قُدّمت بشكل ساخر.. "الجزيرة السورية" في الدراما: تغييب مقصود؟
عرّفتنا الدراما السورية إلى بيئة الجزيرة السورية بشكل تهكمي وساخر. ما السبب؟ وهل هناك تغييب مقصود للجزيرة السورية عن الدراما؟
لطالما كانت الدراما السورية علامة فارقة في الدراما العربية، حيث نجحت في دخول البيوت من دون استئذان عبر تنوعها وجودتها وأفكارها الغنية، بعد سيطرتها على حيّز واسع من مساحات العرض على شاشات التلفاز. ورغم أن هذه الدراما مرّت خلال السنوات الماضية بفترات حرجة نتيجة الظروف الأمنية التي شهدتها سوريا، فإنها سرعان ما عادت إلى المقدمة لتكون حاضرة مجدداً لتنافس أهم صنّاع الدراما العربية.
الخبرة التي اكتسبها صنّاع الدراما السورية من مخرجين وكتّاب وممثلين وفنيين مكّنتهم من دخول السوق العربية بشكل واسع خلال سنوات الحرب، حيث نجحوا في إغناء الدراما العربية التي شاركوا فيها، واستطاعوا أن يحققوا مكانة مميزة في لبنان ومصر والخليج.
ورغم البصمة المميزة التي تحققها الدراما السورية، فإنها تواجه بعض الانتقادات الداخلية لعدم تطرقها إلى بيئات معيّنة داخل سوريا، ولعلّ أبرز تلك البيئات هي "بيئة الجزيرة" التي تشمل محافظات الحسكة ودير الزور والرقة.
ويرى النقّاد أن الدراما السورية تطرقت إلى "بيئة الجزيرة" من خلال حيّز صغير جداً وبشكل سطحي اعتمد على التهكم والسخرية، من دون الغوص في تفاصيل البيئة وعاداتها وتقاليدها وحضارتها الموجودة منذ مئات السنين، وهذا الأمر أدى إلى تكريس صورة ذهنية غير سوية عن هذه المنطقة وأهلها.
يقول الصحافي الفني، جوان ملّا، في حديث مع "الميادين الثقافية" إن الدراما السورية كانت بعيدة كثيراً عن منطقة الجزيرة السورية، مقارنة بالطروح المقدمة عن محافظتي دمشق وحلب. فالحديث عن مجتمع المنطقة الشرقية كان شبه معدوم، وإن حضر في بعض الأحيان فيكون غالباً عن القبائل أو البدو، من خلال طرح المواضيع بصورة سطحية وأفكار محددة مثل الثأر والجهل وغيرهما.
ويضيف ملّا أن الأفكار المطروحة عن مجتمع الجزيرة السورية ساعدت في تكريس صورة نمطية محددة قائمة على الجهل والأميّة والثأر، وفي الغالب يتم تقديم هذه الصورة بطريقة ساخرة في الأعمال الكوميدية والاجتماعية، ويشير الصحافي السوري إلى أن الجزيرة السورية متنوعة بأفكارها وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية، إضافة إلى غناها بالأدباء والشعراء وأصحاب الكفاءات العلمية.
وعن الأعمال الدرامية القليلة التي تناولت بيئة الجزيرة السورية ومفهوم "البدو" تحديداً، ينوّه ملّا إلى أنها وعلى الرغم من تطرقها إلى العادات الأصيلة مثل الكرم والجود والشهامة، لكنها في المقابل كرّست أفكار الثأر والانتقام وتعدد الزوجات، كصورة نمطية عن هذه البيئة.
وحول إمكانية تطرق الدراما السورية في الوقت الحالي إلى بيئة الجزيرة في الأعمال الدرامية، يكشف ملّا أن هذه النوعية من المسلسلات لا يمكن تسويقها تجارياً. فالتوجه خلال هذه الفترة منصبّ نحو الأعمال الاجتماعية وباللهجة الدمشقية، حيث تحظى هذه النوعية بإعجاب شركات الإنتاج والقنوات العربية، لذلك غابت معظم البيئات السورية الأخرى عن الساحة الدرامية في السنوات الماضية، ورغم ذلك، يشير ملّا إلى ضرورة وجود أعمال تظهر مجتمع الجزيرة السورية بطريقة واقعية بعيداً من السذاجة والصورة النمطية المعهودة.
بيئة مغرية للإنتاج الدرامي
رغم ابتعاد الدراما السورية عن بيئة أهل الجزيرة لعدم القدرة على تسويقها عربياً، فإن الكاتب والمخرج المسرحي، إسماعيل خلف، يرى أن هذه البيئة مغرية لإنتاج الكثير من الأعمال، خاصّة أن الأحداث التي جرت خلال سنوات الحرب في محافظات الرقة والحسكة ودير الزور، تشكّل مادة غنية لإنتاج العديد من الأعمال التي توثّق هذه المرحلة الزمنية الهامة من تاريخ سوريا والمنطقة العربية.
الأحداث السياسية والعسكرية التي شهدتها المنطقة الشرقية في سوريا والآثار الناتجة عنها لم تشكّل حافزاً لشركات الإنتاج من أجل إعداد أعمال درامية توثّق ما جرى على مرّ السنوات الماضية، وفي هذا السياق يؤكد خلف أن الجهات الإنتاجية ترى في ذلك نوعاً من المغامرة، وذلك لعدة أسباب أبرزها:
أولاً: الخوف من عدم القدرة على تسويق الأعمال وإيصالها إلى شاشات العرض سواء داخل سوريا أو خارجها، في ظل توجه الجمهور بشكلٍ عام إلى أنواع محددة من الأعمال الاجتماعية التقليدية والفانتازية، أو الأعمال الدرامية المشتركة أو تلك المعرّبة.
ثانياً: تخوّف أبناء الجزيرة أنفسهم من تقديم مجتمعهم بصورة غير لائقة. لذلك، يرفض الكثير منهم إنتاج أيّ عمل لا يلائم بيئتهم، حتى أنهم ضغطوا في كثير من الأحيان لرفض عرض بعض الأعمال التي تناولت هذه البيئة ومنها "الحيار والنهر سلطان". وفي هذا السياق، يؤكد خلف أن هذه النقطة فيها كثير من العتب على الأهالي والفئة المثقفة في الجزيرة السورية، لأن ذلك لا يخدم البيئة ولا انتشارها في عالم الدراما.
ثالثاً: نقص صنّاع الدراما، مخرجين وكتّاباً وممثلين وفنيّين، من أبناء الجزيرة السورية، وبالتالي عدم القدرة على إنتاج عمل درامي متكامل يظهر الصورة الحقيقية لأبناء الجزيرة. وفي هذه النقطة، يرى البعض أن النقص الحاصل مقصود من قبل شركات الإنتاج والعاملين في مجال الدراما، الذين لا يمنحون الفرصة الكافية للمواهب من أبناء الجزيرة لنقل أفكارهم إلى شاشات العرض، فتلك المواهب بحاجة إلى رعاية واستقطاب وتوظيف صحيح لتكون فعّالة في عالم الدراما.
لا شك أن الجزيرة السورية غنية بالأفكار الفنية التي يمكن تناولها في الدراما سواء الاجتماعية أو الثقافية أو التاريخية. وقد جاءت الحرب لتعطي هذه المنطقة أهمية إضافية لتكون عامل جذب لصنّاع الدراما من أجل تقديمها بطريقة واقعية بعيداً من النمطية المعهودة، لكن رغم ذلك، فإن وجود هذه البيئة يتوقف على عوامل إنتاجية وفنية عديدة.
ولعلّ أبرز العوامل التي يجب توافرها لتقديم عمل درامي متكامل يتناول مجتمع الجزيرة، هو الكتّاب القادرون على إعداد نص متقن يعمل على توثيق هذه البيئة بتفاصيلها الحقيقية سواء ما قبل الحرب أو خلالها، وهذا الأمر يتطلب جهداً وبحثاً دقيقاً لتناول هذه البيئة بطريقة مستحدثة تظهر حقيقتها وواقعها.
أما العامل الثاني فهو إنتاجي من خلال استعداد الشركات المنتجة لتبني عمل درامي عن بيئة الجزيرة، وهذا الأمر متعلق بالنقطة الأولى لجهة وجود نصّ مغر يجذب شركات الإنتاج للمغامرة بالدخول إلى هذه البيئة، كما جرى في مسلسل "الخربة" (كتابة: ممدوح حمادة - إخراج: الليث حجو) الذي وثّق بيئة أهالي السويداء، ومسلسل "ضيعة ضايعة" (كتابة: ممدوح حمادة - إخراج: الليث حجو)، الذي وثّق بدوره بيئة الساحل السوري، حيث نجح العملان الكوميديان في طرح أفكار عميقة بطريقة ساخرة، واستطاعا تحقيق انتشار واسع على المستويين المحلي والعربي.
الجزيرة مغيّبة عن الدراما السورية
المخرج محمد الملّا، وهو من أبناء محافظة الحسكة، أكد لـ "الميادين الثقافية" أن الدراما السورية لم تعالج حتى اللحظة أيّ قضية تخصّ المنطقة الشرقية بشكل أساسي، سواء من ناحية البيئة أو الثقافة أو العادات والتقاليد أو القضايا الاجتماعية، لأن غالبية العاملين في الدراما ليست على دراية كافية بتفاصيل هذه البيئة، وتعتقد أنها "بيئة البدو" فقط، التي تعيش في الخيام وتعتمد على الزراعة وتربية الماشية.
ويضيف الملّا: "مجتمع الجزيرة السورية يشبه باقي المجتمعات في المحافظات الأخرى، وهو غني بتنوعه الثقافي والعلمي، ويمتلك الخامات المبدعة في مختلف المجالات، ورغم ذلك، فإن الدراما السورية ظلمت أهالي المنطقة ولم تسلط الضوء عليهم بالشكل الكافي".
ويشير الملّا إلى أسباب إضافية تتمثل في غياب الكتّاب من أبناء الجزيرة عن الدراما السورية. ولذلك، فإن من يتطرق اليوم إلى هذه البيئة في الدراما لا يعرف كثيراً عن ثقافة المنطقة ولا عادات أهلها وتقاليدهم، وهذا الأمر هو نقطة سلبية على المخرجين الذين لا يتكبدون عناء البحث والقراءة عن تفاصيل هذه البيئة. لذلك، يتم إظهار أبناء الجزيرة بصورة نمطية دائماً قائمة على اللباس الشعبي التُراثي، أي الشماغ والغلابية والعباءة.
في إحدى لوحات مسلسل "بقعة الضوء" الكوميدي والتي كانت تحمل عنوان "هجرة إلى كندا"، ظهر 3 شبان من منطقة الجزيرة السورية أثناء وصولهم إلى العاصمة دمشق (عبد المنعم عمايري- فادي صبيح - محمد حداقي)، وكانوا يريدون الهجرة إلى كندا، ليصادفوا شاباً في العاصمة يحتال عليهم (قصي خولي)، فأقدم على إصدار جوازات سفر لهم ومن ثم حجز تذاكر طيران إلى دير الزور بدلاً من كندا.
وعلى الرغم من الحس الكوميدي في هذه اللوحة، لكنها كرّست صورة نمطية عن شباب الجزيرة السورية قائمة على الجهل وعدم المعرفة، وهذا الأمر تكرر في أكثر من مسلسل درامي سوري خلال السنوات الماضية.
من جهته، يؤكد الممثل حمادة سليم لـ "الميادين الثقافية" أن "بيئة الجزيرة لم تأخذ حقها في الدراما السورية بشكلها الحضاري، وهذا الأمر مرده إلى الجهل وعدم المعرفة بتفاصيل المجتمع وعاداته وتقاليده، وهنا يقع اللوم بالدرجة الأولى على الإعلام، لعدم تسليط الضوء على منطقة الجزيرة بما تتضمنه من حضارة وفن وأدب وشخصيات مهمة على المستويين العلمي والثقافي".
ويتابع: "أذكر برنامجاً كان يعرض على التلفزيون السوري بعنوان (في رحاب الجزيرة)، وكلمات شارته تبدأ بكلمات: في رحاب الجزيرة الأرض الخضراء والمي؛ وهذا نوع من تكريس الصورة النمطية عن منطقة الجزيرة، فهي ليست فقط زراعة ومواشٍ، وإنما هي موطن الأدباء والمفكرين والمهندسين والأطباء، إضافة إلى كونها مهد الحضارات القديمة".
وعن إمكانية إنتاج عمل درامي متكامل حول الجزيرة السورية يرى سليم أن هذا الأمر "مجازفة كبيرة"، نظراً إلى التنوع الثقافي والاجتماعي والفكري، إضافة إلى وجود قوميات متعددة في النطاق الجغرافي للمنطقة. لذلك، فإن المطلوب بالدرجة الأولى وجود شخص عارف بهوية المنطقة وتفاصيلها بشكل دقيق وقادر على إظهار جوهرها الحقيقي وتنوعها الاجتماعي، بعيداً من الصورة النمطية المكرّسة. فالجزيرة السورية تستحق وجود عمل درامي يقدمها بصورة لائقة للجمهور السوري والعربي.
من ناحيته، يرى الفنان المسرحي والإذاعي، إسكندر عزيز، أن "الدراما السورية لم تعالج أيّ موضوع يتعلق ببيئة المنطقة الشرقية لا من الناحية الاجتماعية ولا من الناحية الاقتصادية ولا حتى من الناحية الفنية، وكانت هذه البيئة مغيّبة بالكامل، حتى عندما تعرّضت بعض الأعمال لهذه البيئة كان الطرح سطحياً وينمّ عن جهل بتفاصيل هذا المجتمع الذي شهد نهضة زراعية وثقافية فريدة من نوعها في المجتمع السوري".
ويؤكد عزيز لـ "الميادين الثقافية" أن "المعهد العالي للفنون المسرحية" في سوريا و"نقابة الفنانين"، فتحا أبوابهما لدخول أبناء منطقة الجزيرة منذ تأسيس النقابة عام 1968، لكن في الغالب يكون انتشار الفنان وحصوله على أدوار رئيسية مبنياً على العلاقات الشخصية والمكاسب البينية في الوسط الفني، لذلك "ابتعدت عن الدراما التلفزيونية وتوجهت إلى الأعمال المسرحية والإذاعية".
على مرّ السنوات الماضية، استطاعت الدراما السورية تناول مختلف أنواع البيئات داخل سوريا من البيئة الشامية والحلبية وبيئة الساحل السوري إلى بيئة السويداء وبيئة البدو، إضافة إلى معالجتها القضايا الاجتماعية المختلفة بصورة واقعية، ناهيك بتنوعها في مجمل الأشكال الدرامية، وهذا ما ساعد الدراما السورية على الانتشار عربياً، لكن رغم ذلك بقيت بيئة الجزيرة مظلومة في الدراما السورية.
اليوم، ورغم عودة الدراما السورية إلى ألقها محليّاً وعربياً، فإن تناول بيئات اجتماعية جديدة يُعدّ ضرورة ملحّة لإغناء هذه الدراما وإعطائها مزيداً من التنوع، وهذا يفرض على صنّاع الدراما البحث عن أفكار جديدة لتقديمها، في مناطق لم يتم التطرق إليها في الماضي.