في مديح المكتبة والكتب والقراءة
في "اليوم العالمي للكتاب"، شاركونا هذه الجولة عن الكتاب والمكتبة والقراءة.
تقول واحدة من مرويّات مصر القديمة، قبل آلاف الأعوام، إنّ العجوز دوا أوف نصح ابنه بيبيا بأن يحبّ الكِتاب كأمّه، لأنه لا يوجد ما هو أثمن من الكتاب. وفي نصٍّ آخر نقرأ: "لقد مات الإنسان وتحوّلت جثته إلى مسحوق، وأصبح كلّ معاصريه تحت التراب، إلّا أنّ الكِتاب هو الذي ينقل ذكراه من فمٍ إلى فم. إنّ الكتابة أنفع من البيت المبني، ومن الصومعة في الغرب، ومن القلعة الحصينة، ومن النصب في المعبد".
بعد ذلك بزمن، دعا الشاعر العثماني عبد اللطيف شلبي، في القرن السادس عشر، كلَّ كتابٍ في مكتبته بصديق حق ومحب يُبعد الهموم كلّها، ما حدا بالكاتب الأرجنتيني بورخيس إلى أن يقول: "لطالما تخيّلت الجنة مكتبةً كبيرة". أما جون ميلتون فقال: "ليست الكتب جماداً لا حياة فيه، بل هي وعاء لقوة حياة كامنة، اُريدَ لها أن تكون فاعلة مثل الروح التي أنجبتها".
إنّ صيرورة صناعة الكِتاب وإنتاجه والاحتفاء به هي من صيرورة العالم بمجمله، بل يمكن القول إنّ تاريخ الكِتاب هو تاريخ العالَم، على نحوٍ ما، منذ اختراع الكتابة. ولأنّ الإنسان حيوانٌ قارئ، وننتمي كبشرٍ جميعاً إلى فصيلة القرّاء، كما يقترح ألبرتو مانغويل، فلقد خصصت منظمة "اليونيسكو" عام 1995، يوم 23 نيسان/أبريل للاحتفاء بالكِتاب والكتّاب، وأطلقت عليه "اليوم العالمي للكتاب"، وأيضاً لحقوق المؤلف.
واختارت المنظمة الدولية هذا التاريخ بسبب رمزيّته في عالم الأدب، إذ يصادف ذكرى وفاة عدد من الأدباء المرموقين، مثل وليام شكسبير وميغيل دي سرفانتس والاينكا غارسيلاسو دي لافيغا. وصار من المعتاد في هذا اليوم أن يتم اختيار عاصمة ما عاصمةً عالميّة للكتاب. ووقع الاختيار على مدينة أكرا في غانا، عام 2023.
تاريخ الكتاب تاريخ العالم
كثيراً ما شغلت مسألة تأليف كتاب عن "تاريخ الكتاب" كتّاباً وباحثين ومؤرّخين، إلى حدّ أنه صارت هناك عشرات الكتب التي تحمل عنواناً، مثل "تاريخ الكتاب"، أو ما شابهه، منها كتاب الإيطالي أ. إدفرسيا، وكتاب الدنماركي سفند دال، واللذين يحملان عنوان "تاريخ الكتاب"، وكتاب الفرنسي يان سورديه بعنوان "تاريخ الكتاب والنشر".
أمّا كتاب اليوغسلافي د. ألكسندر ستيبتشفيش، الذي أصدرته "عالم المعرفة" ضمن قسمين عام 1993، بترجمة محمد الأرناؤوط، فيُعَد كما يقول مؤلّفه، في مقابلة مع مجلة "ناشا غنيغا" عام 1985: "تصحيحاً للخلل، إذ يحاول المؤلف أن يعطي "كل شعب المكانة التي يستحقها". ويركّز أيضاً على تلافي النظرة المحليّة أو الفوقية الأوروبية، فخصص فصلاً عن العرب، وفصولاً عن حضارات الشرق القديم.
الجدير بالذكر أنّ ستيبتشفيش لا يركز على الجانب التقني فقط، بل على مغزى تطور الكتاب عبر التاريخ. لذا، صار كتابه تاريخاً للثقافة الإنسانيّة أيضاً، كما يقول المترجم، إذ يبدأ بالمحاولات الأولى للكتابة، وأقدم النصوص، والأشكال الأولى للكتاب، وأدوات الكتابة وموادها، ثم مصير الكتاب في كلّ مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة المعروفة.
من خلال هذا المصير، نتعرّف إلى أهمّ الأحداث الثقافيّة والتاريخيّة، وأهم التغيّرات الفكريّة، التي طرأت على العالم. في الطرف الآخر، يحيل ذلك كلّه على تتبّع مكانة الكتاب بين مجتمع وآخر، حتى يصير بمثابة مؤشر على الحكم على مدى التخلف أو التطور الثقافي لمجتمع ما.
"الرجل المكتبة" يؤرّخ القراءة
وهب الكاتب الأرجنتيني - الكندي ألبرتو مانغويل معظم حياته ليحتفي بفنّ القراءة ويؤرّخه، وللكتابة عن الكتب والمكتبة، حتى لُقِّب بالرجل المكتبة، أو "دون جوان المكتبات"، وفقاً لوصف الناقد الأميركي جورج ستاينر.
القراءة، بالنسبة إلى مانغويل، هي "النشاط الإبداعي الذي يجعلنا من كلّ الأوجه إنسانيين". كذلك يعتقد، كما أشرنا في المقدمة، أننا في الجوهر "حيوانات قارئة"، وأنّ فنّ القراءة، في المعنى الأوسع للكلمة، يميّز جنسنا، لأننا ننشأ مصممين على العثور على قصة في كل شيء: في المناظر الطبيعيّة، في السماوات، في وجوه الآخرين، وبالطبع في الصور والكلمات التي يخلقها جنسنا. أمّا بالنسبة إلى أمبرتو إيكو فالقراءة أبدية أزلية، إذ يقول: "مَن لا يقرأ فإنه يَعيش حياة واحدة حتى لو اجتاز 70 عاماً. أما من يقرأ، فيعيش 5 آلاف عام".
يردّ مانغويل، في كلّ أعماله عن القراءة والمكتبة، الاعتبارَ إلى الكتب، ويشدّد على حاجتنا إليها، من دون أن يقول ذلك.
في كتابه "تاريخ القراءة"، يفتّش مانغويل ويتتبّع آثار النصوص المكتوبة والمقروءة والمطبوعة عبر مختلف العصور التاريخية. يتحدث عن بداية الكتابة وعن طباعة الكتب والأدب، ويسترجع بشراً عاشوا وأحبوا القراءة من جامعي كتب أو سارقي كتب.
وفي "فن القراءة" يجمع مانغويل عدّة مقالات أو محاضرات له، عددها 39، يمكن اعتبارها تأملات في بهجة القراءة، أو كما يجيء في كلام الناشر: "رحلة أدبية استثنائية ترفدها مرويّات هوميروس ودانتي، وموضوعات تمتدّ من بينوكيو إلى أليس، ومن بورخيس إلى تشي غيفارا. يبيّن مانغويل كيف تضفي الكلمات التناغم على العالم وتمنحنا أمكنة آمنة قليلة، حقيقيةً كالورق ومنعشة كالحبر، فتهبنا مأوى ومائدة في عبورنا الغابة المظلمة والمجهولة الاسم".
أما في "المكتبة في الليل" فيقول مانغويل: "قررت أن أبدأ بالكتابة، لا كي أصنّف تاريخاً آخر للمكتبات، أو أضيف مجلداً آخر للمجموعة الواسعة وسوعاً مرعباً في علم المكتبات، بل كي أسجل فقط وقائع دهشتي".
ما يميّز مانغويل في اشتغالاته هذه هو ربط تجربته الشخصيّة فيها، لذا يؤكد أن طريقته في القراءة والتعامل مع الكتب تخصه وحده. يريد فقط أن يثير فضول القارئ، ويترك له المجال "ليجني شيئاً مغايراً من كل كتاب؛ شيئاً شخصياً بصورة بحتة". يقول أيضاً: "سأبدو سفيهاً في حال أخبرت القرّاء بما يجب أن يخرجوا به من الكتاب. لقد قرأ دانتي لفيرجيل وأُلهِم ليغدو شاعراً. وبالمثل قرأ قاتل جون لينون رواية "الحارس في حقل الشوفان"، التي أوحت إليه في فكرة القتل".
المكتبة عالَماً
حصل الكاتب الصربي زوران جيفكوفيتش، صاحب قصص "جامع الأحلام الأرجوانية" على جائزة "أدب الخيال العالمي" عام 2003، عن روايته "المكتبة"، التي تُعَدّ نصاً خالصاً في مديح الكتب والمكتبة. تنقسم الرواية إلى 6 قصص تخييلية منفصلة عن عالم الكتب، هي: "المكتبة الافتراضية، المنزلية، الليلية، مكتبة الجحيم، أصغر مكتبة، المكتبة النفيسة".
في المكتبة المنزلية يتحدث زوران عن إنسان وصله إلى صندوق بريده مجلدات من كتاب اسمه "أدب العالم"، بقي ينقل المجلدات إلى غرفته يوماً كاملاً. 8305 كتب، كان منظرها مهيباً، ولم يعد للبطل مكان في غرفته. هذا هو حلم أغلبية القرّاء، يتلخّص في مقطع من الرواية: "من المعروف أنّ الكتب تبتلع المساحات ابتلاعاً، وهذا قانون لا يمكن تبديله، فمهما أعطيت للكتب من مساحة فإنها لا تكتفي أبداً. تحتل في البداية الجدران ثم تنتشر لتشغل كل حيز يمكن أن يحتويها، حتى لا يبقى سوى السقف الناجي الوحيد من هذا الغزو، ثم تتولد الكتب الجديدة، ولا تحتمل عندئذ فكرة التخلص من أي كتاب لديك أبداً. وهكذا تزيح الكتب عن طريقها كل شيء غيرها ببطء وخفية، كأنها نهر منساب".
من الكتب الكثيرة في مديح الكتب والمكتبات يمكن أن نذكر كتاب "داخل المكتبة خارج العالم"، وهو مجموعة نصوص عالمية مترجمة بشأن القراءة، وكذلك كتاب هنري ميللر "الكتب في حياتي"، وكتاب خليل صويلح "ضد المكتبة" وفيه 103 نصوص متفاوتة الطول عن تجربة صويلح الشخصية مع الكتب. وهي أيضاً بمثابة "سيرة ناقصة للكتب، غير قابلة للاكتمال أو التشريح النهائيّ".
قبيل "اليوم العالمي للكتاب" هذا العام، ووفقاً لبيانات "NOP World Culture Score Index" بشأن المؤشر العالمي للإنجاز الثقافي، والصادر مطلع العام الجاري عن شركة Statista الألمانية المتخصصة ببيانات السوق والمستهلكين، بالاشتراك مع صحيفة "إندبندنت" البريطانية، احتلت مصر المرتبة الخامسة بين دول العالم الأكثر قراءة، بينما جاءت السعودية في المرتبة الـ11 عالمياً.
كذلك يشير بعض المراجع إلى أنّ إحصاءً، صدر عام 2020 عن عدد الكتب الصادرة باللغة العربية، جاء فيه أنّ مصر احتلت المرتبة الأولى بـ23 ألف كتاب، يليها العراق بـ8400، ثم السعودية بـ8100، ثم لبنان بنحو 7500، ثم الأردن 3500. أما سائر الدول العربية فتتراوح المؤلفات بين ألف عنوان وأقل.
أياً تكن دقّة هذه الإحصاءات، فإنّ الاحتفاء بالكتب لا يزال حاضراً في المشهد العربي، ودائماً ثمة نصوص ومقالات وكتب تُنشر في مديح المكتبة والكتب والقراءة، منها هذه المقالة.