شادي زيدان.. تقمّص الغياب إلى آخر مداه
لم يكمل شادي زيدان عامه الـ50. آمن أنّ مهنة التمثيل تخذل المشتغلين فيها أحياناً فتدفعهم للغياب، لكنّه في هذه المرة تقمَّص الغياب إلى آخر مَداه.
غريبةٌ هي أقدار الحياة ودراماها، فالممثل الشاب شادي زيدان الذي غاب عنا البارحة بعد أزمة صحية، بدأ حياته الفنية عام 1995 بمشهد وحيد ضمن مسلسل "أيام الغضب"، هو شخصية ضرغام الشاب، التي أكمل تجسيدها أخاه أيمن زيدان في مرحلة عمرية أكبر. وفي آخر أعماله، مسلسل "زقاق الجن"، التي أصيب بنزيف دماغي حاد خلال تصويرها، كان يقف أمام أخيه الأكبر بشخصية ابنٍ له، وكأنّ الدراما تُمعن في قسوتها وتَجَبُّرِها على أبنائها، فأيام غضبها مستمرة، وتراجيدياتها تتكرّس بأقسى درجات الحزن والأسى والغياب.
شادي الذي لم يكمل عامه الـ50، كان يؤمن بأنّ مهنة التمثيل تخذل المشتغلين فيها في بعض الأحيان فتدفعهم للغياب، والتفكير بشكل مُغاير من أجل الوصول إلى خيارات أفضل، بحيث لا يبقون أسرى الأدوار الاضطرارية، وهو ما حصل معه بالضبط، لكنّه في هذه المرة تقمَّص الغياب إلى آخر مَداه، تاركاً جرحاً غائراً في قلب جميع محبيه، ومنهم أخاه أيمن الذي كتب في رثائه: "شادي.. يا خفقة قلبي الذي أنهكه الحزن.. رحيلك جرحٌ لا أدري متى يندمل".
غيابٌ مكتمل الأركان آثره الشاب المفعم بالمحبة، والذي قَرَن اشتغالاته في الدراما التلفزيونية والسينمائية بالمسؤولية والاجتهاد المتواصل، لا سيّما مع يقينه بأنّ المهمة أمام الممثل السوري باتت أكثر صعوبة، سواء في تجسيد المواقف التراجيدية أو في أداء الشخصيات الكوميدية، فمع كمّ المعاناة الهائل التي عاشها ويعيشها السوريون، أصبح من الصعب أن تُقنع المُشاهد وتحصل على تعاطفه معك، وليس سهلاً أن تُبكيه بعد كل الأزمات التي مَرَّ ويمرّ بها، ولا أن ترسم البسمة على وجهه، وهو ما يحتاج إلى بذل جهود مضاعفة في الأداء.
هذا الالتزام الذي أخذه شادي زيدان على عاتقه، جعل همّه الأول في جميع اشتغالاته أن يحظى بمحبة الناس، وأن يكون قريباً منهم، وأن يسير خطوة خطوة إلى قلوبهم، وهو ما عَمِلَ عليه منذ بداياته الفنية، إذ حاول صياغة صورته في أذهان المشاهدين بعناية، سواء في الأعمال الكوميدية التي حققت شهرته الأوسع، من خلال شخصية محروس في المسلسل الكوميدي الاجتماعي "عيلة 6 نجوم"، وشخصية عفيف المتزوج من عدة نساء في مسلسل "عيلة 7 نجوم"، وكذلك شخصية فهيم في "يوميات جميل وهناء"، بالإضافة إلى مسلسلَي "الوزير وسعادة حرمه"، و"مرسوم عائلي".
وآخر مشاركاته في الدراما الكوميدية كانت العام الماضي، في مسلسل "الفرسان الثلاثة" الذي لم يحظَ بفرصة عرض مناسبة. وكان شادي يرى أن الكوميديا فن صعب، بحاجة إلى تضافر عدة عوامل، على رأسها النص الجيد مع مخرجٍ خفيف الدم، يعمل تحت إدارته مجموعة ممثلين ظرفاء، فمن دون ذلك لن يحققوا شيئاً في الكوميديا، كما عبّر في أحد حواراته.
استراتيجية التقرُّب من الناس ودراسة خطواته الدرامية، تابعها من خلال العديد من الأعمال الاجتماعية التي ترك فيها بصمته المميزة، ومنها مسلسلات "عائد إلى حيفا"، "حنين"، "رصيف الذاكرة"، "ملح الحياة"، "كشف الأقنعة"، "القربان"، "الخط الأحمر"، و"طيور الشوك".
هذا إلى جانب تنويعة كبيرة في الشخصيات التي أدّاها ضمن مسلسلات البيئة الشامية، ومنها شخصية الضابط فوزي المتعاون مع الاحتلال الفرنسي ضد أهل بلده/ في مسلسل "بيت جدي.. الشام العدية"، وشخصية أبو سليم في "رجال العز"، ومشاركاته في "حسيبة" و"طالع الفضة" و"زمن البرغوت" و"باب الحارة"، وغيرها من المسلسلات.
ولم يوارب شادي زيدان في حرصه وخياراته المدروسة ضمن الفن السابع أيضاً، ورغم مشاركاته المحدودة سينمائياً، إلا أنّها أثبتت أنّ بوصلته لا تهتزّ أمام مسؤوليته كفنان يعرف ما يريد، فمن فيلم "صورة" عام 2002، الذي أخرجه مروان بركات، ويحكي عن عودة مصور شاب من الولايات المتحدة الأميركية إلى فلسطين المحتلة ليصوّر القمع الإسرائيلي، إلى "موكب الإباء" عام 2005 من إخراج باسل الخطيب، الذي يروي الأحداث التي وقعت بعد استشهاد الإمام الحسين في واقعة كربلاء، وكيف حوّلت أخته السيدة زينب الموكب المحزن المتوجّه إلى قصر يزيد في دمشق من رحلة قاسية إلى موكب إباء، وأيضاً فيلما "الزائرة" و"وجه آخر للقتل".
وكان لزيدان بعض التجارب كمساعد مخرج في عدد من الأعمال الدرامية، مثل مسلسل "عائد إلى حيفا" عام 2004، بالإضافة إلى تجربة وحيدة مع مسلسل الرسوم المتحركة "مغامرات البابا لوز"، الذي عمل فيه مشرفاً منفذاً.
وفي كل أعماله أثبت "أبو عزمي" أنّه قريبٌ بمحبته، وأنّه في الحياة كما في الدراما دائم الحرص على الآخرين، ويشعر بالمسؤولية تجاههم، وليس اشتراكه في مبادرة "كلنا لبعض" لدعم المتضررين من زلزال الـ6 من شباط/فبراير، قبل أيام من وفاته، سوى مثال بسيط على نخوة وشهامة يعرفها جميع المقرّبين منه، والذين سيفتقدونه كما سيفتقد دماثة حضوره وجمالياته كثيرون.