"ما الذي تريد يا موت؟".. أصدقاء حسن عبد الله يرثونه
أصدقاء الشاعر حسن عبد الله يرثونه. شعراء وروائيون وكتاب يتحدثون عن صاحب "الدردارة" وشخصيته الساحرة، وهذا ما قالوه.
الشاعر محمد علي شمس الدين
هذه الكلمات لا أكتبها بعد موت حسن عبد الله. كنت كتبتها طيلة الأسبوع الفائت مرافقاً لديوان "راعي الضباب"، وقد عدت له وغالباً ما أعود له لأني أحبه. طريف ومريح، وبرغم الدراما مرح وحتى مع الموت... ومع المرض ومع الحب الذي هو بالنسبة إليه جرح يدمله ويضحك ومع الحرب.
جداً طريف ومفاجئ حسن عبد الله ولم أجد أحداً قال أو يقول ما يقوله... في الحب مثلاً، في قصيدة "مرّ عام" يقول بعد انحلال الحب: "لا أحب/لا أحب.. وحدتي قلعتي/حيث جسمي قوي وقلبي منيع وسرّي مقدس/ أية امرأة تتقدم من جنتي هذه سأواجهها بالمسدس".
يا لجمال ما أقرأ ويا للخفة والمفاجأة والطرافة وانتزاع الشوك من قلب المحب المكسور. حسن عبد الله ليس رخو الأحاسيس، هو حاد. عفوي ومريح ومفاجئ، يحوّل كل ما يصادفه لشعر، وكل ما يلمسه لشعر ودهشة. وأي شعر؟ شعر حر بريء طازج جديد بسيط وعميق وساخر وساحر ولا يذكرني إلا بنفسه. ربما أوحى لك بأنه مباشر، أي يكتب الشعر بتلقائية وبلا تكلف، تماماً كما يدخن أو يلقي بملاحظة ساخرة. لكن التروي في قصائده من "الدردارة" إلى "أذكر أني أحببت"، إلى "راعي الضباب"، يشير إلى شاعر يفكر في القصيدة ويخطط لها، وحين يتركها تمشي الهوينا يصاحبها ويراقبها ويشذب منها. فالفكرة السابقة تمنحه السرد والحكاية والإيقاعات الخفيفة الحرة وغير القاسية والهندسة المؤكدة.
لعل لشعره إيقاعات الحياة ذاتها في انتطامها ولا انتطامها. هادئ شفاف غير مفجع .طريف صامت صاحب إشارة. حزين لكن بلا تفجع. مرح يضحك على أنف الخطر والكارثة. وهو جريء. يقول في قصيدة "الطبيب الكبير": "إنها لحظة لندخن/ نحن الرجال الظلال/لحظة نفكر فيها بأن الجسوم التي حملت ثقل أرواحنا/عملت كالبغال...".
ويقول بحكمة مرة "الحياة مرض". وفي القصيدة حزن الموت. موت مهدي. ومهدي هو صديقه المفكر الشهيد مهدي عامل (حسن حمدان)، وذكريات الحب والتدريس في صيدا، وفاطمة "فاطمة/ وغياب عميق لمهدي كأنْ مات..."، ومراثي مهدي تزنر الديوان يبدأ بها وينتهي بها. لكن أي رثاء جديد مفاجئ وعميق بلا تفجع.
هذا الذي يكتبه حسن عبد الله في مهدي. في قصائد الفراق "مر مهدي ولم يرها/مر بين الثلاثاء والأربعاء/ ثم اختفى"، "وهو مهدي/وهي الندم القارص العمر/فكر بي ونهاني عن الشعر/قلت له: إنها. ولنسيانها أنا احتاج رطلاً من العضلات".
هنا سحر وليس شعراً،ـ بل شعر برتبة سحر يمزج بين الطرافة والحب والصداقة والموت بضربة واحدة.... وهو أخيراً يمزج بين قبر حرب وقبر مهدي،"قبر حرب أتى وجلس/ معنا ينتظر/قبر حرب أحس/فجأة بالضجر/ومضى وانقضى عصر حرب
وجاء أخوه الصغير".
الآن ونحن على مسافة لا تصدق من موت حسن عبد الله، نرغب في أن يكون موته كمثل قصيدته "وهم من أوهام الربيع"، حيث تلك العناصر الأولية للحياة ربيع وجدول وفتاة دون العشرين "تمشط شعر العجل". طاب للشاعر أن يقطف عصفورين عن الشجرة، وحين لاحظ أنهما لم يخافا منه وسألهما عن سبب ذلك "ابتسما/ وأجابا من أعلى الشجرة /عجباً/ أونهرب من شخص يتخيل؟".
هل مات حسن عبد الله حقاً أم نحن نتخيل أن حسن عبد الله مات؟
***
الشاعر جودت فخر الدين
حسن عبدالله...كنا معاً دائماً
أكثر من 40 سنة ونحن نتسامر ونتجادل ونتفق ونختلف، والصداقة بيننا تزداد تعمقاً وتوسعاً وتنوعاً. وكنا نذهب إلى الآخرين فيملأ المكان الذي نحلّهُ ظرفاً ورشاقة وخفة دم. كان حضوره أينما حلّ يشيع الغبطة والحماسة والأنس. وكم كانت مشاكساته تضفي على مجالسنا حيوية لم نكن نحظى بها من دونه. أما شعره فكان الصورة الصادقة لِما اتصفت به شخصيته من حيوية ورشاقة.
لم أره منذ بدايات الكورونا. ولكنني كنت أشعر بأننا معاً دائماً. سوف يبقى حسن عبد الله بالنسبة إلي ذلك الصديق الذي لا تذهب خصاله ومآثره مع الأيام.
***
الشاعر عبّاس بيضون
البارحة وأنا أقرأ من قصيدة "صور"، لم أكن أعرف أن شقيقتها صيدا تودّع. القصيدتان كتبتا في نفس الوقت وكانتا تحملان ذات اللحظة وذات التطلب. لم يكن هذا هو اللقاء الوحيد بيننا. قاسمت حسن عبد الله بيته وقتاً بعد أن صار الاحتلال على أبواب مدينتي. أحببنا صديقتين كنا نلاقيهما في نفس البيت، ولم استغرب أن يخلط واحد بيننا. لم نكن في يوم الشخص نفسه، لكني بعد أن وصلني خبر حسن في ساعة من الليل، أحسست به خبراً عن نفسي. سأعيش بالطبع. ففي الأونة الاخيرة كنا قلّما نلتقي،لكن لا أعرف، مع ذلك، كيف أكون من دون حسن عبد الله، كيف يكون العالم بدونه؟
***
مارسيل خليفة
شيء ما أصاب الكلام في هذا الليل. ريحاً عاتيةً أقفلت باب القصيدة على الصمت، وأضعناها في الطريق إلى المستحيل.
بحثت عنك في كتاب الذكريات علّ فيه ما يدلّ على رنين صوتك في مسمعي. أمطرني سحابك برائحة بيتنا في المصيطبة.
كنت تردّد آخر أغنية جديدة في الحافِظة. من أين أدخل في الوطن؟
وفي آخر الليل نرتمي لنحتمي من شبح الحروب الصغيرة والكبيرة على أيامنا!
كم نسيت خطوتك في الطريق
كم نسيت محفظتك في يدك
كم نسيت الثُّريّا في سقف الدار
وأنسى ما شئت، لكني لا انسى أنكَ، أنتَ، من منحتنا شريعة القلب، وعلمت أطفالنا الحروف في كتاب الأبجديّة. لم أحسبها نظرة الوداع الأخيرة حين التقينا في الخيام، وذرفتُ - في صمتٍ، دمعتين بعيداً من رقابة عينيك المُحدقتين.
حسن عبد الله شكراً لك.
***
الكاتبة هلا كوثراني
لم أحظَ بالمكالمة الأخيرة. اتصلتُ بك، ثم اتصلتَ أنت، ولم نتكلّم. لقاؤنا الأخير كان في مقهى في بيروت مات مع أشياء أخرى، ماتت. أستاذ حسن، كم كنت مختلفاً، حاضراً بقوة حبك للأدب، بطرافة حديثك وذكائه، وبخفة ظلّك، "ظلّ الوردة".
حسن عبد الله، أذكر صوتك واللكنة الجنوبية، كتب الأطفال التي تحترم مخيّلتهم، العلاقة النبيلة بالأخت، تقدير الزميلات والزملاء، اللطف، الثورة على الروتين (إلا لقاء المقهى مع الشباب).
"لو أنك تكتب كل يوم... متى تصحو؟" سألتك، "لو أنك تنظّم يومك"... لكنك مبدع أصيل، كل هذه التفاصيل لا تهمّك.
آه وكنت مهتماً بالفيزياء والفلسفة طبعاً. وخلال فسحات متفرّقة في المكتب كنت تقطّر عبارات بسيطة هي شعر خالص.
"هي الحياة" تقول وأنت تمشي في الرواق. "من أين أدخل في الوطن؟" استعرناها منك ونحن نحاول أن نفهم ما لا يُفهم.
اختبرنا، نحن الذين لم تربّنا الطبيعة، سحر العلاقة بها من خلال كلماتك.
حسن عبد الله لن ننسى أننا أحببناك.
***
الشاعر شوقي بزيع
الماء يأتي راكباً تيناً وصفصافاً/يقيمُ دقيقتين على سفوح العين/ثم يعود في "سرفيس" بيروت - الخيامْ" .
بهذه الكلمات المؤثرة استهل حسن عبد الله قصيدته "الدردارة " قبل نيّف وأربعين عاماً. والآن قرر الشاعر الذي أهدى إلى الماء أعذب ما جادت به قرائح الشعراء من قصائد،أن يعود برفقته إلى الجذوع العميقة للينابيع الأم، حيث لا تملك الدموع أن تحاكي طهارة قلبه الطفولي، ولا تجد السهول ما يكفي من الإنكسار الحنون، لكي تنقل صوته إلى سنابل القمح.
وداعاً يا أنبل الشعراء، وأغزرهم موهبة، وأكثرهم تواضعاً ونزاهة، وتعلقاً بالظلال. وداعاً حسن عبد الله.
***
الشاعر طارق ناصر الدين
يا خالقَ الموتِ والأحزانِ والشَجَنِ
راعي الضباب نأى مع دمعة الزمنِ
فأيّ طفلٍ ولا تدميه دَمعَتُهُ
وأيُّ أمٍّ ولا تبكي على حسنِ
الوردتان على كِتْفَيكَ أشرقتا
ودمعةٌ لم تزلْ حَرّى بلا وَهَنِ
يا والداً لم يَلِدْ إلا النبوغ وها
أطفالُ شِعرِكَ ملءُ العينِ والأذُنِ
أطْربْتَ دنيا وما هَزَّتكَ فاجعةٌ
أنت الصمود ولو من داخلِ الكَفَنِ
أنساك؟ أنسى عصاماً أو محمَّدَ أو
صحبي ولو أصبحوا في عالم الدِّمَنِ
لا يا ابن عمي أنا من بعدكم حَجَرٌ
يبكي وبحرٌ بلا ماءٍ ولا سُفُنِ
دردارَةُ الحُلْمِ في ليل الخيام بكى
فيها السؤال لماذا البدر لم يَبِنِ؟
هو الأمير الجميل المعتلي أبداً
على السحاب ليحمي حرمة المُزُنِ
ضاقَتْ بحسُّونِها الدنيا فغادرها
ولم يزل حُلْمُهُ الغافي على الغُصُنِ
لو ظلّ في وطني دمعٌ لجاد بِهِ
لكنّهم صادروا عينيكَ يا وطني!
***
الروائي حسن داود
منذ أن قال لخالته "يا خالتي/ وأنا ابن أختك/ إن تمنعيني من صعود الحور والحيطان/ ألعب مع الزعران"، أو حين كتب أنهم، هم الحفارون المنقبون في الأرض، "خطأًً وجدوا سيارة"، صرنا ننتظر من حسن أن يضحكنا فيما هو يبدع.
ليس بالكتابة فقط، بل أيضاً بما يقوله ويحكيه. وكان يساعد الآخرين، رواة نتف من جلساته، ليكونوا خفيفي الظل مثله. من ذلك مثلاً أنه قال لأخته عزيزة التي حاولت إيقاظه لتخبره أن الشباب جاؤوا لزيارته، "افرشيلهن يناموا".
وقد رجع الرواة إلى طفولته بين الدردارة والطريق إلى الدردارة فرسموه كأكثر الأولاد شقاوة وجلبة، منتظرين بذلك احتفال السامعين بما زوره.
في قصيدة الدردارة يخاطب الياس، منادياً، وكل منهما على هضبة ويفصل بينهما سهل مرجعيون أو سهل الخيام، "والياس، والأجراس سالت على آحاد مرجعيون".
ربما كانت هذه الكلمات مختلفة قليلاً عما هي في نصه المنشور، لكني هكذا حفظتها، مثلما ردّدتها، لنفسي ولآخرين كثيرين، مرات يصعب حصرها.
ثم إنك تقرأ ما في الكتاب مرة واحدة لكنك تعيش ما علق منه في ذاكرتك، أو في قلبك، أعواماً وعقوداً. وها أنت ترغب في أن تنقل ما عشته إلى سواك. خذ هذا كتابك يا حسون، إقرأ لنا هذه القصيدة، وأعطيه الكتاب مفتوحاً على صفحتها. ذلك من أجل أن ينال الآخرون بعضاً من تلك السعادة التي منحنا إياها شعر حسون ووجوده بيننا في السنوات ما بين أول الشباب وآخره.
***
الشهار علي العبد الله
ما الذي تريد يا موت
(رحيل الشاعر حسن عبد الله)
ما الذي تريد يا موت من الشعراء
لتدق الباب دونما إذن وتمضي
بهم في قطارك الغريب السريع
لتترك أقلامهم فوق القصائد تبكي
ما كتبت من أغاني للأمهات والشهداء،
على أحزان المدن، والبائسين تحت
الجسور.
هكذا بهم واحداً تلو الآخر بهم
تنأى عن ليلك السفوح في الخيام
والقمح، والبدر، والليالي الممطرة
بالامس، محمد، وعصام، وعماد
فما الذي أبقيت لنا نحن العطاشى
واليتامى..
أيها اللص الخفي من أين تأتي
وإلى أين تمضي يا خفي الملامح
المخيفة!
الذي لا صوت له، ولا بصمة إبهام
سوى تلك الوحشة الهائلة التي
تنهش القلوب
هكذا يا موت تضرم على شفاه المحبين
الإبتسامة، وفي الاحداق تضيء
الدموع
كي تسعد أنت بالوداع الحزين إلى
أن تأتي مرة أخرى لتأخذ آخرين
في نفس القطار.
***
الشاعر سرجون فايز كرم
إنّها الصورة الأولى التي أضعها مع شاعر غادر، ولكنّ هذا الوطن من دون شعرائه الجنوبيين يبقى وطناً ناقصاً وربّما باهتاً. يوم قيل لي في بيروت: هذا حسن عبد الله، صحت: أجمل الأمهات التي انتظرت؟
ولم أتردّد لوهلة أن تكون هذه القصيدة التي رافقتنا في طفولتنا وشبابنا جزءاً من أنطولوجيا الجنوب اللبناني الشعرية.
مؤسف جداً أنّنا لن نحملها إليه حين صدورها.
حسن عبدالله لك الرحمة.
***
الشاعر عبد الغني طليس
مات الشاعر الكبير حسن عبد الله الذي سنبكيه بأصابعنا الليلية، ووجوه نهاراتنا الذابلة، وسنلقي على ترابه باقة من الابتسامات التي صفّقت لهُ، وأنصتَت إليه، وعانقَتهُ.
هدّه المرض منذ أشهُر، ولم يكن وحيداً. كانت أخته رباب ملاكَه الذي يحملُه يومياً إلى "ملتقى خيرات الزين"حيث كنا نلتقي ونقرأ ونضحك.
دمعتان ووردة عليك يا حسَن.
***
الشاعر نزيه أبو عفش
وحيداً، أُنادمُ نفسي، وأتذكُر حسن عبد الله أجملَ شعراء لبنان منذ نصف قرنٍ مضى.. وأَحَبَّهم إلى ضميري.
أتذكّره، وأستعيد - بيني وبين نفسي - قصيدته العملاقة.. جوهرةَ شعره وأشعارِ جيلنا الجاحد: "الدردارة". أتذكره وأحزن.
حسن! يا حسن!.. أين أنت؟
حسن، يا حسن!.. ماذا فعلوا بك؟
حسن، يا أجملَ حسن:
أشتاقك وأحبك.
***
اتحاد الكتّاب الّلبنانيّين
في لحظة فارقة غاب الشاعر حسن عبد الله تاركاً للأجيال إرثاً غنياً من الجمال الشعري الذي جسّد ربيع الطبيعة بسندسها الأخضر ورقرقة جداولها ودردارتها الرمز، وصوتاً هادئاً رقيقاً يصدح حباً لأجمل الأمهات تزف شهيداً يدفع المحتل عن أرضه، ولوحة طبيعية غنية بألوان الحياة والعشق والتمرد.
رحل الشاعر حسن عبد الله وهو من الرعيل الأول في "اتحاد الكتّاب الّلبنانيّين" وقبله رحل آخرون وفي قلوبهم جميعاً حرقة على وطن تبارى أهل السياسة في تدميره وتدمير أحلام بنيه.
رحم الله الشاعر عبد الله وألهم أهله ومحبيه ورفاقه الصبر والسلوان.