عن نينوى وآثارها الآشورية

استطاع الملك الشهير آشور بانيبال أن يحافظ على وحدة الإمبراطوريّة الآشوريّة ومنعتها، وهو الذي لقّب بالكتبي والمثقف.

  • نحت يمثل الملك الآشوري أشور بانيبال.
    نحت يمثل الملك الآشوري أشور بانيبال.

ترأس الرحالة البريطاني أوستن لايارد عام 1845 عمليات التنقيب عن الآثار في بعض المواقع الأثرية في محافظة نينوى في العراق، على غرار تل قوينجق ومنطقة النمرود وكشف عن القصر المفقود للملك سنحاريب الذي احتوى على إحدى وسبعين قاعة ومنحوتات بارزة. كذلك اكتشف لايارد قصر آشور بانيبال ومكتبته التي ضمّت أكثر من عشرين ألفاً من الرقم السومريّة الطينيّة. 

ويحتوي كتاب "نينوى وآثارها" للباحث والرحالة أوستن هنري لايارد ، الذي نقله إلى العربية محمد حسن علاوي ونشرته دار الرافدين، على وصف مشوّق لتلك الاكتشافات العظيمة في الموقع الأثري علاوة على الصعوبات التي واجهها للكشف عن المواقع والمحافظة عليها. كما يتضمن لوحات ومخططات وأشكالاً توضيحية ورسومات وخرائط مع شروحات نادرة بأسلوب السرد الوصفي للآثار والحوادث التي جرت أثناء التنقيب، مع معلومات بالغة الأهمية عن تاريخ الشرق القديم وثقافته وطبيعة الحياة الاجتماعية في تلك الفترة.

مدينة نينوى

       مدينة نينوى ذات تاريخ عريق؛ يرقى إلى الألف الخامس قبل الميلاد، وكانت في الأصل قرية من قرى عصور ما قبل التاريخ (5000 -4000 ق .م) استوطنتها أقوام خرجت من الجبال الشمالية الشرقية، كونها تقع على الجانب الشرقي من نهر دجلة، وأخذت تنمو بمرور الزمن، فازدهرت في عصور الحضارة العراقية القديمة المتعاقبة (السومريّة والأكديّة) وكانت تابعة للإمبراطوريات التي تكونت في الجنوب، والأصل في اسمها سومري، يماثل اسم للمدينة (نينا) وهي (تل زرغل) الحالية، التابعة لمملكة لكش السومرية في الجنوب.

    كتب اسم المدينة بمقاطع صوتية بالصيغ الآتية:

(أورُ - ني - نو) و(أورُ - ني - نو آ) و (أورُ ني - نا آ) وتعني "موضع السمكة" وقد حافظت على اسمها في المصادر الآرامية والعبرية والعربية اللاحقة بالصيغة (نينوى). فهي قرية زراعية قام بتوسيعها الآشوريون وأصبحت عاصمة لهم لقرون عديدة واستمر حضور نينوى في العصور الآشورية، بوصفها إحدى المدن المهمّة، إلى جانب العواصم الملكية الأخرى: آشور، وكلخ (نمرود) ودور شروكين (خرسباد).

ويعد الملك الشهير آشور بان إبل (آشور بانيبال، 669 - 627 ق. م) خير خليفة استطاع أن يحافظ على وحدة الإمبراطوريّة الآشوريّة ومنعتها، وهو الذي لقّب بالكتبي والمثقف؛ بسبب اهتماماته المعرفيّة، حيث ركّز كثيراً من جهوده في جمع مدوّنات العراق القديم وضمّها إلى مكتبته العظيمة في نينوى (تلّ قوينجق) حيث شهدت نينوى تحسينات وتجديدات في عهد آشوربانيبال، الأمر الذي أدى إلى تدعيم سمعتها باعتبارها مدينة الجمال الخلاّب والثقافة العالية. وأقيمت القصور المزينة باللوحات المنحوتة العظيمة والمعقدة ووسّعت الحدائق العامة وإزداد جمالها، فجذب حب آشوربانيبال للعلم واهتمامه بالأعمال المكتوبة الباحثين والكتبة إلى نينوى بأعداد كبيرة، وسمح الاستقرار الذي ساد عهده بتطور الفنون والعلوم والإبداعات المعمارية. 

  • كتاب
    كتاب "نينوى وآثارها" للرحالة أوستن هنري لايارد.

عهود ملوك الإمبراطورية الآشورية

كما وصلت نينوى في عهود ملوك الإمبراطورية الآشورية إلى قمة ازدهارها وبلغت أقصى مجدها الإمبراطوري خلال العصر الآشوري الحديث (الألف الأول ق.م) منذ اعتلاء الملك الآشوري سنحاريب (704 -681ق.م) للعرش.

  يمكننا القول إن مدينة نينوى وحتى مركزها الموصل هي المدينة التي أنجبها التاريخ، الذي يعيش في بطون الكتب أكثر من التراب الذي نمشي عليه، فهذه المدينة التي نشأت في مهدها على الساحل الأيمن من نهر دجلة، في المكان الذي يُعرف بمحلة القلعة وقد سميّ هذا الموقع قديماً "حصنا عبرايا" وهو اسم سرياني ومعناه "الحصن العبوري" وقد ترجم المطران أدي شير "حصنا عبرايا" - ببرج الضفة الأخرى.

كما دلّت الدراسات والمصادر الإسلامية عبر التاريخ بأنّ الله - سبحانه وتعالى - قد أرسلَ النبي يونس إلى أهل نينوى يدعوهم لنبذ الأصنام وعبادته، ويحذرهم عاقبة ما هم عليه من الضلال، فلم يستجيبوا له، فأنذرهم بالعذاب، ولما شاهدوا ما أنذرهم به ندموا على كفرهم، ورجعوا إلى النبي يونس مظهرين التوبة، فأمرهم بالتّطهّر، والتّضرع إلى الله - عزّ وجلّ- لعلّه يقبل توبتهم ويكشف عنهم العذاب، فكان وقوفهم هذا فوق التل الذي سُمي فيما بعد "تل التوبة". كما أنهم تطهّروا قبل هذا بالعين التي سميت فيما بعد "عين النبي يونس".

 وبعد مرور الزمن والأحداث، وصل العرب المسلمون إلى نينوى عام (637م) زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. وكان موضع قبر النبي يونس معروفاً قبل الإسلام، لكن لم يتم العثور على نصٍ صريح يذكر عائديته، وقد تمّ نسخ القصة اليهودية للنبي يونان في العقيدة الإسلامية بتحوير في الإسم (فأصبح في عربية القرآن يونس بن مَتّى) الملقب بصاحب الحوت، أو ذي النون، ونون تعني سمكة بالمشترك السامي، وفي العربية تعني "حوت". وكانت منطقة "تل النبي يونس" قرية يسكنها العرب المسلمون والتركمان. وقد توجّت بالفخر والمجد بوجود جامع النبي يونس فيها. وهذا شيء مثير ومميز بما فيه الكفاية. ويحظى جامع النبي يونس والضريح الذي في داخله بقداسة كبيرة لدى المسلمين والذي منح القرية الهيبة، وتمتعت القرية بنعمة الحفاظ على اسمها نينوى، فموقع التل الآثري قد تحدّى كل الظروف حتى الآن وبقي غير قابل للتغيير وحافظ على البقاء ضمن عمليات التنقيب من قبل عالم الآثار.

مدينة الموصل

تضّم مدينة الموصل والتي كانت معروفة سابقاً باسم "فيلايت" أي ولاية الموصل من الأجناس الأكثر تعقيداً والمحيّرة جداً. فلم يسكن داخل حدودها الإدارية الطوائف المتنوعة الكثيرة والتي لم تعرف في كثير من الحالات بأنهم السكان القدماء؛ بل من النادر أن نجد جنساً واحداً من أجناس سهل الموصل الكبير، أو نادراً ما نجد قريتين على التوالي سكنها أناس من جنس واحد وتكلّموا لغة واحدة وعبدوا الرّب نفسه، حيث تترجّح في مدينة الموصل وفي السهل كفّة العرب في حين تترجّح في الجبال الواقعة في الشمال والغرب كفّة الأكراد. وانتشرت كلتا القوميتين في المدينة والسهل والجبال بين الأقليّات العرقية الباقية الأخرى، وعاشت البعض الآخر من القوميّات في غموض مثير في التاريخ حيث من الصعب الآن الكشف عن أصولهم ونشأة أديانهم ومعتقداتهم 

وتعيش في الموصل مجموعة متنوعة كبيرة من المسيحيين بين الأقليّات العربية. وقد زار الرّحالة كارستن نيبور مدينة الموصل عام (1766) وكتب عن النصارى وحالة معيشتهم فيها :

"حالة النصارى في الموصل أحسن بكثير من حالة النصارى في بقية بلدان الإمبراطورية العثمانية؛ فهم يعيشون سعداء على وئام تام مع المسلمين ولهم الحق في أن يلبسوا كما يلبس المسلمون".

تلِّ النبيّ يونس 

أمّا عن التنقيبات الأثرية في تلِّ النبيّ يونس فكانت ولاية الموصل هي الحاضنة الجغرافية للحضارة الآشورية، حيث تقع فيها أغلب عواصمها الإمبراطورية، كآشور، نمرود، خرسباد ونينوى، وقد كان لها نصيب كبير من عمليات نبش الآثار وتهريبها تارة، أو إخراجها واقتسامها مع الباب العالي بموافقات خاصة تارة أُخرى، ومن التّنقيبات الأثرية التي تمّت في موقع تلّ النبي يونس هي حفريات (بول إميل بوتا).

مدينة نمرود 

أمّا عن مدينة نمرود والتي كان اسمها "كالح"، فهي تقع بالقرب من قمة مثلث من الأرض، تكونت من التقاء الزاب الكبير ونهر دجلة والتي سبقت "كوينجق وتل النبي يونس" وأصبحت الإقامة الملكية إلى الملوك الآشوريين وقد ضمّها "لايارد" مع "خورسباد وكيرملياز" داخل الدوائر في المواقع التابعة لمدينة نينوى الكبرى، واصبحت النمرود مدينة (شالمانيسر الأول) وقد أغتنت وفاقت بذلك كوينجق باحتوائها على الآثار، وظهرت من خلال جهود وأعمال المنقب عن الآثار "لايارد" ولدى المتحف البريطاني الكثير لعرضه أمام عيون الزوار.

مدينة الحضر 

أمّا مدينة الحضر فهي تقع في الجنوب الغربي من الموصل وتبعد خمسين ميلاً ومحاطة بالسهول من جميع الجوانب، فلم تكن المدينة القديمة مأهولة بالسكان الآن، ولكن كانت في يوم ما أرضاً زراعية خصبة وقد رفع البارثيون من شأنها حتى أصبحت قلعة حصينة قوية صممت لحماية حدود مملكتهم الغربية ضد جحافل روما.