كنوت هامسون.. الجوع والنازية ومانيفستو الحداثة الروائية
اعتبره البعض "أبو الأدب الحديث" وقرين دوستويفسكي، فيما حاربه آخرون بسبب مواقفه السياسية المثيرة للجدل. ماذا تعرفون عن الأديب النرويجي كنوت هامسون؟
الكتابة عن الروائي النرويجي كنوت هامسون (1859 - 1952) شائكة ومحفوفة بالمخاطر، فالرجل الذي نال جائزة "نوبل" في الآداب عام 1920 دافع عن النازية بشراسة، ووصف أدولف هتلر بالـ"متحرِّر من جميع الأمراض التي جلبتها الحضارة المادية"، وعدّ موته "موت آخر العمالقة المُنقذين"، كما اعتبر النازية "الخلاص الروحي لأزمة الفرد في المجتمع الاستهلاكي، المضادّ للإنسان والطبيعة".
على الرغم من ذلك، وبالالتفاف حول مواقفه السياسية والنظر فقط إلى منجزه الأدبي، الذي سبق نشوء النازية زمنياً، يمكننا القول إنّ هامسون يُعتبر رائد الحداثة الروائية، أو صاحب أول مانيفستو للحداثة الروائية، فيما يذهب البعض أبعد من ذلك إلى حدّ اعتباره "أبو الأدب الحديث" وقرين دوستويفسكي، أو زعيم الثورة الرومانسية الجديدة مطلع القرن الـ20، مؤيّدين في ذلك قول الأديب الألماني توماس مان، الذي فاز بجائزة "نوبل" سنة 1929، حين صرّح أنّ "جائزة نوبل لم تُمنح قط لكاتب أكثر جدارة بها من كنوت هامسون"، بالإضافة إلى قول الروائي الأميركي إرنست همنغواي، الذي اعتبر هامسون معلّمه، بإعلانه صراحةً: "علّمني هامسون الكتابة".
موجز حياة حافلة
وُلد كنوت هامسون في ـ4 آب/أغسطس من عام 1859، وهو ابن رابع لأسرة فقيرة مكوّنة من 7 أفراد. في الـ3 من عمره، انتقل مع أسرته إلى أقصى شمال النرويج. وعندما بلغ الـ8 تمّ إرساله للعيش مع عمّه، الذي عامله معاملة قاسية وصلت إلى حدّ ضربه وتجويعه أحياناً، الأمر الذي تسبّب بإصابته بعصبيّة مزمنة، كما ذكر لاحقاً.
لم يدخل هامسون المدرسة إلا بعد أن بلغ الـ9 من عمره، وعلى فترات متقطّعة لم تتجاوز 252 يوماً خلال 6 سنوات.
هرب من عمّه في العام 1874، وقد وصفه مراراً بـ"الأعزب الدنف، والبخيل الكز، والحاد المزاج"، وكذلك بـ"مَلَك الموت ذي اللحية الحمراء". ذهب بعد قراره إلى مسقط رأسه "لومي"، محاولاً كسب عيشه بنفسه عن طريق العمل في أية وظيفة متاحة: كاتباً لمخزن تجاري في "ترانوي"، وصانعاً للأحذية في "بودوي"، وبائعاً جوالاً في مناطق شمالي النرويج، ومساعداً لمفوض الشرطة في "بو"، وعاملاً بأشغال مدّ الطرق في "توتن"، ومعلماً في مدرسة ابتدائية في جزر "لوفوتن" النائية.
وعند بلوغه الـ17 من عمره، اشتغل عاملاً عند صانع حبال، وبدأ الكتابة الأدبية ناهلاً من مختلف التجارب القاسية التي مرّ بها. وكانت بدايته في الكتابة مع روايته "الرجل الغامض، قصة حب من شمال النرويج" (1877)، ثم روايته الثانية "بيوركر" (1878).
انتقل في العام 1878 إلى العاصمة كريستيانا (أوسلو اليوم)، إلا أنّه عانى طوال فترة إقامته من مختلف أنواع الصعوبات الحياتية، ما يتقاطع مع حكاية بطل روايته الشهيرة "الجوع"، فقرر السفر إلى الولايات المتحدة عام 1882، ثم في عام 1886، وأقام في كل مرة سنتين، حيث عمل في مختلف الوظائف، وكتب عن انطباعاته هناك كتاباً بعنوان "الحياة الثقافية لأميركا المعاصرة" (1889)، كما التقى بمارك توين وكتب عنه مقالة نُشِرت باسم "كنوت هامسون"، عوضاً عن اسمه الحقيقي "كنوت هامسوند"، فاختار هذه الاسم لنشر بقية أعماله.
في العام 1890، وكان في الـ30 من عمره، انتشر اسم هامسون بسبب روايته "الجوع". ثم توالت رواياته، ومنها "الأسرار" (1892)، التي يصرّح فيها باحتقاره للديمقراطية وتأثّره بنيتشه، ثم رواية "بان، من أوراق الملازم توماس غلان" (1894)، التي أخذت شكل مذكرات صياد، ثم "فكتوريا" (1898) التي تُعَدّ الرواية الوحيدة الخالصة عن قصة حب لهامسون.
نشر هامسون نحو 20 رواية، وعدداً من القصص القصيرة، ومجموعة من القصائد، وعشرات المقالات. وقد تُرجم عدد من رواياته إلى اللغة العربية، منها "الجوع" و"فكتوريا" و"بان" و"واخضرت الأرض" و"أسرار" و"الأرض الجديدة".
بعد سقوط النازية قُدِّم هامسون إلى المحاكمة، وحُكِم عليه بالإعدام، لكنّ الحُكم لم يُنفَّذ بسبب حملة أطلقها كبار الكتّاب في العالم، مثل جان بول سارتر وإرنست همنغواي ووليام فوكنر وجيمس جويس وهنري ميلر، فخُفّف الحكم عنه، وتمّ إخضاعه للعلاج النفسي كما صُودرت أملاكه، إلى أن مات في العام 1952.
وقد تناولت عدّة كتب سيرة هامسون وقصة حياته، منها كتاب الكاتب النرويجي إمغار سلاتن كولو، "كنوت هامسون، الحالم والغازي"، الذي يضيء فيه على جوانب غير معروفة من حياة الكاتب الشهير.
حكايته مع هنريك إبسن
في مقالة لها في صحيفة "الغارديان" البريطانية، تُرجِع الكاتبة النرويجية توريل موي مسرحيّة هنريك إبسن، "سيّد البنّائين"، إلى قصة تربطه بكنوت هامسون.
يجيء في الحكاية أنّه في خريف سنة 1891، أعلن الكاتب الشاب كنوت هامسون أنّه سيُلقي 3 محاضرات في الأدب النرويجي. امتلأت قاعة المحاضرات بالحضور، وجلس في الصف الأمامي أعلام من الثقافة النرويجية، منهم هنريك إبسن.
شنّ هامسون خلال المحاضرة هجوماً عنيفاً على الكُتّاب المبجّلين في الأدب النرويجي، وفي طليعة هؤلاء هنريك إبسن بالطبع، حيث قال إنّ مسرحياته تفتقر إلى العمق النفسي، وأضاف أنّه مفكّر سيئ وكاتب سيئ. مما قاله أيضاً في هذه المحاضرة أنّ إبسن كلّما حاول أن يكون عميقاً، كانت النتيجة خشبيّة وغير واضحة ورمزية للغاية ومملّة.
تذكر توريل في مقالتها أنّ إبسن كان مفتوناً بكلام هامسون، وعاد بعد يومين لحضور محاضرة أخرى له. بعد ذلك كتب واحدة من آخر مسرحياته، وهي مسرحية "سيد البنائين"، التي يمكن اعتبارها صراع أجيال، ويمكن قراءتها وفقاً لهذه الحكاية على أنّها تدور بينه (يمثّله في المسرحية بطلها هالفارد سولنس) وبين هامسون (الذي يمثله الشاب راجنار بروفك).
"الجوع": ملحمة الكرامة الإنسانية
تُعد رواية "الجوع" أشهر روايات هامسون، وربما هي التي منحته كلّ ألقابه الأدبية المستحقة. أثناء كتابة هامسون للرواية، أرسل رسالة إلى إدفارد براندز، قال فيها إنّه لا يريد أن يكتب للنرويجيين فحسب، وإنما للبشر بشكل عام أينما وَجدوا أنفسهم.
ربما بسبب ذلك، وُصفت رواية "الجوع" من قبل النقاد بأنّها "ملحمة الكرامة الإنسانية"، لأنّها "قدّمت التجربة الإنسانية من داخل الإنسان"، كما يقول أحمد الحقيل.
إنّ رواية "الجوع" لا تُقرأ فحسب، ولكنّها تُعاش، لأنّها تجربة كاتبها الحقيقية أيضاً. وقد قال هامسون عنها إنّها "محاولة وصف حياة العقل الغريبة الفريدة، غموض الحركة العصبية في جسد جائع".
كُتب عن روايات هامسون مقالات ودراسات كثيرة، خاصة روايتي "الجوع" و"أسرار"، تنسبها إلى "تيار الوعي"، الذي ساد بعد هامسون في أعمال فيرجينيا وولف وجميس جويس ومارسيل بروست.
تنتمي الرواية إلى الزمان الذي تُقرأ فيه، وليس إلى ذلك الذي كُتبَت خلاله. إنّها التجربة الإنسانية في كل زمان ومكان، ولا ريب أنّ هامسون وصل إلى مناطق مخفية ومخيفة في النفس البشرية، لم يصل إليها سواه. وفي الختام لا بُدّ من العودة إلى ما قاله توماس، الذي صرّح بأنّه "لم تُمنح جائزة نوبل قط لكاتب أكثر جدارة بها من كنوت هامسون".