عبد الحكيم الطاهر.. حكيم الدراما وترجمان الصم في السودان
من عامل بسيط فقد أصابع يده في حادثة عمل في مصنع للنسيج، إلى مخرج وكاتب لأهم الأعمال الدرامية السودانية.. إليكم حكاية عبد الحكيم الطاهر.
حظي الفيلم الأوسكاري CODA بكثير من التقدير في السودان - أسوةً بنجاحه العالمي - لكونه سلّط الأضواء على قضية الصم وإدماجهم في المجتمع، لكن الفيلم ذاته أبان عن جهل وقلة تقدير بحق إحدى أهم الأيقونات الفنية المحلية، ونقصد هنا الراحل عبد الحكيم الطاهر، الذي ألّف وأخرج قبل عقدين من الزمان عملاً مسرحياً متفرداً، موجّهاً إلى الصُّم.
صحيح أن مسرحية "البديل"، المتحدثة بلغة الإشارة، من إخراج الحكيم ومشاركة شبان من شريحة الصم، نالت حظها في الإطناب دولياً، بما في ذلك حصدها جائزة العرض المتفوق من مهرجان إسبانيا للصم عام 2003، لكنها لم تنلْ – في المقابل - استحقاقها المحلي، ربما تواطؤاً مع عادتنا الأثيرة في أنَّ زامر الحيّ لا يُطرب.
وكسراً لهذا التابوه، وفي الذكرى الثانية لرحيله المفجع، نحاول في "الميادين الثقافية"، بث بعض الطرب الذي نثره الفنان الشامل عبد الحكيم الطاهر في المسرح والدراما، في شقيها التلفزيوني والإذاعي. كما سنتطرق إلى جانب من سيرته الأكاديمية ومساهماته في رفد أبي الفنون "المسرح" والدراما، بصورة عامة، بأجيال وأسماء لا تزال تتلألأ فوق الخشبات وفي الشاشات، على حدٍّ سواء.
جزء من سيرته.. من عامل بسيط إلى مخرج
في الأول من كانون الثاني/يناير 2021، وفي عز انشغالاتنا بالسنة الجديدة والعيد الوطني، نعى الناعي هرمنا الكبير عبد الحكيم الطاهر، من جراء إصابته بفيروس "كورونا"، عن عمر ناهز 72 عاماً، أمضى جزءاً كبيراً منها في الإبداع الفني.
بيد أن اللقطة الأجمل في هذه المسيرة الإبداعية ذات صلة بتحوله من عاملٍ بسيطٍ فقدَ أصابع يده اليسرى، في حادثة عمل مفجعة في مصنع النسيج السوداني عام 1962، إلى ساعٍ في تحصيل الدرس في فصول "محو الأمية"، في سن متأخرة نسبياً، قبل أن ينتهي به السعي بتحصيله درجتَي الماجستير والدكتوراه، مخرجاً لأهم الأعمال الدرامية، كاتباً نصوصاً لا يمكن تجاوزها، ومتقمصاً أدواراً لا تزال مطبوعة في أذهاننا وغير قابلة للمحو.
في رحلة صعوده، درج الطاهر على تقديم قصص كفاحه عاملاً في مجال النظافة والتعبئة في مصانع الزجاج والكبريت والصابون والحلويات، وصولاً إلى ترقّيه عاملاً داخل مصنع النسيج، على شكل جرعات كثيفة من الكوميديا والدراما.
وفي الخانة ذاتها، وقبل مبارحتها، يحكي الراحل بحب عن الثمار الدرامية التي جناها من مجتمع المصنع، ومن جلوسه في الأمسيات مع أبناء الحي، ومن العمل لمصلحة مسرح الأطفال وبرامج الأطفال.
ومن صفاته الشخصية المنسحبة على أعماله محبته للآخرين، ويتبدّى ذلك في رده الجميل إلى رفقائه العمال بالعكوف على تعليمهم أساسيات القراءة والكتابة، ولا تنتهي بأعماله الرسالية وإسماع من ضاعت أصواتهم في ضجيج الحياة، بمن في ذلك أصحاب الإعاقة، بحيث يُعَدّ رائداً لمسرح الصم في السودان.
أعمال خالدة
يملك عبد الحكيم الطاهر مكتبة من الأعمال الموزّعة على المسرح والتلفاز والراديو. ومع ذلك تحصره أغلبية السودانيين في دور الكوميديان. ولا شك في أنَّ الشخصية المفتاحية لهذا التصنيف هي "كابتن كابو" في المسرحية ذائعة الصيت "نقابة المنتحرين".
باختصارٍ شديد، أدى الحكيم دور لاعب كرة معتزلاً انحسرت عنه أضواء الشهرة، فقرر مع شخصيات تضاهيه فشلاً في ضروب أخرى تكوين نقابة للراغبين في إنهاء يأسهم من الحياة طواعيةً.
لكن الدور ذاته، المحتشد بالكوميديا والقفشات، حين تمحيصه في سياق العمل المسرحي ككل، نجده يناقش، مع أدوار غيره من ممثلين، أزمات مكتومة داخل المجتمع، ذات صلة بالاقتصاد والاجتماع مع تماس غير خافٍ مع السياسة.
ومن الأدوار التي لا تُنسى، تقديمه دور زعيم عصابة في مسلسل "سكة الخطر"، وتقمصه شخصية التاجر الفاسد في مسرحية "أكل عيش"، ثم هو العمدة في مسلسل "مهمة خاصة جداً"، والشاويش الملتزم في سلك الجندية في "دكين"، وغيرها من الأدوار التي ارتدى فيها 100 قناع وألف وجه.
فجوة لا تُسد
وبشأن البصمة التي وضعها عبد الحكيم الطاهر في مسيرة الفن السوداني، لم نجد أنسب من زميله وتلميذه في كلية الموسيقى والدراما في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، معهد الموسيقى والدراما (سابقاً)، وفي كثير من الأعمال، الدكتور كامل الرحيمة.
بصوت متهدج مصحوب بنبرة من الفخر، يقول الرحيمة لــــ "الميادين الثقافية" إنه تشرف بالعمل مع "الأستاذ" في معظم الأعمال الدرامية التي أخرجها – هو - التلميذ، سواء أتم ذلك أمام عدسات الكاميرا، أو وراءها.
لكن، من العلامات المهمة التي سلط الرحيمة الأضواء عليها، هي نشاط الحكيم مع شريحة الصم، وتحركاته في مجال المسرح التنموي، في أعمالٍ تناهض العنف في إقليم دارفور المضطرب، أو تحذر من خطورة الألغام في ولايتَي جنوب كردفان وكسلا، واللتين شهدتا صليل المعارك بين السلطات الحكومية والمعارضين، بالإضافة إلى معارضته العادات الضارة من شاكلة الختان، وصولاً إلى تقديمه أعمالاً موجهة إلى الأطفال الأريتريين الواصلين إلى السودان تحت صفة لاجئين.
وفي المساق القيمي ذاته، يشير الرحيمة إلى إنجازه، مع أستاذه الراحل، أعمالاً إذاعية خاصة بالوقف، وسِيَر الصحابة، رضوان الله عليهم.
ويلفت الرحيمة إلى أن الطاهر كان صديقاً لا يمكن تكراره، وأستاذاً غير قابل للنسيان، وشعلة وقّادة من النشاط، بحيث تتلمذت على يديه أجيال متعددة، بالتوازي مع مساهماته في كتابة بحوث ودراسات أكاديمية رصينة في مجال الفنون والدراما، الأمر الذي يجعل غيابه بمثابة فجوة لا يمكن سدّها.
العصامي والمخرج الفذ
وبشأن السمة الأبرز في مسيرة عبد الحكيم الطاهر، لجأنا إلى الناقد المسرحي، السر السيد، فانتخب من سيرة الراحل صفة العصامية.
عند هذه النقطة، يعيد السر تذكيرنا، في "الميادين الثقافية"، بتعليم الحكيم لنفسه، والعكوف على صقل موهبته وقدرته على الإضحاك والتواصل الحيّ مع الجماهير، عبر الدراسة الأكاديمية، ثم ليتوسل بذلك كله لإنجاز أدوار معقدة ومتباينة وتأديتها، سواء كان ذلك على المسرح أو التلفزيون أو الراديو، وهو ما جعله يكاتف عمالقة الدراما السودانيين.
ويكشف السيد تقديم عبد الحكيم الطاهر لنفسه بصورة مدهشة على خشبات المسرح المصري، في إبان دراسته الماجستير في الجارة الشمالية.
كما ساهم "كابتن كابو" في التعمية على أدوار كثيرة لعبد الحكيم الطاهر، فلقد أخفى عن الناس مساهماته البارزة في مجال الإخراج.
ونجد أن الراحل أخرج جُل مسرحياته وأعماله الدرامية بنفسه، ثم شارك في إبراز أعمال الآخرين، وصولاً إلى مرحلة تدبيج دراسات لنيل الدرجات العلمية عن بعض أعماله، وهو جالس يدير خيوط العمل من وراء الكواليس.
عند رحيله في بداية عام 2021، خلّف عبد الحكيم الطاهر أسرة مكونة من زوجة متفهمة وثلاثة أبناء وبنت، و27 مسرحية، و7 مسلسلات، و 4 أفلام، وكثيراً من الأعمال التلفزيونية والإذاعية القصيرة، إلى جانب محبة الناس.