كيف يتعامل الاحتلال الصهيوني مع العمال الفلسطينيين؟
في حال اصطدام أي فرد فلسطيني من العائلة مع الجنود المحتلين لسبب حقيقي أو غير حقيقي يُحرم جميع إخوته وأقاربه من العمل ويسحب التصريح منهم بحجة أن الأقارب سيعاودون الانتقام منهم والثأر لأقربائهم المقتولين.
هنالك قصص مخفية عن معاناة الشعب الفلسطيني الذي بقي في أرضه في البلدات والقرى، بغض النظر عما جرى ويجري من تصفيات ومجازر جماعية بالدم والنار، يقوم الباحث "ماتيو فكري" بتسليط عدسة كاميرته عن قصة العمال الفلسطينيين في المستوطنات الإسرائيلية في كتابه " تشغيل العدو" من ترجمة يزن الحاج - مركز دراسات ثقافات المتوسط لعام 2023 من خلال لقاءات ميدانية أجراها مع شرائح متعددة من العمال المجبَرين على العمل في المستوطنات وتحليل آلية وجودهم وعملهم، بالإضافة إلى لقاءات مع أصحاب العمل وبعض المتنفذين، لينتهي إلى خلاصة مريرة عن ذلك الواقع المؤلم والحصار المهدد للوجود ولقمة العيش.
تقتصر مجالات العمل المتاحة للفلسطينيين، الذين اقتُلعوا من أراضيهم الخصبة ومن بيوتهم، على أعمال البناء والأعمال الزراعية التابعة للمستوطنات، فمن أقسى ما يكون أن يساعد عمل العمال الفلسطينيين على توسيع المستعمرات الصهيونية غير الشرعية بحكم القانون الدولي لكونهم مضطرين إلى العمل في المشاغل الإسرائيلية بعد أن تم نزع أراضيهم منهم، وتدمير عملهم الأساسي في الزراعة، وتربية الحيوانات، بالإضافة إلى ما تنتهجه الإدارة العسكرية من تحجيم للتنمية الاقتصادية وإبقاء اقتصادهم ضعيفاً وهشاً، ضمن ظروف سيئة وأجور متدنية وحرمان من التأمين الصحي ومخاطر العمل القاسية، على رغم محاولة الإسرائيلي تقديم صورة براقة إلى الخارج بأنهم يساعدون جيرانهم ويؤمنون لهم عملاً.
يتساءل الكاتب عبر لقاءاته الميدانية بنماذج وعينات من العمال الذين يعملون في مستوطنات "بيتارعيليت" –"جيلو"-"هارجيلو"-" معاليه أدوميم"
فكونهم مرغمين على العمل ليضمن واحدهم قُوت أسرته يقبلون الحد الأدنى للأجور. وعلى رغم التعامل المهين لجنود العدو في نقاط التفتيش حتى لمن لديه تصريح عمل ومعاناة كذلك لعدم تأمين تصريح بالعمل وأي شكوى من المعاملة أو الأجر يهدد بسحب التصريح، فهم يتجمّعون منذ الثالثة صباحاً تحت جنح الظلام خوفاً من البنادق الإسرائيلية لمن لا يمتلكون تصاريح عمل فينامون في مقارّ العمل أسبوعين متتاليين. وهنا يستغل صاحب العمل حاجتهم فيقلل أجورهم الضئيلة، ناهيك بالتمييز المنتشر بشدة، بحيث يتقاضى العامل الإسرائيلي ضعف الأجر الذي يناله العامل الفلسطيني في العمل ذاته، بالإضافة إلى ظروف عمل أفضل، وإن عدم توثيق العمل أو التعاقد يفوت على العمال التأمين الصحي الذي يفترض أن يتحمله صاحب العمل وسيتم بسهولة طرد أي عامل يعترض لأن البديل موجود بحكم وجود طوابير الواقفين المنتظرين أي فرصة عمل.
كذلك، يحاصرهم الإسرائيلي بتقييد الطرق التي يسيرون فيها، فهو ينشئ شبكة طرق سهلة وميسرة وتختصر المكان في مناطقه ويقوم بالعكس بالمناطق الفلسطينية، إذ يجعل الانتقال في الضفة الغربية ومن مكان إلى آخر أكثر صعوبة بتطويل الطرقات وتصميم شبكات الطرق بشكل يقطع الأوصال بين البلدات والمدن في الضفة الغربية عبر حجز كل مجموعة في كانتوتات ضيقة بشكل يمنعها من التواصل مع أقربائها أو معارفها في الجهة الأخرى. والمفارقة أنه كلما اتخذ قرار ببناء مستوطنات جديدة زادت فرص عمال البناء الفلسطينيين على الرغم من أنه في جوهر الأمر سيتم قضم مزيد من أراضيهم وتقليص المساحة التي يعيشون فيها كمعتقل في أرضهم، على رغم مطالبة منظمة هيومن رايتس ووتش شركات المستوطنات كافة بالكف عن الأنشطة المتعلقة بالمستوطنات فوراً.
تضم "إسرائيل" الأراضي المملوكة للفلسطينيين بحجج متعددة، منها إنشاء محميات طبيعية أو عبر ذرائع وأغراض عسكرية على الرغم من أن أغلبيتها سلمت لاحقاً لإقامة مستوطنات عليها أو عندما يعدّونها أراضي دولة وفقاً للقانون العثماني الذي يَعُدّ أي أرض لم تزرع مدة ثلاثة أعوام متعاقبة أرض دولة. طبعاً أصحاب الأرض لا يستطيعون الزراعة لأن سلطات الاحتلال تمنعهم عن ذلك، أي هي خدعة محبوكة للاستيلاء على الأرض، والحصول على عمل يتم من خلال وسيط يؤمن لأصحاب العمل التنكر للبنود الواردة في التصريح وادعاء جهله لها وكذلك العمل من دون تصريح يجبر العمال على قبول أجر أقل والعمل ساعات أطول.
عمالة الأطفال جريمة تحت أنظار العالم:
عمالة الأطفال منتشرة بكثرة في المستوطنات، الأمر الذي يصر المستوطنون على إنكاره دائماً. يدعم الكاتب ملاحظاته من خلال مقابلات بين العمال وأصحاب العمل، ومنهم الذين نفوا أن يكون ثمة عمال أطفال لديه بدعوى أن الفلسطينيين دائمو التذمر، لكن يضطر الفتية الصغار، في غياب معيل لأسرهم نتيجة إبعاده أو سجنه أو استشهاده وأيضاً قبولهم بأي أجر.
إن أقصى درجات إذلال الاحتلال هي العمل كأجراء في الأرض المنهوبة التي كانت ملكاً لعوائلهم ضمن شروط عمل سيئة للغاية، بحيث لا يمكنهم التنقل في التلال القريبة ولا يمكن أن يقوموا برعي ماشيتهم في الجوار، بالإضافة إلى العار الذي يشعر به كل من يعمل في المستوطنات مما يجعله يكتم الأمر حتى عن أهل بيته، الأمر الذي يجعل الظلم الذي يتعرض إليه مكتوماً وغير معروف للعلن، فتتمادى سلطات الاحتلال في أكل الحقوق والتضييق عليهم باستمرار.
السلطة الفلسطينية تجرم كل من يعمل في المستوطنات بالحبس مدة خمسة أعوام، ويُنعَت كل من يعمل في المستوطنات بأنه عمل غير مبرر إطلاقاً، بالإضافة إلى وصمه بالخيانة، على رغم عجزها عن تأمين فرص عمل له في مناطق سلطتها.
معذبو الأرض المقدسة:
في حال اصطدام أي فرد من العائلة مع الجنود المحتلين لسبب حقيقي أو غير حقيقي يُحرم جميع إخوته وأقاربه من العمل ويسحب التصريح منهم بحجة أن الأقارب سيعاودون الانتقام منهم والثأر لأقربائهم المقتولين. وعلى رغم كل ذلك فإنهم مضطرون إلى العمل دوماً لإعالة أسرهم وإنقاذهم من غائلة الجوع. والأمر الأشد غرابة وبلوى أن بعضهم يساهم في بناء سجون ستكون مستقبلاً سجناً لهم ولإخوانهم، وأي هفوة تعرضهم للطرد، فالتأخير لو لمرة واحدة حتى لو كان سببها نقاط التفتيش أو وجود قريب بالعائلة قتل على أيدي القوات الصهيونية أو القيام بتشكيل جماعة أو نقابة للمطالبة بحقوق العمال، أو وفقاً لعامل العرض والطلب وحاجة الإنتاج أو لمجرد أنهم لا يحبونك، فالسلطات غائبة ومتجاهلة ما دام الأمر يتعلق بواجباتها تجاه العمل، لكنها حاضرة بشدة لتطبيق قوانينها التعسفية لأدنى تهمة حتى لو تم اختلاقها.
فات منظمة حماية العامل أن العمال الفلسطينيين بلا أب إسرائيلي، أي السلطات الإسرائيلية المخولة حمايتهم تخلق التباساً في فهم القوانين بأن الضفة الغربية تابعة للأردن وبلا أم فلسطينية، أي السلطة الفلسطينية، التي ترفضهم نتيجة قبولهم العمل في المستوطنات. وفي المقابل، لا تؤمن لهم فرص عمل بديلة، مع العلم بأن منظومة العمل تضم استخدام شبكة ألكترونية متطورة تدون بدقة عالية وقت دخول العامل وخروجه وعدد ساعات العمل، إلا أن الشركات ترفض تزويد المحاكم بها في النزاعات والشكاوى القائمة، وفي أحسن الحالات الزمن الكبير الذي يقتضيه النظر والبت في أي قضية عمالية، الأمر الذي لا يحتمله الواقع المعيش. وعلى رغم أن القانون يضمن للمصابين في أثناء العمل الاستشفاء في المستشفيات الإسرائيلية فإن أصحاب العمل يرفضون تبليغ المستشفيات بهذه الإصابات، وأيضاً لا تعطي للعمال فواتير بأجورهم كي لا يرفعوا عليها قضايا لدى محكمة العدل الإسرائيلية بشأن أي نزاع مستقبلاً.
التنظيم النقابي:
في النهاية، فإن الخذلان والانتهاك للحقوق وتعرضهم للعنف، نفسياً وجسدياً، ولإساءات عنصرية ودينية، هي عمل ممنهج ومتعمد لدى السلطات والشركات الإسرائيلية. ونقابات العمال الفلسطينية لا تتبع الهستدروت ولا تتبع السلطة الفلسطينية، وليس في يدها أي صلاحيات ويقتصر دورها على تثقيف العمال بحقوقهم وتحسين واقعهم التفاوضي على الرغم من أن تطبيق القانون في المستوطنات مشروخ بالأصل لأن أصحاب العمل يطردون فوراً كل من يحاول تحريض العمال على الإضراب أو المطالبة بحقوقهم. وعلاوة على ذلك يجبرونهم على توقيع وثائق بأنهم يتقاضون أجورهم كاملة وضمن الحد الأدنى للأجور، ومن يمتنع يُطرد بسبب سهولة تأمين البديل نظراً إلى نسبة البطالة العالية الموجودة فيها.
يُعَدّ فلسطينيو الضفة الغربية عمالاً من الدرجة الثانية، إذ غالباً ما يكلَّفون الأعمال اليدوية الشاقة، مثل البناء والزراعة كونها رخيصة وقابلة للاستغلال، وهذا الحرمان من العمل في أي مهن أخرى تاريخي، وقبل اتفاقيات أوسلو وقبل حرب 67، فالفلسطينيون يعانون التمييز في سوق العمل بالإضافة إلى العداء من بيئتهم الاجتماعية التي ترفض تشغيلهم لدى الإسرائيلي، وكمن وضع بين المطرقة والسندان، بالإضافة إلى أن الفلسطينيين "غير المواطنين" في "إسرائيل" يشكلون قوة عمل جاهزة وأكثر رخصاً نتيجة الأوضاع المتردية والتي تتردى باستمرار، بعد أن صودرت أراضيهم ومجالات عملهم السابقة. كذلك، فإن الهرمية الاجتماعية في واقع "الدولة اليهودية" قائمة، إذ يعامَل اليهود الأوروبيون في أعلى السلم الاجتماعي، يليهم اليهود المتوسطيون، ويأتي اليهود العرب في درجة تتقارب مع الفلسطينيين إلى حد ما.
خنق الاقتصاد الفلسطيني:
لم يكن من الممكن حصر الفلسطيني في هذه الأعمال التابعة لإرادة المحتل لولا أن هذا الأخير حاصر وقمع كل إمكان للتنمية الاقتصادية الذاتية، إذ صادر الأراضي ومنع المياه وحرمهم من إمكان التبادل التجاري، فمنع استقدام كل ما يتعلق بالمبيدات والبذور والعلف، ناهيك بعدم السماح لهم ببيع منتوجاتهم ومحاصرة أسواقهم، وخصوصاً بعد البروتوكول الذي أبرم في باريس بشأن اعتماد الشيكل الإسرائيلي عملةً موحدة في جميع المناطق، بالإضافة إلى أن كل عمل أو بناء يخص التنمية في هذه المناطق يتوجب الحصول على تصريح بشأنه، وهذا من المحال. أما محاولة تصنيع البضائع فصارت كذلك من المستحيلات لأن التعاقد مع الشركات للحصول على المواد الخام غير مسموح، والمحاولة عبر طرائق أخرى مع تعقيدات النقل تكلف أموالاً طائلة لا قدرة للسكان عليها، وفي الوقت ذاته هم محرومون من إمكان توليدها محلياً بسبب القوانين الجائرة والتعقيدات وأذونات التصاريح المستحيلة.
تجمع "إسرائيل" الضرائب من الجميع لكنها تتحكم في أجور الفلسطينيين حتى في مناطق السلطة الفلسطينية.
سكان قرية الزبيدات مزارعون، والمنطقة أرضها خصبة عبر سهول الغور وملائمة لرعي الماشية، لكنهم الآن ليسوا سوى قوة عمل لمستوطنة أرجمان لأن أراضيهم ضُمت وباتت من نصيب الاحتلال، فأغلبيية القرى الفلسطينية معزولة فيما بينها بمناطق إطلاق نار عسكرية وحقول ألغام في الشمال. وقرية الزبيدات نفسها مقسومة بين المنطقة ب و ج، حيث يزدحم السكان في مساحة صغيرة من القرية تبلغ نحو 36 دونماً، لأن الجزء الأكبر منها، نحو 4087 دونماً، يقع في المنطقة ج التي تسيطر عليها حكومة العدو. ففي أريحا وهي أكبر تجمع حضري يمكن أن يتوافر فيها بعض الأعمال في مجال الخدمات، لكن الوصول إليها صعب ذهاباً وإياباً على رغم أن الحافلات الإسرائيلية موجودة بكثرة؟، لكنه ممنوع على الفلسطينيين استعمالها، ومن المتعذر الوصول إليها مشياً نتيجة أخطار الحواجز ورصاص الإسرائيلي. وبالتالي تقلص عمل الزراعة والرعي، وسُدّ أفق العمل تماماً أمام سكان القرية. والقياس نفسه على سائر القرى والبلدات الفلسطينية، فهناك أكثر من 60 كيلومتراً من الطرقات لا يسمح للفلسطينيين بالمرور فيها، والمسموح بها هناك المئات من حواجز التفتيش المهينة. وهناك الجدار العازل الذي يبلغ امتداده 707 كيلومترات، والذي يحد بصورة كبيرة من حرية انتقال الفلسطينيين على رغم اعتراض محكمة العدل الدولية على هذا الأمر. وهو لا يعوّق الانتقال بين الضفة الغربية والمستوطنات فحسب، وإنما يعوّق أيضاً التنقل كذلك من أجل الحد من الحركة الحرة للبضائع والناس وعرقلة إمكان تطور الاقتصاد المحلي الضعيف بالأصل.
جيش احتياطي من العمال:
إن وجود فائض من احتياطي القوة العاملة نتيجة فرص التنمية المنعدمة وفرص العمل المتدنية خلقت معدلات بطالة عالية وجيشاً من العاطلين. وذلك يعود بالنفع على الرأسماليين الإسرائيليين من جراء التحكم في أجور العمال ووجود البديل بشكل فوري كون وجودهم قريباً من مكان العمل، وقابلية استبدال البعض منهم ممكنة وسريعة من دون أي قلق من أجل التعويضات أو رأي النقابات العمالية المجمدة، إضافة إلى ظروف العمل السيئة وعدم القيام بالتدريب اللازم الذي يحميهم من الأخطار وعدم إدراجهم في التأمين الصحي ونظام التعويضات في حال الاستغناء عنهم.
يميل الماركسيون إلى استخدام مفهوم الطبقة في التحليل الاقتصادي، وهو يعني دمج مشاكل العمل بين "المواطنين" الفلسطينيين مع "غير المواطنين" ومع العمال اليهود، إلا أن المسألة هنا لا تتوقف على الصراع الطبقي بين الرأسماليين والعمال كطبقتين متناقضتين في المصالح، وإنما على توجيه "الدولة" الصهيونية وقيادتها العسكرية المرتبطة بأفكارها القومية والدينية كذلك، فهذا الجيش الاحتياطي من العمال غير المواطنين خلقته "الدولة" ذاتها.
المخالفة الصريحة للقانون الدولي:
ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "لكل إنسان حق العمل، وفي حرية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومرضية". وفي الحماية من البطالة نلاحظ أن كل هذه الشروط غير متوافرة بفعل التقييدات الإسرائيلية في منظومة التحكم في التصاريح والسيطرة على سوق العمل وعدم السماح بالخيارات الأخرى للعمل من خلال تقييد حركة الدخول والخارج خارج المكان.
وعرّفت منظمة العمل الدولية عام 1930 اتفاقية السخرة بأنها العمل الذي يفرض عنوة على أي شخص تحت التهديد بأي عقاب، والتي لا يكون هذا الشخص قد تطوع بأدائها بمحض اختياره، وهذه العبودية تنطبق بشكل عام على فئة المهمشين أو الأقليات التي تعاني تمييزاً جائراً في العمل وكلها تنطبق على العمال الفلسطينيين في المستوطنات الذين هم في النهاية ضحايا ذلك العمل القسري وفق تعريف منظمة العمل الدولية.