في ذكرى مئويته.. جوزيه ساراماغو عانق كلماته ومضى
لم تتضمن شخصيات رواياته غنياً واحداً، وأثارت إحداها غضب الكنيسة.. لماذا ما زال ساراماغو مقروءاً إلى اليوم؟
تدور مجمل أعمال الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو (16/11/1922-18/6/2010)، الذي تصادف اليوم الذكرى المئوية لميلاده، حول فكرة أن المستحيل ممكن، وتالياً استنباط كلّ النتائج الّتي قد تولّدها المخيّلة من هذه الفرضية - وإن تعارضت مع المنطق الطبيعي - بغية البحث عن الحقيقة ومحاولة إيقاظ العقول، وذلك وفق أسلوب أدبي فريد من نوعه، بقدر ما هو سحري، فإنه مُقلِق ومستفز، ويدعو إلى تحليل الحاضر من زاوية خاصّة بصاحب "العمى"، ومن إيمان لم يتزعزع بصواب رؤاه.
تنطلق روايات ساراماغو دائماً من أسئلة محددة، لا يلبث السرد أن يتحوَّل إلى سعي للإجابة عنها، من مثل: كيف تتماهى سيرة الفنان مع سيرورة مجتمعه؟ فتأتي الإجابة في رواية "دليل الرسم والخط" بأن الأخلاق وعلم الجمال لا ينفصلان، وأن الفن ينبغي أن يكون صوت ضمير المجتمع وصورته التي تُحقِّق المعرفة. ماذا سيحصل لو باتت شخصيات فرناندو بيسوا الخيالية حقيقيةً من لحم ودم؟ سيأتي الرد في "سنة موت ريكاردو ريس"، التي تتمحور حول أن الحياة كتاب لن يكون بإمكاننا إتمامه، مهما برعنا في تأليفه أو قراءته.
سؤال آخر له علاقة بأصول البرتغال ومصيرها وعلاقتها الغامضة بأوروبا، تطرحه رواية "الطوف الحجري" بصيغة: هل البرتغاليون والإسبانيون أوروبيون حقاً؟ الجواب يتأتّى بأن شبه الجزيرة الإيبيرية هي خليط هائل من الثقافات تحت السقف الأوروبي ليس إلا، ثم هل من البساطة بمكان تزوير التاريخ؟ طبعاً ذلك متاح عبر مدقق لغوي يزرع حرف النفي في متن النص، وهو ما أكَّدته "قصة حصار لشبونة". وماذا سيحدث لو أصيب جميع الناس بالعمى؟ الجواب متضمن في رواية "العمى" التي تتحدث عن عمى البشر الأخلاقي وانحرافاتهم، ما يؤدي إلى نوع من التدمير الذاتي للحضارة الإنسانية. وماذا لو قرر الموت أن يأخذ إجازة؟ طبعاً، هذا ما تدور حوله "انقطاعات الموت"، لنرى تبعات ذلك روحياً وسياسياً.
ولعل السمة المشتركة الأخرى لروايات ساراماغو هي النضج الفكري والفني، وليس لذلك علاقة بأنه نشر أولى رواياته بعمر متأخر، وأنه لم يحظ بشهرته الواسعة عالمياً إلا في سن الستين، بل بسبب رغبته في أن يقول شيئاً مختلفاً، بدليل أنه بقي نحو 20 عاماً قبل أن ينشر أعماله الشعرية والروائية الأخرى، رغم الترحيب الذي حظيت به روايته الأولى "أرض الخطيئة" (1947) في الأوساط النقدية، إذ لم يكن لديه شيء ليقوله، كما جاء في أحد حواراته.
ولكن خلال انقطاعه عن النشر، عَمِلَ على ترجمة هيغل وتولستوي وبودلير وغيرهم إلى البرتغالية، إلى جانب اشتغاله في الصحافة التي مكَّنته من تأمين معيشته والتفرُّغ للكتابة، إضافة إلى أنها مع الترجمة ساهمت في تكوين لهجته الفريدة في السرد الروائي و"رمزيته المصحوبة بالخيال والعاطفة والسخرية"، التي سعى من خلالها، كما عبَّر ذات مرة، لإيجاد نفسه في الصفحات، في الأفكار، في التأملات، وأيضاً "للتعرف إلى أننا شيء أكثر من هذا الذي يُقَدَّم لنا على أنه واقع، لا يزال ذلك يشكل الانبهار الأكبر، ولا سيما أننا نعيش في عالم يعكس كارثة حقيقية. أنا أسعى جاهداً ككاتب وشخص إلى عدم فصل الكاتب عن الشخص الذي أكونه، وأبذل قصارى جهدي، بحسب إمكاناتي، في محاولة فهم العالم وتوضيحه".
ولعلَّ ذلك يتوافق مع ما أعلنته لجنة جائزة نوبل التي نالها ساراماغو عام 1998 في ثنائها على "شكوكه الحديثة في الحقائق الرسميّة"، فهو مثلاً ينافي القناعة التي تتخيل الموت كشيءٍ خارج عنا، بقوله: "موت كل واحد منا يولد مع ولادتنا ونحمله داخلنا".
وفي موضوع آخر، يعتقد أن "المكان الوحيد الذي يوجد فيه الله هو عقل الإنسان، وليس في السماء، إذ يوجد جنباً إلى جنب مع الشيطان الذي اخترعناه أيضاً، تماماً كما اخترعنا الحب والكراهية والعدل والحق، والطيبة كذلك. خارج عقل الإنسان، لا أعرف ماذا يوجد حقاً، فالعقل هو الوحيد الذي يمكّننا من امتلاك فكرة حول الحقائق التي ليست بمتناول أيدينا، وهي ما نسميه الروح، وهي فكرة خُلقت في العقل البشري، ولم تخرج بعد".
أفكار ساراماغو هذه جلبت عليه لوم الكنيسة وسخطها، وخصوصاً بعد صدور رواية "الإنجيل يرويه المسيح"، بانحيازها الواضح إلى الأرضيّ ضدّ السماويّ، إلى المحسوس ضدّ المجرّد، إلى الإنسانيّ ضدّ الإلهيّ.
ورغم اعترافه بامتلاك عقلية مسيحية بحكم نشأته في محيط يعتنقها، لم تكن الأديان بالنسبة إليه طريقة لتقريب البشر من بعضهم بعضاً، ولا في أي حقبة من تاريخ البشرية الحافل بالفوضى، بل على العكس، فإنه يرى أن الأديان جميعها كرست فكرة خاطئة وأنانية تقوم على إجبار الآخر على تقبل اعتقاداتنا.
هذا ما تقوم به أيضاً عقيدة المال الرأسمالية الحديثة، والتي تصدّى لها في روايته "الكهف" مُصوِّراً كيفية بناء مركز تجاري ضخم فوق كهف أفلاطون، بحيث "تحوَّل إلى معبد نظيف للحداثة في وسط الوساخة". ويُسلِّط ساراماغو الضوء على أنه للمرة الأولى في تاريخ البشرية يتم صنع عالم للأغنياء فقط، بمعنى توفير كل ما تحتاجه الطبقة الغنية على حساب طبقة مسحوقة من الفقراء يزداد العالم إنكاراً وتجاهلاً لها يوماً بعد يوم. وفي رد فعل روائي على ذلك، لم تتضمن شخصيات رواياته غنياً واحداً، لسبب بسيط هو أنه لا يعرفهم، ولا يعرف أن يتصرف كالأغنياء، وعقليته ليست عقلية شخص غني، بحسب تعبيره.
لذلك، يبشّر ساراماغو بزوال الرأسمالية، رغم المشوار الطويل الذي ما زال أمامها، وبأن الشيوعية ستعود إلى الظهور، بحسب الضغوط التي اجتمعت سابقاً وأدت إلى بزوغها، من دون أن يعني ذلك أن اليسار سَلِم من انتقاداته بحكم كونه "الشيوعي العنيد"، فقد أعلن غير مرة وفاته، وفي الوقت ذاته ألمح إلى ما تعانيه الديمقراطية نتيجة فشلها أمام نفوذ الشركات المتعددة الجنسيات، وصمتها تجاه موت الناس من الجوع، لاعناً الضمير السياسي الذي يُقدِم فيه المرشحون على طلب أصوات ناخبين ليس باستطاعتهم فهم البرنامج الانتخابي للحزب المرشّح، بسبب فقرهم وأميتهم الوظيفية.
هذه الآراء الحاسمة وغيرها انعكست في أسلوب ساراماغو الروائي الذي وصفه النقاد بأنه "واقعية قاسية وسريالية في الوقت ذاته، وتتضمن تجريبية تجعله متجاوزاً لعصره، وتقليدياً في آن". ورغم الفانتازيا الساحرة وسرده المتدفق بفقراته الطويلة من دون علامات ترقيم وتنصيص للجُمَل الحوارية، فإن تسليم سرده للغة قروية بسيطة أتاح له الكثير من المرونة، وهو ما برز بشدة في ما كتبه في جزيرة لانزروت ضمن مدونته الافتراضية بين أيلول/سبتمبر 2008 وآب/أغسطس 2009، وجمع ضمن كتاب "المفكرة" الذي وصفه البعض بأنه مكتوب بصيغة متوحِّشة، والذي ضمَّ آراءه السياسية وانتقاداته اللاذعة لرئيس الحكومة الإيطالي برلسكوني الذي أطلق عليه اسم "الشيء والفيروس الذي يهدد بلاد فيردي بالموت المعنوي"، وللسياسة الأميركية وقبول الشعب برؤساء يعانون القصور الفكري والأخلاقي، مثل جورج بوش الابن الذي نعته بـ"الجاهل وراعي البقر المثير للسخرية"، ولليسار المريض، وغير ذلك.
قدَّم ساراماغو في مفكرته بورتريهات عاشقة لزملائه، من مثل جورج أمادو وكارلوس فوينتس وفرناندو بيسوا وبورخيس وجان جيونو، في حين انتزع محمود درويش في ذكرى وفاته الأولى أجمل النصوص، فبعدما قاربه مع بابلو نيرودا، كتب: "قصائد درويش المتجذرة في الحياة، في الآلام، وفي الأشواق الأبدية للشعب الفلسطيني، تمتلك جمالاً شكلياً غالباً، ما يزين اللحظات المبهمة التي لا توصف بكلمات بسيطة قليلة، مثل مفكرة يمكن للمرء أن يقتفي فيها الكوارث خطوة خطوة، دمعة دمعة، ولكن أيضاً اللحظات العميقة، وإن تكن نادرة، من الفرح.... قراءة درويش، إضافة إلى كونها تجربة جمالية لا تنسى، هي الركوب على امتداد الطريق المنكسرة للظلم والسلوك المخزي، عبر الأراضي الفلسطينية التي عانت بوحشية على أيدي الإسرائيليين، فإسرائيل هي الجلاد هنا".
وبما قاله ساراماغو عن مصير الكلمات، نختتم بهذا: "أحسّ بمرارة متبقية مردها إلى اليقين بأن حفنة الأشياء ذات المعنى التي قلتها في حياتي، تبيّن بعد كل شيء أنها عديمة الجدوى بشكل مطلق. لماذا ينبغي أن تكون ذات جدوى؟ إنها مثل شجرة تفاح تحمل تفاحات من دون أي اهتمام بمن سيأتي لأكلها دون غيره. وماذا عنا نحن؟ هل نتحدث للسبب نفسه الذي نتعرّق لأجله؟ لمجرد أن نفعل ذلك، العرق يتبخّر، يزول، يختفي، يصعد آجلاً أم عاجلاً إلى الغيوم. والكلمات، إلى أين تذهب؟ كم يتبقى منها؟ وكم تدوم؟ ومن أجل ماذا؟ بعد كل ذلك، أعرف أن هذه كلمات تافهة ولا تليق بشخص في السادسة والثمانين، أو ربما لا تكون بهذه التفاهة عندما أفكّر في جدي جيرونيمو، الذي ذهب في ساعاته الأخيرة لوداع الأشجار التي غرسها، وكان يعانقها وهو يبكي لأنه عرف أنه لن يراها مرة أخرى. إنه درس يستحق التعلم. لذلك، أعانق الكلمات التي كتبتها. أتمنى لها عمراً طويلاً، وأستأنف كتابتي من حيث توقفت. لا يمكن أن يوجد رد آخر".