سيرة ليون تروتسكي (1 - 2)
يقول تروتسكي في وصفه بعض رجالات الثورة:" كل موجة عارمة للثورة، بقدر ما تدفع الجماهير غير المتمرسة بعد إلى النضال، ترفع إلى القمة أبطال اللحظة، أبطالاً معمية عيونهم بتألقهم وسطوعهم الشخصي...".
ما الداعي إلى استعادة حياة ليون تروتسكي في خضم ما نعيشه في العالم العربي؟ ألا نملك من أمرنا إلا إدارة رؤوسنا نحو الماضي؟ ستطوف هذه الأسئلة وغيرها باستنكار في رؤوس البعض...
في الواقع، أمران دفعاني إلى إعداد هذه المراجعة، فمن جهةٍ أولى: ما أحوجنا اليوم ونحن نعيش هذه المرحلة المستطيلة من اليأس والخذلان، الحروب والموت والدمار، من أن نعود للنهل من الفكر الثوري النقي في سير القادة الثوريين ومحركي التاريخ.
فالكاتب أحد أبرز مؤسسي الاتحاد السوفياتي السابق وقادة ثورة أكتوبر 1917، التي مهما تجادلنا حولها، ما من شك أنها كانت حدثاً فاصلاً في التاريخ الحديث.
والأمر الثاني أن هذا القائد الذي ناضل وآمن حتى آخر لحظة من حياته بفكرة الثورة الدائمة، امتلك بحق القدرة على نقل الفكر والحس الثوريين عبر كتبه. وبرغم مرور زمن على هذا الكتاب الصادر عام 1929 والصادر بالعربية في عام 2020، فإن من شأنه أن يستنهضك من الكسل واليأس، من الحياد أو التعاطف الوهمي المتذبذب. كما إنه يدعوك بقوة لروايته ونقله.
أمر آخر على درجة من الأهمية، وهو أن مفهوم "الثورة" ومثله "الحرية" قد تعرضا في بلادنا للكثير من الحيف والإماهة القسرية مع مفهوم الإرهاب والتخريب إثر ما عرف بـ " ثورات الربيع العربي"، وكان لبعض وسائل الإعلام العربية من أطراف مختلفة دور هام عن قصد أو غير قصد في هذا التحريف والتشويه للمفاهيم في الوعي العام الجمعي.
يقول الكاتب في مقدمة الكتاب: " إن كتاباً بارعاً يجد المرء فيه أفكاراً جديدة، وقلماً ماهراً يستخدمه المرء في تقديم أفكاره للآخرين، كانا ولا يزالان بالنسبة إليّ أعظم منتجات الثقافة البشرية قيمةً ومكانة."
في الفصول الأولى يتحدث تروتسكي عن طفولته في قرية يانوفكا، لم يكن من أسرة فقيرة لكن طفولته كذلك لم تكن كما تصور في الروايات حياة ترف وثراء فقد أفلتت عائلته للتو من الفقر، ولذا التزمت بنظام صارم يكفيها من العوز وواصلت العمل والادخار. ثم ينتقل بأسلوب روائي شيق ليصف العلاقات بين الريف والمدينة، حيث درس في مدينة أوديسا وسكن عند أقارب أمه الليبراليين المعتدلين.
ثم يتحدث عن مناخ روسيا في نهايات ثمانينيات القرن التاسع عشر تقريباً، إذ غلب على الصحف النقاشات والجدالات حول المسرح، وبرزت حركات فكرية مثل الشعبوية والتولستوية.
كانت الماركسية في بداياتها من حيث الانتشار في روسيا وكان الشبان الأوائل يفتقرون إلى المبادرة ويميلون للاعتقاد أن التطور الثوري في روسيا سيأخذ قروناً من التطور البطيء.
بدايات تروتسكي النضالية والتنظيمية كانت في عمر السادسة عشرة تقريباً عندما أسس مع مجموعة من الشبان" اتحاد العمال الروسي الجنوبي"، حيث بدؤوا بنشر الدعاية الثورية بين عمال المصانع وتثقيفهم بالأدبيات الماركسية، وخاض تجربة السجن للمرة الأولى.
تنتهي هذه المدة من السجن في أوديسا بالنفي إلى سيبيريا وهناك يتزوج زواجه الأول في المنفى السيبيري من ألكساندرا لفوفنا وينجبان ابنتهما الأولى.
عمل مراسلاً لإحدى الصحف هناك ثم أصبح كاتباً في مواضيع أدبية واجتماعية.
في تلك الفترة، تمتد الإضرابات والأنشطة الثورية في أنحاء عديدة من البلاد، لكن من دون توحيد للجهود أو قيادة موحدة وتصبح الحاجة ملحة إلى تأسيس حزب ثوري.
مدفوعاً بقدر تاريخي أكبر منه يعبر عنه بـ "ضغط متطلبات الثورة"، يهرب الكاتب من سيبيريا في ظروف أشبه بالمغامرات. ويصل إلى جريدة الأيسكرا بجواز سفر تحت اسم تروتسكي الذي كتبه اعتباطياً والذي سيرافقه طيلة حياته.
الهجرة الأولى:
سافر تروتسكي من زيوريخ إلى لندن عبر باريس، في خريف عام 1902، حيث تعرف إلى لينين وزوجته، وشرح لهما الوضع في روسيا، وكان للجدالات والنقاشات الفكريه تأثيرها الهام في تلك المرحلة من تاريخ روسيا والعالم، حيث كان النضال الفكري والنظري جزءاً مؤسساً للنضال والحراك الثوريين على الأرض، وفي هذه الأثناء أيضاً أخذ تروتسكي يحاضر حول المادية التاريخية وقضايا الماركسية في عدة مدن وعواصم أوروبية.
مؤتمر الحزب والانشقاق:
في حديثه عن تشكيل الحزب وما سبق ورافق ذلك من صراعات وخلافات داخل هيئة تحرير الأيسكرا يشرح تروتسكي أن المركزية الثورية أمر صارم ومبدأ ضروري وهو قد لا يخلو من قسوة على الأعضاء الفرادى، وقد تجلى ذلك عند لينين بصورة واضحة لكنه يتابع أن " السعي الثوري الملتهب المحموم لمقاصد محددة ودقيقة- سعي يخلو تماماً من أي غرض شخصي- هو ما يبرر مثل هذه الصرامة الشخصية". أسفر المؤتمر الثاني للحزب عن انقسامه إلى المناشفة والبلاشفة.
انحاز تروتسكي في ذلك الوقت إلى المناشفة وحاول التقريب بين فصيلي الاشتراكية الديمقراطية المنفصلين، وكذلك الوقوف ضد محاولات الليبراليين الإصلاحية".
كان تروتسكي من أسبق من توقعوا إضراباً عاماً إثر احتجاجات عام 1904، ويتبع ذلك انتفاضة للبروليتاريين ضد الليبرالية وهذا ما فاقم خلافاته مع المناشفة ثم انفصل عنهم تماماً.
وقد صحت توقعاته وسار العمال مع زوجاتهم وأطفالهم إلى قصر الشتاء حاملين لافتات كتبت عليها مطالبهم لكنهم لم يقابلوا إلا بالعنف والموت.
العام 1905:
يقول ليون تروتسكي رداً على مقولة الثورة كالجنون الجماعي:" هكذا تبدو الثورة .....، كجنون جماعي لأنها ترفع فقط " الجنون العادي" للتناقضات الاجتماعية إلى أقصى درجات التوتر....وفي هذه الحالات ترتدي الأقلية العاقلة قميص المجانين على يد الأغلبية المجنونة وبفضل ذلك يتحرك التاريخ إلى الأمام".
انطلقت جماهير الشعب والعمال جنباً إلى جنب واستمرت الاضطرابات في الريف وفي صفوف قوات الجيش بعد صلح "بورتسمارت" بين اليابان وروسيا.
برغم ذلك، لم تنجح ثورة عام 1905، إذ لم تكن الظروف قد نضجت بعد و"كانت الجماهير بحاجة أن تتعلم من مدرسة الأحداث الكبرى" لكن تلك الثورة كانت مؤشراً هاماً برأي تروتسكي لصوابية فكرة الثورة الدائمة إضافةً إلى قوة البروليتاريا الثورية.
إثر ثورة ذلك العام، بدأت حملة جديدة من الاعتقالات، تنقل فيها تروتسكي بين عدة سجون حيث انهمك في القراءة وكتابة المقالات وكتب كتيباً عن دروس ثورة 1905، ولم يعدم حس الفكاهة حتى في أعتى الأوقات حيث كان يقول لرفاقه في السجن" شعور رائع أن أجلس على مكتبي وأعمل في ثقة تامة أن من المستحيل أن يلقى القبض علي".
نفي الكاتب مع مجموعة من مندوبي العمال إلى قرية قرب القطب الشمالي، لكن وبعد أن قطع المسافة إلى هناك مع الركب ما لبث أن قفل راجعاً حيث استطاع الهروب بعد رحلة مثيرة وشاقة في غابات وثلوج تلك المناطق.
ذهب برفقة زوجته إلى فنلندا حيث التقى لينين، يصف تروتسكي لينين بأنه كان منظماً وواضحاً، بعد ذلك بدأت فترة المنفى الثاني خارج روسيا والتي استمرت عشرة أعوام. حيث سافر إلى استوكهولم ومنها إلى لندن، ثم سويسرا، فيينا...
بناءً على فهم ديالكتيكي عميق لحركة التاريخ، تميز الرجل ببصيرة ثورية ناضجة، فقد توقع الحكومة الانتقالية في وقت كانت لا تزال روسيا القيصرية واقعاً قائماً، كما توقع تحالف الاشتراكية الديمقراطية على قوتها في ألمانيا مع البرجوازية، وكان يشدد على أهمية النهضة الصناعية للحراك الثوري.
عندما أصابت كارثة يوم " الجمعة الأسود" بورصة نيويورك، سادت آراء أن الأزمة التي ألمت بروسيا أيضاً ستؤدي إلى تصاعد النضال الثوري، كانت وجهة نظر تروتسكي مخالفة لذلك حيث أدرك أنه بعد الأزمات والهزائم المتلاحقة "ستكون الأزمة الاقتصادية كارثة على الطبقة العاملة وستهيمن حالة من الإحباط من شأنها أن تدمر ثقة العمال بقوتهم الجماعية وتقتلهم سياسياً، ولن ينهيها إلا نهضة صناعية تضخ دماءً جديدة في شرايين الطبقة العاملة وتدفعها إلى النضال مجدداً."
يروي قصصاً مليئة بالسخرية الذكية والمريرة والتهكم على تناقضات القرارات التي اتخذتها بعض الدول بحقه.
سجن في إسبانيا ونفي إلى كاديز ثم سافر مع عائلته إلى نيويورك على متن الباخرة الإسبانية المتجهة إلى أميركا.
نيويورك.... مدينة الفن والهوى، مدينة التلقائية الرأسمالية، شوارعها انتصار للتكعيبية، والدولار فلسفتها الأخلاقية" بلسان روائيٍ ضليع يصف تروتسكي مدينة نيويورك.
كدأبه في المنافي الأوروبية، غرق في العمل الثوري، حرر صحيفة وترأس الاجتماعات العمالية وانكب على دراسة التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية، واللافت للنظر أنه منذ ذلك الوقت المبكر من القرن العشرين تنبّه لنمو الصادرات الأميركية أثناء الحرب وشغلته قضية الولايات المتحدة مقابل أوروبا وعدّها أهم قضية لفهم المصير المستقبلي للبشرية؟
بعد الاضطرابات وإطاحة الحكومة في بتروغراد، وكثير من العقبات عاد تروتسكي وعائلته إلى روسيا
استقبل بحفاوة في محطة بتروغراد، ثم انتخب عضواً في اللجنة التنفيذية بصفة استشارية وكان المناشفة والشعبويون في هذه الأثناء يشكلون أغلبية.
يقول تروتسكي في وصفه بعض رجالات الثورة:" كل موجة عارمة للثورة، بقدر ما تدفع الجماهير غير المتمرسة بعد إلى النضال، ترفع إلى القمة أبطال اللحظة، أبطالاً معمية عيونهم بتألقهم وسطوعهم الشخصي...".
حتى بعد أن سقطت الحكومة القيصرية لم يسلم الكاتب من سجن " الديمقراطية الثورية" فقد كانت الإشاعات والاتهامات تحاك بشدة حول البلاشفة وكان أيضاً يُتهم لينين من قبل البعض بالعمالة لألمانيا.
تولت مقاليد الأمور الحكومة الانتقالية واتسمت هذه الفترة بالتآمر على البلاشفة والصد والرد.
وبدأ المتظاهرون يطالبون بتولي اللجنة التنفيذية المركزية للسلطة، ولكن تصاعد الوضع أكثر وأعلن حزب البلاشفة كمضاد للثورة ولوحق البلاشفة وقتلوا في الشوارع وهجم طلاب من العسكريين على مطابع البرافدا.
ما لبثت أن انقلبت الأمور، وفاز البلاشفة في انتخابات مجلس سوفيييت بتروغراد مقابل تحالف الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، وانتخب تروتسكي رئيساً للمجلس، حيث لا تزال الكثير من الأحداث والمهام الجسام بانتظاره والتي سنتابعها في القسم الثاني.