لماذا غابت الفعاليات الثقافية عن أمسيات رمضان بالخرطوم؟
على غير العادة، غابت الفعاليات الثقافية عن الخرطوم خلال شهر رمضان الحالي.. ماذا يكشف سودانيون عن الأسباب؟
على غير عادتها، تحولت العاصمة السودانية في رمضان الحالي من مركز إشعاع ثقافي إلى مدينة مظلمة وهادئة ومنزوعة الروح، جراء غياب النشاطات الثقافية التي كانت تشرق عادةً مع مغيب الشمس في أيام الشهر الفضيل، ما يطرح تساؤلاً عن سر هذا التحول الدراماتيكي والمخيف في آن، وخصوصاً إن كان سمة لما سيأتي بعده.
ومع التزامنا التنويه بنهوض بعض الفعاليات المتناثرة هنا وهناك، لكن الوضع العام في الخرطوم يؤشر إلى تراجع كبير في النشاط الثقافي والفكري، ولا سيما إن قورن رمضان الحالي بالمواسم السابقة.
الانفلات الأمني
يذهب معظم من استطلعتهم "الميادين الثقافية" إلى أن حالة الانفلات الأمني التي تشهدها الخرطوم تعد بمنزلة القدح المُعلى ضمن أسباب تراجع الأنشطة الثقافية خلال رمضان الحالي.
وقد تراجع الأمن بشكلٍ لافت في العاصمة الخرطوم، وتنامت ظاهرة عصابات السطو المسلح التي تستهدف المارة وأصحاب المركبات على حدٍ سواء، مع انتشار عصابات نهب الهواتف والحقائب عبر الدراجات النارية المعروفة شعبياً باسم "9 طويلة".
ويؤكد الخبير الأمني، العقيد المتقاعد جعفر زين العابدين، أنّ التدهور الأمني يؤدي في العادة إلى تراجع كل الأنشطة الحياتية، ومن ضمنها بالطبع النشاط الثقافي.
وقال زين العابدين لــ "الميادين الثقافية" إن "حركة الأهالي خفتت في العاصمة بشكل كبير، خشية الاصطدام مع التشكيلات الإجرامية التي تنشط مؤخراً، وبعضها يركز وجوده في محطات النقل العام، وخصوصاً خلال الفترات المسائية".
وأضاف: "الأوضاع الأمنية دفعت معظم سكان العاصمة إلى التنقل للضرورات، والضرورات القصوى، مع الحرص على العودة في أوقات مبكرة".
وفي هذا الصدد، أشار زين العابدين إلى نقطة جوهرية، متمثلة بوجود معظم المقار والمراكز الثقافية في قلب الخرطوم، في مناطق مكتظة بالمؤسسات والمحال التجارية، وهو أمر كان يجعلها في السابق مناطق مناسبة لإقامة الأمسيات الثقافية لسيادة حالة كبيرة من الهدوء فيها، ولكن الهدوء نفسه وقلة المتحركين حوّلها، للمفارقة، إلى منطقة مستهدفة من العناصر الإجرامية.
صبغة سياسية
رغم وضعه الاعتبار الأمني في أعلى قائمة أسباب غياب المنتديات والفعاليات الثقافية في العاصمة السودانية، يقول الصحافي والمنتج المتخصص في الفنون والمنوعات أيمن كمون إن هناك أسباباً أخرى غير بعيدة عن الأمن، وعلى تماس مباشر مع السياسة.
ويشير كمون في حديث مع "الميادين الثقافية" إلى أن "القبضة الأمنية التي يفرضها قادة انقلاب 25 أكتوبر 2021، وانخراط مجموعات كبيرة من المفكرين والمثقفين في الاحتجاجات المناهضة للحكم العسكري، كلها أمور نتج منها تراجع النشاط الثقافي بشكلٍ ملحوظ في كل أنحاء البلاد".
ولفت كمون إلى معرفته الشخصية بأعداد من الشباب المثقف القابع وراء القضبان حالياً لبواعث سياسية، وهو ما يراه أمراً كافياً لتعطيل الحياة الثقافية في الخرطوم.
وأطاح قائد الجيش عبد الفتاح البرهان الحكومة الانتقالية بقيادة المدنيين، عبر آلية الانقلاب، وجمّد العمل بجل مواد الوثيقة الدستورية الحاكمة، وأعلن حالة الطوارئ في البلاد.
وشدد كمون على أن "المزاج الشعبي الحالي في السودان ينزع إلى العمل الجماهيري الهادف إلى إحداث تغيير سياسي لاستعادة المسار المدني الديموقراطي"، مُذكراً بــ "جدول التصعيد الصادر عن قادة الاحتجاجات، والذي يغطي بفعالياته معظم أمسيات شهر رمضان الحالي".
واقتربت الاحتجاجات المناهضة للانقلاب في السودان من دخول شهرها السادس، رغم سقوط قرابة 100 قتيل منذ صبيحة الانقلاب.
أسباب أخرى
يوافق الصحافي المتخصص في الثقافة والفنون، عبد الله برير، على كلام من سبقوه في وضع الأمن في ذروة الأسباب المؤثرة سلباً في النشاط الثقافي.
وقد أضاف في حديثه إلى "الميادين الثقافية" أسباباً اقتصادية تؤدي دوراً لا يقل أهمية في "فرملة" النشاط في أمسيات رمضان.
ويقول برير إن "الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وزيادة كلفة النقل والمواصلات بنسبة كبيرة ساهمت بشكل كبير في خفوت الحركة الثقافية، ليس في رمضان فحسب، إنما في كل أشهر السنة أيضاً".
وازداد التضخم في السودان إلى 263%، وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء، في وقتٍ تراجعت العملة المحلية مقابل سلة العملات الأجنبية، ووصل سعر الدولار الواحد إلى أكثر من 570 جنيهاً في التعاملات الرسمية للبنوك والمصارف التجارية.
ومن النقاط البالغة الأهمية التي دفع بها برير في حجيته لتراجع العمل الثقافي في رمضان الحالي، هو برمجة قطوعات الكهرباء التي تشمل ساعاتٍ مسائية ونهارية بالتناوب.
وقال إن معظم القائمين على أمر النشاط الثقافي لا يجدون دعماً من السلطات، وبالتالي معظم المراكز الثقافية تعتبر توفير مولدات للطاقة لإقامة الفعاليات أمراً فوق طاقتها ما لم يكن رفاهية متكاملة الأركان.
وأشار إلى نقطة أخيرة، متمثلة بتفضيل عدد كبير من نجوم المجتمع الفني والثقافي صيام شهر رمضان خارج البلاد، لأسباب ذات صلة بالكهرباء والطقس.
وتصل درجات الحرارة في نهار رمضان الجاري، المتزامن مع فصل الصيف الحار، إلى ما يزيد على 40 درجة مئوية.
وفي ظل شح النشاط الثقافي غير الربحي، رصدت "الميادين الثقافية" وجود إعلانات لبعض الفعاليات الغنائية المدفوعة في عددٍ من فنادق الخرطوم الفارهة ونواديها.
وتتخذ الفنادق والمقاهي والنوادي من فقرات الغناء عوامل جذب للترويج للوجبات التي تقدمها أثناء رمضان (الإفطار، العشاء، والسحور).
ويشكل رمضان الحالي رمضان للنسيان بالنسبة إلى معظم مثقفي السودان، ولكن جُلّ مخاوفهم اليوم بألا يكون ما جرى حدثاً استثنائياً، وإنما سمة مميزة للمواسم الثقافية المقبلة، وخصوصاً أن كل أسباب التأثير الأمني والسياسي والاقتصادي لا تزال حاضرة في المشهد.