كتاب "تراجع النيوليبرالية وسقوطها": هل دخلنا في عالم ما بعد النيوليبرالية؟
الباحث ديفيد كايلا يُصدر كتاباً يحاول من خلاله تحليل تحولات الرأسمالية خلال القرن الـ20، بالعودة إلى بداية نشوء "النيوليبرالية"، واستعراض الأزمات التي تعرّضت لها على امتداد العقود الماضية.
صدر حديثاً كتاب "تراجع النيوليبرالية وسقوطها"، للباحث والأستاذ الجامعي الفرنسي ديفيد كايلا.
يهدف هذا الكتاب إلى تحليل تحولات الرأسمالية خلال القرن الـ20، من خلال شرح كيفية ظهور الفكر النيوليبرالي خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وكيف تمَّ تنفيذه بعد نهاية نظام "بريتون وودز"، وكيف أدّت الأزمة المالية العالمية في العام 2008 إلى التخلّي عن بعض مبادئها الأساسية.
الطموح الآخر للكتاب هو فهم الآلية التنظيمية لرأسمالية ما بعد الحرب، وإظهار كيف يمكن الاستفادة من بعض ابتكاراتها بشكل مفيد، لمواجهة التحديات البيئية والجيوسياسية التي تمر بها مجتمعاتنا.
وعلى الرغم من عدم وجود مرجعية واحدة للنيوليبرالية، حيث تشمل العقيدة مدارس فكرية مختلفة، فمن الممكن إنشاء إطار عمل مشترك للتحليل، يتقاسمه جميع الليبراليين الجدد.
وهكذا يمكن تعريف النيوليبرالية على أنّها العقيدة التي ستكون الوظيفة الأساسية للدولة من أجلها توفير الإطار المؤسسي، الذي يسمح للأسواق بتنسيق السلوك الاقتصادي والاجتماعي، من خلال نظام أسعار تحكمه المنافسة.
الفصل الأول: نزع تسييس النقود
يهدف هذا الفصل إلى استكشاف الجواب عن سؤالين رئيسيين. أولاً، يهدف إلى فضح المفاهيم الرئيسية للنظرية النقدية: الرابط الأساسي بين المال والديون، وكيف يتم إنشاء المال، وكيف يتم تحديد قيمة المال، وكيف يتمّ وضع نظرية التضخّم. ثانياً، يصف المبادئ النظرية للنقدية، من خلال إظهار أنّها عقيدة هدفها "نزع تسييس" السياسة النقدية من أجل محاربة التضخم.
الفصل الثاني: النقد جزء من النظام الليبرالي الجديد
يوضح هذا الفصل كيف أصبحت النقدية مهيمنة أكاديمياً وسياسياً، ولماذا تمَّ التنازع عليها منذ الأزمة المالية سنة 2008. توضح سلطات البنك المركزي أنّه من الصعب بشكل متزايد تبنّي إدارة غير مسيسة للسياسات النقدية.
تتعدد الأصوات غير التقليدية بين الاقتصاديين، وتتعارض هذه الأصوات مع تحليلات النظرية النقدية، خاصة مع تطور النظرية النقدية الحديثة (MMT).
تصف الأقسام الأخيرة من الفصل حدود هذه المفاهيم النقدية، من خلال إظهار أنّه لا يمكن التشكيك في النظرية النقدية من دون أن نفهم بطريقة أكثر عالمية الإطار الليبرالي الجديد الذي يتم تضمين النظريات النقدية فيه.
الفصل الثالث: نظام اقتصاديات منظَّمة
يهدف هذا الفصل إلى فهم رأسمالية ما قبل النيوليبرالية في الخمسينيات والستينيات. ويوضح كيف أدّت النظم التنظيمية الناتجة عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، في الثلاثينيات، وقيود الحرب العالمية الثانية في السنوات التالية، إلى إنشاء مؤسسات للسيطرة على أسعار السلع الإنتاجية. تمّت دراسة الاقتصاد الألماني في فترة ما بعد الحرب، والذي اختار مساراً مختلفاً، تميّز بتأثير الأفكار النظامية الليبرالية، على وجه التحديد.
يتّضح أخيراً أنّ هذه "الرأسمالية الراسخة" أثبتت أنّها فعّالة عالمياً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، على عكس نظريات النيوليبراليين، وذلك من خلال تنظيم التحكّم في أسعار سلع الإنتاج.
الفصل الرابع: الثورة النيوليبرالية
يحلِّل هذا الفصل الأزمات الاقتصادية والسياسية في السبعينيات، والأسباب التي أدّت إلى انتهاء الرأسمالية الراسخة في فترة ما بعد الحرب.
ويؤكّد أنَّ هذا الاضطراب ليس نتيجة الإفراط في اللوائح وتدخّلات الدولة، ولكنّه على العكس من ذلك نتيجة لإضعاف الآليات التنظيمية السابقة. وهذا الضعف هو في حدِّ ذاته نتيجة التغيرات الجيوسياسية، وتحوّل الهياكل الاقتصادية للاقتصادات الرأسمالية المتقدمة.
ويوضح الجزء الثاني من الفصل كيفية إنشاء مؤسسات جديدة صديقة للسوق، في الثمانينيات والتسعينيات، تحت تأثير الأفكار النيوليبرالية. كانت نتيجة هذا الإطار المؤسسي الجديد أنَّ أسعار السلع الإنتاجية لم تَعُد تدار سياسياً، بل أصبحت تحت سيطرة الأسواق التي تنظمها المنافسة.
الفصل الخامس: النقد في مواجهة الأزمات
يقدّم الفصل الخامس تحليلاً متعمِّقاً للأزمة المالية العالمية، التي وقعت في العام 2008. ويوضح أنّه، من وجهة نظر الليبرالية الجديدة، فإنَّ الوظيفة الرئيسية للأسواق المالية ليست تسهيل الاستثمار، وتخصيص المدّخرات بكفاءة، ولكن تحديد الأسعار، وبالتالي قيمة السلع الإنتاجية من أجل توجيه القرارات الاقتصادية.
كما يوضح أيضاً كيف دفعت هذه الرؤية الحكومات إلى توسيع الأسواق المالية وتحريرها، ثم تفضيل الابتكارات المالية مثل التوريق، وكيف مهّدت هذه السياسة الأرضية لتطوير أزمة الرهن العقاري.
ويقول إنَّ الأزمة المالية ليست فقط نتيجة الانخفاض المفاجئ في قيمة بعض الأصول، بل هي نتيجة اختفاء قدرة السوق على تقييمها، الأمر الذي دفع السلطات العامة إلى التدخل في شراء الأصول.
ويشرح هذا الفصل أخيراً سبب اضطرار البنوك المركزية إلى تنفيذ سياسات نقدية غير تقليدية لتمويل سياسات التحفيز، والخروج من أزمة منطقة اليورو ودعم الإنفاق العام خلال جائحة "كوفيد-19".
الفصل السادس: Doxa والتطبيق العملي
يطوّر هذا الفصل فكرتين رئيسيتين. أولاً، يُظهر كيف حلَّل الاقتصاديون النيوليبراليون، مثل جان تيرول، الأزمة المالية العالمية وكيف تناولوا أسبابها وحددوها. فقد اعتبروا أنَّ انهيار النظام المالي لن يكون نتيجة لإلغاء قيود السوق والابتكارات المالية غير المنضبطة، ولكن نتيجة فشل إشراف الدولة.
وهكذا، على عكس ما قد يتوقعه المرء، لم تؤدِّ الأزمة المالية إلى مراجعة العقيدة النيوليبرالية.
يفحص هذا الفصل أيضاً الحدود النظرية للرؤية النيوليبرالية، من خلال دراسة التفاعلات المعقدة بين المعلومات والأسعار.
يوضح هذا الفحص سبب عدم إمكانية التأكيد على أن أسعار السوق تعكس في الواقع جميع المعلومات المتاحة، وستكون ذات صلة بشكل خاص. ثم يتم اقتراح نهج بديل يعتمد على الاقتصاد المؤسسي، من أجل دراسة العلاقة بين السوق والمجتمع.
في الجزء الأخير من الفصل السادس، يجادل الكاتب في أنّه على الرغم من أن الارتفاع التضخمي في العامين 2021 و2022 قد تسبب في تغيير البنوك المركزية لخطابها، فمن غير المرجَّح أن تتمكّن السياسة النقدية من العودة إلى النقد الأصلي، وبالتالي يجب أن تظلَّ ملائمة نسبياً. يشير هذا الوضع، في الواقع، إلى نهاية العقيدة النيوليبرالية.
الخلاصة: عالم ما بعد النيوليبرالية؟
يركّز الاستنتاج الذي يقدّمه الكتاب على الأنظمة التنظيمية الأخرى التي يمكن أن تخلف الليبرالية الجديدة. يصف أولاً السياق الحالي للاقتصاد العالمي، الذي يتّسم بارتفاع النقص في الطاقة والسلع الاستهلاكية، وتحدّي تغير المناخ. يصف الجزء الثاني من الفصل سيناريوهين للخروج من الليبرالية الجديدة، الأول هو ظهور نظام إقطاعي جديد، صيني أو روسي، فيما يستند الثاني إلى تحليلات عالم الاجتماع وولفغانغ ستريك، الذي يعتقد أن الرأسمالية النيوليبرالية يمكن أن تتحوّل إلى "مجتمع ما بعد اجتماعي"، يتّسم بانهيار معظم المؤسسات.
تمّت دراسة 4 مبادئ ضرورية لتنفيذ "أجندة الاقتصاد الديمقراطي"، هي أولاً الاستجابة لحالة الطوارئ المناخية وندرة الموارد الطبيعية، وثانياً تحديد دور السوق في الاقتصاد والمجتمع، وثالثاً إعادة التفكير في الوظائف الاقتصادية للدولة، أما رابعاً وأخيراً فإعادة دمج الاقتصاد في الديمقراطية.