفاصيل قريبة لفتاة تبرّعت بجهازها (كلّ ما اشترته للزواج) للمجهود الحربي، وعامل ضاعف إنتاجه أثناء صيامه، وسيّدة تتبرّع بتنظيف أرضية المستشفى من آثار الدماء، ولصّ يتوب حين سمع بيان العبور، وفقير يتبرّع بقوت يومه، وجندي يصرّ على أن يحمل زميله المصاب إلى الجبهة الأخرى حتى يطمئن عليه، والخياطة التي تنازلت عن أجرها -لجيشها- رغم أنها كانت في أمسِّ الحاجة إليه.
لقطات من شريط حياة المصريين في خمسة أيام سبقت الحرب
انطلق توفيق من استرجاع تفاصيل اجتماع سريّ لقيادات الجيشين المصري والسوري في راس التين قبل الحرب بعشرة أيام، حيث الإسكندرية مليئة بالمصطافين، المصريين والعرب، ليرصد الحالة الاجتماعية والتي تشتبك مع حالة الحرب في كثير من التفاصيل، عبر عناوين الصحف المصرية الرئيسية (المانشيتات) في ذلك الوقت، والتي ترصد اليومي والعادي، مثل "غارة على البلاج"، "الزبدة وصلت الجمعية"، "الرواتب تزحف والأسعار تطير"، "مدافن مناسبة للتعليم".
وكشريط متلاحم من كاميرا تجري متسارعة في طول مصر وعرضها في تلك السنوات الصعبة، يرصد الكتاب كيف جهّزت المدافن لتصير مدارس للطلاب النازحين من مدن القناة، حيث نيران الحرب، إلى ازدحام القاهرة، فتكون المدرسة في حوش أحد المقابر، وتكون إجازتها الخميس والجمعة حيث موعد زيارة الأموات! هذا إلى جانب دوريات شرطة صارت تتابع بشكل يومي المعارك التي تنشب بسبب دورات الكرة الرمضانية التي تقام مساء كل يوم، إلى طوابير الجمعية التعاونية، وتفاصيل يوم المصريين في شهر رمضان خلال خمسة أيام سبقت الحرب حرصت فيها الحكومة على أن يصير كل شيء عادياً.
غاص الصحافي والكاتب المصري في أرشيف الصحافة المصرية، واستردّ الحكايات من ألسنة أصحابها التي انتشرت بعد أن حكاها الجنود الجرحى الذين تفرّغوا ليرووا بطولات رفاقهم الصامدين، الصادقين، الباقين على خط النار. فحين سُئل المقاتل أحمد علي عما فعله في أرض المعركة، أصرّ على ألّا يتحدّث عن نفسه، وآثر أن يروي مآثر صديقه الذي أنقذ حياته.
فعندما أصيب أحمد في المعركة أصرَّ صديقه على أن يحمله على كتفه ويسير به مسافة طويلة حتى يعبرا الساتر القائم على القتال، وحين وصلا إلى شاطئ القناة لم يجدا زورقاً يحملهما إلى الضفة الغريبة، فخلع ثيابه، وسبح حتى وصل إلى الضفة الأخرى؛ وطلب من قائده أن يسمح له بالحصول على زورق بمفرده حتى ينقذ رفيقه، وهو ما تحقّق بالفعل، ليعلّق في النهاية: "تخيّلوا ده كان فرحه قبل يومين من الحرب". إضافة إلى عشرات قصص الأفراد الذين ربما لم تذكرهم المذكرات الرسمية كجنود ولم نعرف عنهم غير أسمائهم الأولى.
لتقابلك بعدها في الكتاب قصة الدكتورة "منى" التي أصرّت على العمل يومياً لمدة عشرين ساعة متواصلة، بينما كانت في الشهور الأخيرة من حملها؛ وأثناء الانتقال بين قصص الكتاب سيقابلك عشرات من (أحمد ومنى) كدليل على وجود الآلاف منهم على أرض الواقع.
زمن غير الزمن
يتحرّك الكتاب بنا تدريجياً إلى زمن غير الزمن، يحوي مصطلحات غابت عن استخدامنا اليوم، مثل كلمة (العدو)، أو كتشبيه الرئيس السادات لاعتداء الصهاينة على الأرض العربية بـ "الغزوات البربرية" في بيانه الذي أصدره بعد أن خرق العدو اتفاقية وقف إطلاق النار، وقتها دفع العاملون في شركات البترول 90 ألف جنيه لدعم المجهود الحربي، في وقت ألغيت فيه إجازة عيد الفطر، وصنعت جمعية الأسر المنتجة 2500 جلابية، و500 بيجامة، و500 بلوفر، وألف طاقية، وتمّ تسليمها لوزارة الشؤون الاجتماعية لتوزيعها على الجنود، بينما اشترى نادي سيدات القاهرة سندات الجهاد بمبلغ ألف جنيه كدفعة أولى، وقام بتصنيع كميات من الملابس وتمّ تسليمها للهلال الأحمر.
في هذا الزمن ستقابل محافظ السويس الذي كان يدير المعركة عبر خط الهاتف الوحيد الذي لم يدمّره العدو، وكان مملوكاً لرجل يدعى "عم عبده البقال" في منطقة عين شمس، وتعجّب الحاج مصطفى البقّال، حين رأى المحافظ يقف أمامه، وقبل أن يسأله عن سبب قدومه، أجابه الخولي "يا حاج أنا مش هربان... أنا جاي أدير المعركة من عندك".
واستأذنه أن يجري اتصالاً عاجلاً بالقاهرة، وأمسك المحافظ بالهاتف وأخبر القيادات بالتحذير الذي تلقّاه من العدو، "إما الاستسلام وإما هدمت المدينة فوق رؤوسكم"، وأبلغهم أنه ليس لديه ماء أو ذخيرة، والدقيق يحترق، واختتم رسالته بكلمة واحدة فقط: "أوامركم".
وبعد دقائق تلقّى رسالة حاسمة من الرئيس: "لا تسليم... المقاومة حتى آخر فرد... الله معكم".
وأعاد الخولي الاتصال ليستفسر عن موقفه، والمكان الذي يباشر منه مهامه، وجاءه الرد: "القيادات تنتشر بين الجماهير"، فطلب المحافظ إبلاغ الرئيس السادات الرسالة التالية: "سنستمر في المقاومة... ودماؤنا ستروي أرض السويس العزيزة فداءً لمصر".
اللافت حقاً أن أهالي المدينة الباسلة لم يكونوا في انتظار قرار المحافظ، فقد بدأوا المقاومة قبل أن تأتي التعليمات من القاهرة.
5 آلاف سويسيّ لم يهاجروا منذ عام 1967، رجال ونساء وشباب وشيوخ وأطفال جميعهم صاروا جنوداً في خدمة المعركة، رغم أن غالبيتهم لم يمسكوا سلاحاً قط، وانضم إليهم ما يزيد على 12 ألف مقاتل، بعضهم من الضباط والجنود، وبعضهم من المقاومة الشعبية التي جاءت تزحف من كل المحافظات لتنال شرف الدفاع عن السويس.
سام ستة عبد اللطيف... السخرية دوماً حاضرة
ولأنّ المصريّين لا يستغنون عن سلاح السخرية في أيّ مواجهة؛ فقد حدثت حالة فزع بين الطيارين الإسرائيليين من كثرة إسقاط طائراتهم بصاروخ "سام 6"، فقد صار هذا الصاروخ الذي صنعه الروس، وأتقن استخدامه المصريون كابوساً يطارد العدو، حتى أصبح جزءاً من أغنية أنتجها الوجدان الشعبي بخفة ظله، وغناها وقتها المونولوجست والفنان الكوميدي محمود شكوكو: مغرم صبابة يا بابا بتلات ستات... بستة أكتوبر وسام ستة وست ساعات، ويشاء القدر أن يتأثر بالأغنية مواطن مصري يعمل في أحد المصانع يدعى عبد اللطيف الذي كان في انتظار مولود ليقرّر أن يسمي ابنه "سام ستة".
ولم يكن سام ستة عبد اللطيف هو الملمح الأوحد في أحداث حرب أكتوبر الذي يمتزج بتاريخ المصريين الممتد في إنتاج السخرية من كل شيء هام أو مفزع، فالكتاب يرصد أيضاً أن المصريين في شهر الصيام يستهلكون ثلاثة أضعاف كمية الأكل التي يستهلكونها في الأيام العادية، حتى صار "الكرش المصري" حديث المؤتمرات الطبية بعد أن أكدت دراسة علمية أن من بين كل عشرة من أصحاب الكروش في العالم هناك ثلاثة مصريين.
بين أحوال التعليم والحالة الاقتصادية للبيت المصري، وتحوّل سلوكيات الناس في يوم وليلة حين تيقنوا من بدء الحرب واستعدادهم للتضحية بكل غالٍ والاستغناء عن كل ضروري، حتى كتبت اللافتات على أفران الإسكندرية "سنخبز الكعك بعد النصر". دار كتاب توفيق ووثّق لقصة الانتصار بالبارود من خلال حكايات الكعك ولوازم شهر رمضان ومصروفات المدارس وطوابير الجمعية التعاونية؛ ليرينا أجواء المعركة الأهم في تاريخ مصر الحديث كما لم نرها من قبل.