صالح إبراهيم في " صناديق سود" : المسكوت عنه في الحرب الأهلية

يتغلغل الروائي في شرائح المجتمع اللبناني ليبين المسكوت عنه في علاقة الطوائف اللبنانية، بعضها ببعض، ويفضح الشروخ العميقة في بنية هذا المجتمع المنقسم على ذاته.

  • صالح إبراهيم في
    صالح إبراهيم في " صناديق سود" : المسكوت عنه في الحرب الأهلية

تروي" صناديق سود" لصالح إبراهيم، الصادرة عن دار البنان، سيرة مقاتلي الحرب الأهلية المجنونة التي نشبت في لبنان عام 1975. من مانع الذي أطلقت عليه حبيبته سارة هذا الاسم، بعد أن سحبته من الشارع من بين المقاتلين، عندما وجدتــه علــى وشــك الموت ينــزف من عــدة أنحاء في جســده، التقطته من بينهم، والرصاص يحصد الشــارع والرصيف، وشظايا القذائف كالشتاء، وصراخ المقاتلين المجنــون ينتشــر ويعلــو، يختلــط بانفجــارات القنابــل والأزيز.

سارة تحرض مانع الذي فقد ذاكرته، قصص رفاقه المحاربين، فهذا مرجان زعيم ميليشياوي محلي الذي يلتقط ربيعة من بين أشداق المقاتلين ويتخذها خليلة وعشيقة، فتنقاد كهرة مسالمة وتنزوي في حضنه كسلحفاة عجوز، إلى إبراهيم الذي عبر أحد المنابر إلى المنطقة المعادية من المدينة هارباً من إحدى الميليشيات المناوئة  ليجد ربحي مسؤول الحزب الذي ينتمي إليه، والذي يقود مجموعة من الخلايا النائمة  قد تخلى عنه، فيلجأ إلى العمل متخفيا كنادل في مطعم، فتنشأ بينه وبين ماري ابنة صاحبة المطعم علاقة عاطفية غير متكافئة، وتدور بينهما حوارات ونقاشات بشأن الهوية والحرب وأشياء أخرى . هو  بذكائه الفطري وهي بثقافتها وتعاليها وعطرها الأنثوي الباريسي الطاغي ولغتها الفرنسية.

"التخلف يعني الكثير. هو ليس فقط عدم اللحاق بمن سبقنا. هو حياة داخلية أيضاً. الفقر ليس نقصاً في المال فحسب، بل هو ألم دائم وشعور بالحرمان الدائم والنقص الدائم. الهزيمة تفضي إلى الشــعور الدائم بالخصاء وتدفع إلى التشــتت. ألا ترين أن ثلث لبنان تقريباً تحت الاحتلال؟ ألا ترين ما يمكن أن تفعل بنا هذه الهزيمة؟".

ألهبــت ماري كل ظلال إبراهيم. أنســته خوفــه. شــرعت فيه كل نوافــذ الفــرح والقلــق والوقاحــة والألــم والــذل، قبــل أن يشرب أنوثتها، ثم يحل بعيداً.
لأنها أحبته سعت حثيثاً لتخلصه من حرمانه ورعونته وبدائيته، وتجعله أكثر رقياً بحسب فهمها للرقي، وتعرفه إلى سلوكيات ذلك العالم،  وتطلعه على صور نجوم الفنانين الغربيين ." جلســت قربي وتابعــت بهدوء وثقة "بكل الأحوال يــا إبراهيــم، أنا أريد أن أغيــرك... أنا مؤمنة بذلك... لكن عليــك أن تــرى العالــم الراقــي. اعذرنــي إن أخبرتــك أننا أبي وأنا وأخي نعمل ونتعب ونشــقى أحيانا كي نحافظ على مستوانا الراقي. أنا لا أريد أن أجرحك، لكن عليك أن ترى بعض الحقيقة". يغفو إبراهيم على حب ماري ليستيقظ على وهم . وليتبين له لاحقا انه أساء الفهم". قالــت بهــدوء:

لا تســئ الحكــم يــا إبراهيــم. مــا بيننا ليــس حباً. أنت تراني غايــة، وأنا أراك بدائيــاً. لذلــك أردت أن أخــوض تجربــة مــع واحــد مــن البدائيين. أنت لا تمثل نفسك. أنت لا تمتلك نفسك.

هنا يتغلغل الروائي في شرائح المجتمع اللبناني ليبين المسكوت عنه في علاقة الطوائف اللبنانية، بعضها ببعض، ويفضح الشروخ العميقة في بنية هذا المجتمع المنقسم على ذاته، فماري تحب إبراهيم وتحتقره وتحتقر البيئة الآتي منها في آن معاً.

إلى هشام المثقف الجامعي الذي يدرس الأدب والمولع بالتاريخ . لا يحتفظ لنفسه بنظرته الثورية وإنما يسعى لتعميمها وعيشها، نمطاً وسلوكاً.

في ختام الرواية نكتشف أن من سمته سارة مانع لم يكن إلا مجموع  تلك الشخصيات في مراحل متعددة من حياته، وبأسماء كان هو اتخذها لنفسه في واحدة من هذه المراحل: مرجان وإبراهيم وهشام، ولكل اسم من هذه الأسماء حكايته. اختزل الكاتب صالح إبراهيم هذه الشخصيات الأساسية، والتي تشكل كل واحدة منها مرآة لما يحدث في أرض الواقع، وكل هذه الشخصيات هي شخصيات مأسوية، كأنما يريد الكاتب أن يقول إنه في الحروب الأهلية لا يوجد رابح والكل خاسر، وإن الحروب الأهلية تمس الروح  والنفس على المستوى الفردي. لذا، كانت شخصيات الرواية متصدعة من الداخل وتعاني هزائم داخلية هائلة.

كل هذه الشخصيات تجمعت في شخصية واحدة هي البطل الروائي مانع، يظهرها الكاتب عبر مجموعة من التداعيات ومحاولات التذكر التي أفضت  إلى رواية" صناديق سود"، بحيث يستعير صالح إبراهيم فكرة الصندوق الأسود الموضوع في الطائرة ليخزن كل ما يجري داخلها من أحداث، فالصندوق الأسود لكل فرد هو مخزونه عبر تجاربه في الحياة، في جو مشحون بالتوتر الأمني والعسكري في العاصمة بيروت في إبان تلك الحقبة من الزمن. وسواد الصندوق ما هو في الحقيقة إلا سلوكات هذه الشخصيات التي تراكمت في لاوعيها، وذلك كله من جراء الحرب وتداعياتها غير المنظورة.

يبقى أن "صناديق سود" للروائي صالح إبراهيم هي رواية حرب بامتياز تضاف إلى عشرات الروايات التي تناولت الحرب الأهلية في لبنان، لكن ما يميز هذه الرواية أنها عندما فتحت صناديقها السود كشفت المسكوت عنه في تلك الحرب التي ما زال اللبنانيون يعانون تداعياتها من انقسام وفرز حتى اليوم، طائفياً ومناطقياً