فلسفة "الصبر الاستراتيجي" لمواجهة الإبادة والتطبيع
الصراع القائم بيننا وبين الصهاينة هو صراع وجود وليس صراع حدود، ولهذا نقول سيؤدي الفعل البطولي الى النصر والتحرّر ليتحوّل بعد ذلك إلى أرضية صلبة لمناهضة النزعات العدوانية/الاستعمارية اللاإنسانية التدميرية.
أكد استشهاد الأيقونة الفلسطينية، يحيى السنوار، مهندس "طوفان الأقصى"، أن قوة ثقافة المقاومة هي دائمة التجدد والولادة من رحم الأرض الفلسطينية لمواجهة الاحتلال الاستعماري وخططه الجهنمية للمشرق العربي.
وقد دفعه استشهاده خلال مواجهته مع "جيش" الاحتلال من نقطة صفر إلى معانقة القمة، وبحسب هيغل فإنه "لم يتم إنجاز شيء عظيم في العالم من دون شغف". وقد سبق السنوار إلى هذه "القمة" شهداء، وها هم يتساوون في شغف هذه القمة.
يتزامن استشهاد السنوار مع استمرار عدوان الإبادة الأميركية - الصهيونية على فلسطين ولبنان وسوريا، وحيث تقف المنطقة على عتبة ما يمكن أن تتحوّل إلى أكبر حريق إقليمي منذ عقود.
وقد كشفت استراتيجية الاحتلال (ومعه واشنطن وأوروبا وأنظمة عربية) بفصل جبهة لبنان عن غزة، بزيادة نسبة العدوان على المناطق المدنية لإجبار المقاومة اللبنانية على الانسحاب، ومع رفض المقاومة لخيار الفصل، يواجه العدو الآن هدفين عسكريين صعبي التحقّق:
- إجبار حزب الله على الاستسلام، وهو فشل بدفع المقاومة الفلسطينية إلى الاستسلام.
- إضعاف حزب الله بشدة بحيث لا يشكّل تهديداً.
من الناحية العملية، ستجد استراتيجية الاحتلال صعوبة في تحقيق أي من النتيجتين. بدلاً من ذلك، من السهل أن تجد "جيش" الاحتلال عالقاً في صراع استنزاف طويل لا مخرج منه في الأفق، كما هو حاصل في جنوب لبنان حيث ميدان المقاومة الإسلامية – وهذا سيناريو يخاطر بتقويض إنجازاته في إضعاف حزب الله.
**
لعلنا الآن نستعيد ونحن نراقب المشروع الصهيو/أميركي مقولة وزير خارجية أميركا الأسبق، هنري كيسنجر، في نهاية العام 2011: "من لم يسمع طبول الحرب تدقّ فهو بالتأكيد أصم"، وذلك في إشارة إلى أن "تلك الحرب ستمهّد الطريق لإسرائيل"، أي أن كيسنجر كان لديه تصوّر بقيام "دولة إسرائيل الكبرى"، ما يطرح السؤال عما إذا كان العملاء والمتعاملون مع سرديات العدو ما زالوا يصمّون الآذان عن سماع كل هذه الرؤى "الاستشرافية" التي عملت عليها السياسة الأميركية، والكيان الصهيوني، منذ عقود؟
المهم في الأمر الآن ليس هدف حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، هو الحرب من أجل الحرب، إنما هو لمواجهة خارطة الطموح الإسرائيلي في المنطقة. وهنا "تمنحنا حرية الاختيار الفرصة لتقرير ما يجب علينا القيام به"، بحسب قول الفيلسوف الهندي أمارتيا صن.
في الراهن ليس المطلوب التحليل والتنظير والتأريخ للصراع بيننا وبين الاستعمار الصهيوني العالمي، بل الممارسة الميدانية والفعل النضالي وإنهاء والإجهاز على حالة الاحتلال بالانتصار عليه، وعلينا تحقيق هذا المطلب في الوقت الراهن وفي الاستمرار بالإعداد الفكري والتجهيز المادي والميداني للآتي في المستقبل، طالما أن المعركة مستمرة ويرتقي لنا شهداء.
إن المقاومتين، الفلسطينية واللبنانية، حطّمتا واجهة "الجيش الذي لا يقهر" وقهرتاه. وعلى المثقّف المقاوم أن يمارس دوره الطليعي في تفكيك الأساطير السياسية الميتافيزيقية التي تشكّل إطار وجود "إسرائيل". نقد متعدّد الأوجه للأسس الميتافيزيقية واللاهوتية والسياسية للمشروع الصهيوني والنتائج الاقتصادية والجيوسياسية والثقافية لهذه الأسس على منطقتنا وعالمنا العربي.
**
تشكّل المقاومة نقطة ضوء في وقت أرادوا أن تمرّ فيه منطقتنا بمرحلة خطيرة ومفتوحة على أسوأ الاحتمالات بالانهيار الكامل، وهي بدأت من "صفقة القرن" مروراً بـ "الدين الإبراهيمي" وعودة مرة أخرى إلى مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، وهي عناوين لهدف واحد. لذا تتطلّب الحاجة القصوى والملحة تدارك الموقف ومواجهة هذه المشاريع الواحدة لمنع الانهيارات، التي إذا نجحت فإنها ستفتح أبواب جهنم على المشرق العربي والمنطقة.
وهذه المواجهة لا يمكن تداركها إلا بتدعيم ثقافة المقاومة، وجعلها مادة حيوية في مناهجنا المدرسية طالما بقي الكيان الصهيوني جاثماً على أرضنا في فلسطين، في وقت تنتشر أدواته التكفيرية والعميلة في كل مكان، على الأرض وفي وسائل الإعلام اللبنانية والعربية.
نحن إذاً، أمام مهمة من العيار الثقيل، وهي صناعة "الصبر الاستراتيجي" والتمسّك به، واعتماده في جميع تفاصيل حياتنا، لأنّ الصبر هو مفتاح التوفيق، والصبر هنا هو أيقونة المقاومة، فلا شيء فيها يمكنه التخلي عن الصبر وهذه من شروط ثقافة المقاومة الطبيعية لكي تكون شاملة كل نسيج مجتمعنا، وذلك بعيداً عن الانتماءات الطائفية والعرقية.
وتتمثّل هذه الشروط بالنقاط الآتية:
1 - أن يؤمن مجتمعنا بهويته الواحدة التي تجمعه وتجعل منه قوة لا يمكن كسرها، وذلك بعيداً عن التجمّعات المذهبية والطائفية والعرقية، التي تمارس الغطرسة والعنجهية في امتهان وإذلال الشعب، ولنا أمثلة بذلك من محاولات في شمال العراق وبعض مناطق لبنان وسوريا وحتى فلسطين.
2 - أن يؤمن هذا المجتمع أنّ له عدواً واحداً، هو ذاك الجاثم في فلسطيننا، ومتفرعاته التكفيرية، وأن تبتعد "مكوّنات" هذا المجتمع عن خلق عدو وهمي لها تشكّل معها حالة مواطنية واحدة على هذه الأرض الممتدة، من جبال شمال العراق وحتى شواطئ فلسطين.
3 - مواجهة الضخ الإعلامي والمادي، المشبوه والمدعوم من قوى مادية خيالية، ضد المقاومة والمقاومين داخل مجتمعنا، وهذا الإعلام لا يمكن مواجهته إلا بإعلام مضاد في سبيل إسقاطه مهما كان كبيراً وهائلاً.
4 - أن يدرك مجتمعنا أن للمقاومة متفرّعاتها التي تبدأ من الكتاب المدرسي الوطني الموحّد، والغناء، والمسرح، والفن التشكيلي، والشعر، والقصة والرواية، وأخيراً بالبندقية والعسكر.
**
تؤكد حكاية فلسطين أنها حكاية عشق أبدية، ولعل فلسفة وجودنا ترتبط بفلسطين الأسطورة الخالدة وهو ما أكده الشاعر محمود درويش بالقول: "أن تكون فلسطينياً يعني أن تُصاب بأمل لا شفاء منه".
فالصراع القائم بيننا وبين الصهاينة هو صراع وجود وليس صراع حدود، ولهذا نقول سيؤدي الفعل البطولي إلى النصر والتحرّر ليتحوّل بعد ذلك إلى أرضية صلبة لمناهضة النزعات العدوانية/الاستعمارية اللاإنسانية التدميرية.
إن النزاهةَ شجاعةٌ تُخلِدّ رموزها ومثلها، ولعل أهم الأمثلة المعاصرة، زعيم الشهداء أنطون سعاده، وسيد الشهداء السيد حسن نصر الله، والسيد إسماعيل هنية، وقد سبقتهم قوافل من الشهداء، لا تبدأ من القائد عماد مغنية، ولا تنتهي بالقائد يحيى السنوار.