عبد اللطيف عبد الحميد.. تكثيف الحب في الزمن السينمائي
وقف دائماً مع ريفية الحب وصِدْقِه واندفاعاته الفطرية، حتى نال بجدارة لقب "بسمة السينما السورية". إليكم حكاية المخرج الراحل عبد اللطيف عبد الحميد.
كتب المخرج السوري، عبد اللطيف عبد الحميد (1954 - 2024)، الذي رحل عن عالمنا أمس، نصاً قصيراً في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عنوانه "حليب أمّي"، وفيه يبقى حائراً في حل لغز هل كانت أمه تحبه أم لا؟ لكنه بعد أن علم بأنها دخلت في سبات، زارها في المستشفى. وما إن تذكر أخته اسمه في أثناء استقباله، حتى تفتح أمه عينيها المطفأتين بفرح لا يعادله فرح. يكتب "وفيهما كثَّفت حباً عمره 35 عاماً، وأطلقته دفعة واحدة، ثم أغمضتهما إلى الأبد، كأنها كانت تقول لي: تعلَّم أيها السينمائي.. تعلَّم جيداً كيف يمكنك أن تُكثِّف سنوات الحب الدفين في لحظة واحدة".
هذا ما سعى له مخرج "ليالي ابن آوى" طوال مسيرته السينمائية، التي أنجز خلالها 13 فيلماً روائياً طويلاً، كانت كلها من كتابته، واستطاع أن يحقق فيها بصمته الخاصة من خلال الموازنة الدقيقة بين بداهة البساطة وعُمق القول، بعين حساسة وحالمة تستلهم الجمال والحب بنهم كبير وتكثيف عالٍ، كأنه في صراع دائم مع سلطتي الزمن الواقعي والزمن السينمائي، وآليات إدغامهما معاً بروحانية مُبهجة، وخصوصاً من خلال إشباعها بجرعات كوميدية من النوع اللَّماح، القادر على انتزاع الضحكة من القلب، ولو كان ذلك عبر النَّبش في غور الأحزان والمصائب والتراجيديات والهزائم الكبرى.
في جميع أفلامه اشتغل مخرج "نسيم الروح" على موضوعة الحب، منتصراً له في كل التفاصيل، بغض النظر عن مصير العاشقين ومآلاتهم. فالمهم التنويه بقيمة هذا الشعور وضرورة الإمعان فيه حتى النهاية. لذلك تراه يُغلِّب، في رؤاه السينمائية، السلاسة في المشاعر والبساطة في التعبير عنها، حتى يمكن القول إنه كان يقف دائماً مع ريفية الحب وصِدْقِه، وجماليات يناعته واندفاعاته الفطرية، وهو ما سخَّر له سينماه وبهجتها حتى نال بجدارة لقب "بسمة السينما السورية".
وعلى رغم مكابدات عشّاقه في سياقاتها، ومآزقهم الروحية المديدة، فإن شفافية الطرح، التي أتقنها عبد اللطيف عبد الحميد في جميع أعماله، واتكائه دوماً على الكوميديا السوداء والمفارقات الغرائبية، جعلت الذاكرة، التي تشكَّلت لدى متابعي أفلامه، تحتفظ بالفكرة والطرافة اللتين تمتزجان بأسلوب تقديمها. ولعل من أبرز سمات سينما مخرج "رسائل شفهية" هي تلك التركيبة التي تجمع الألم والغرائبية بقالب طريف، وهي، على صعوبة تكوينها وتظهيرها، تبقى بليغة الأثر بسبب ما تمتلكه من قدرة على الإدهاش، فكرياً وفنياً، في آن.
ومن سمات الأسلوبية التي اشتغل عليها عبد اللطيف نُبْلُهُ في الدفاع عن شخصيات أفلامه، وخصوصاً المهمَلين والمنسيين في تفاصيل عيشهم الهامشية، إذ يسلط عليهم ما استطاع من الضوء، كاشفاً حيواتهم في أعمق تجلياتها، سابراً أغوارهم النفسية والاجتماعية، وعوالمهم الداخلية، كأنه يعيد إحياءهم من جديد، على طريقته السينمائية الفريدة في طرحها آلام أولئك البسطاء من دون مراوغة، إلا من خلال توشيحها بقليل من الكوميديا المتلائمة مع ظروفهم، وهو ما يدفع المشاهدين إلى التضامن مع قضاياهم والوقوف في صفِّهم، بغض النظر عن المسافة التي تفصلهم عنهم. كأن عبد الحميد في ذلك يتبع أسلوب التغريب الذي نظَّر له الألماني برتولت بريخت. فعلى الرغم من أن المشاهد قد يضحك على معاناة أبطال الفيلم، وأحياناً يسخر منهم، فإن صدق المشاعر العفوية لتلك الشخصيات المشغولة بعناية يتغلغل على نحو غير ملحوظ في وجدان المتفرجين، ولاسيما أن مخرج "صعود المطر" يقوم دائماً بتعرية شخصيات أفلامه بمنتهى الحنية والحب والاحترام، كما أشار في أحد حواراته، وليكون ذلك سبباً في نجاح أفلامه.
هذا الأثر استمر في معظم أفلام مخرج "خارج التغطية"، والذي سعى لتصوير عبثية الحياة، وفق رؤيته الخاصة، صاهراً كثيراً من المتناقضات في بوتقة واحدة. بحيث لا يخلو أحد أفلامه من الثنائيات، مثل: الحب مع الموت، الرغبة مع الإحباط، الحلم مع اليأس، الضحك مع المرارة، الانتصار مع الهزيمة، لكنه لا يتركها من دون أن يسخر منها جميعها، انطلاقاً من أن ذلك سخرية من الوجود، في حد ذاته. لذلك، كان يبني حكايته السينمائية على ذلك الأساس، مُصوِّراً هزلياته الجارحة من الحياة وقسوتها المديدة على شخوص أفلامه، مع اهتمام شديد بالمعنى، ورهان دائم على الصدق والبساطة والنقاء.
ولعل المتابع لأفلام عبد اللطيف الروائية، منذ فيلم "ليالي ابن آوى" (1988)، والذي تشبه مناخاته أجواء السينما الجورجية، سيرى أنه، على الرغم من تغير معمارية الحكاية وانعكاساتها على المستوى المرئي، فإنها تبقى مجدولة بنسغ وروحية سينمائية واحدة، فمن سوداوية "تلك الليالي" إلى "رسائل شفهية" (1991)، مروراً بـ"صعود المطر" (1994) الذي خرج فيه عن مزاج فيلميه السابقين، ونحا في اتجاه سينما سوريالية تحاكي أفكاراً إنسانية عميقة، إلى القصيدة السينمائية في فيلم "نسيم الروح" (1998)، والتي تلتها عودة إلى الواقعية في "قمران وزيتونة" (2001)، و"ما يطلبه المستعمون" (2003)، و"خارج التغطية" (2007)، و"أيام الضجر" (2008)، ليبقى الحب هو الناظم الرئيس لأعمال عبد الحميد بما فيها فيلمه "العاشق" (2012) الذي ابتعد فيه عن البيئة الريفية التي لازمته في معظم ما اشتغل. وهناك أفلامه التي تحث على المحبة في مواجهة الحرب، ومنها "أنا وأبي وأمي وأنت"، و"طريق النحل" (2017)، و"عزف منفرد" (2018)، و"الإفطار الأخير" (2021)، وآخرها "الطريق" (2022).
في تصريح خاص بــ "الميادين الثقافية" تحدث الفنان القدير فايز قزق عن علاقته بالمخرج الراحل، بالقول إنه "لا يمكن الحديث بسهولة عن علاقتي بالصديق الراحل عبد اللطيف عبد الحميد، إذ بدأتْ قبل أكثر من 30 عاماً، كصديقٍ وفنانٍ سينمائي حقيقي. علاقةٌ لمستُ من خلالها الصدق والوفاء والإخلاص لمهنته، وإصراره على تقديم ما يميزه كإنسان قبل أي صفة أخرى".
وأضاف: "منذ اللقاء الأول بيني وبينه عام 1990 في فيلم "رسائل شفهية"، بدا لي واضحاً أن عبد اللطيف كان يهوى الانحياز إلى رصد صفوف بسطاء الناس، والوقوف إلى جوارهم؛ أولئك المنسيين في أماكن بعيدة عن الضوء، راصداً بقلمه وأداته السينمائية صور آمالهم وأحلامهم، وساعياً لتظهير مشاعرهم وانفعالاتهم ضمن سياق عيشهم وظروفهم الصعبة والاستثنائية، جاعلاً من كل فردٍ منهم شخصيةً جديرة بالبطولة والإعجاب. كل ذلك من خلال حسه الإنساني الساخر، حسٌ لم يتوقف في البحث عن التفاصيل والفرادة في كل شخصية من الشخصيات التي قدمها ضمن ظرفها وبيئتها وسمات علاقتها بهذه البيئة ومكوناتها".
وختم قزق: "لن أبالغ إذا قلت إن الراحل عبد الحميد ترك لنا خلفه تراثاً سينمائياً خاصاً وملهماً، فيه كثير من الإشارات والرموز والحكايات القابلة للدراسة والبحث؛ تراثاً مفعماً بالبسمة والضحكة الحقيقية، وبفيض من دموع صادقة لا أذيّة فيها، بل غسل للعين منا واغتسال للروح فينا".