سوريا - حصاد الثقافة 2022: سنة الغيابات المريرة
كيف مرّ عام 2022 على الحياة الثقافية السورية؟
لعل أبرز ما طبع الثقافة السورية في عام 2022 كان رحيل قامات كثيرة، كان لها أثر كبير في المشهد، فما إن تنتهي من عزاء أحد مبدعيها حتى يبدأ عزاء آخر، إلى درجة يمكن القول فيها إن هذا العام كان موسوماً بالغيابات المريرة في الحياة الثقافية السورية، وأغلبيتها لشخصيات مؤسِّسة وأصحاب بصمات واضحة في مجالهم، امتدّت عقوداً.
من أبرز تلك الغيابات رحيل الفنان التشكيلي، إلياس زيات، الملقَّب بـ"المعلم"، والذي يُعَدّ من الرواد الأوائل، الذين ساهموا في تأسيس البداية الحقيقية للتشكيل السوري، إذ شارك في تأسيس كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، ودرّس فيها منذ نشوئها، وحصل على رتبة أستاذ منذ عام 1980، وشغل منصب رئيس قسم الفنون، ووكيل الكلية للشؤون العلمية، في أثناء عمله فيها.
كما ألّف كتاب "تقنية التصوير ومواده"، إلى جانب تمثيله جامعة دمشق في اتفاقية التعاون مع جامعة لايدن الهولندية، والهادفة إلى دراسة الفن في سوريا في الحقبتين البيزنطية والإسلامية، وذلك لمدة 4 أعوام، أصدر في نهايتها كتاباً في لايدن في عام 2000، باللغتين العربية والإنكليزية، وعمل خبيراً في هيئة الموسوعة العربية في سوريا لتحقيق موضوعات العمارة والفنون، بين عامَي 1995 و2001، فضلاً عن شغفه الصوفي، الذي جسّده في لوحاته الأيقونية وقراءته التشكيلية لأعمال جبران خليل جبران وغيرها.
في السياق التشكيلي أيضاً، خسرت الساحة السورية ممدوح قشلان، الذي وثَّق في أعماله الحياة اليومية في دمشق، التي لم تغادره يوماً، في عمارتها وتراثها وطبيعتها، ريفاً ومدينةً، إذ حفلت لوحاته بحلقات الذكر والموالد والدراويش. كما رسم مواسم الحصاد والدبكة في الأعراس، وبقي طوال 7 عقود من تاريخ الفن السوري شاهداً على كتابة ذاك التاريخ، ومشاركاً فيها، من خلال التدريس في سوريا ومصر، وعبر المشاركة في تأسيس نقابة الفنون الجميلة (1969) في سوريا، واتحاد الفنانين التشكيليين العرب (1971)، فضلاً عن لوحاته، التي واكبت تطور حركة التشكيل السورية منذ نشأتها الحديثة، حتى أواخر أيام حياته، التي ظل يرسم فيها دمشق وحاراتها وبشرها، وينشر أعماله في صفحته في "فيسبوك".
محاربة الغياب
على المستوى الأدبي، ترك رحيل الشاعر والروائي والصحافي، عادل محمود، أثراً بليغاً، على رغم أنه، طوال حياته، كان يحارب ذاك الغياب، ويؤسس حضوراً خاصّاً في مختلف الأنواع الإبداعية التي اشتغل فيها. ففي الشعر، ينتمي إلى جيل السبعينيات، الذي ثبّت ركائز قصيدة النثر، المليئة بكل ما هو متروك للنسيان، مُبْرزاً شغفه وحكمته في رسم تفاصيل الحب والندم والنسيان والأبدية، جاعلاً الزمن وأفاعيله خيطاً مشتركاً في كل أعماله، بما فيها مجموعته القصصية، التي بدأ فيها حياته الأدبية، والمعنونة بـ"القبائل" (1979)، ليدخل بعدها غمار الشعر في ديوانه الأول "قمصان زرقاء للجُثث الفاخرة" (1978)، لتمتد تجربته عبر مجموعات شعرية غزيرة بالحب والالتفاتات إلى المغفل عنه، ومنها "مسودات عن العالم" (1982)، "استعارة مكان" (2000)، "انتبه إلى ربما" (2006).
في حين بقيت روايات صاحب "الليل أفضل أنواع الإنسان" مزجاً ساحراً للخاص مع العام، فسيرته الذاتية متضمنة في سردياته الآسرة، بما في ذلك روايته "إلى الأبد ويوم" (2008)، والتي نال عنها الجائزة الأولى من مجلة "دبي" الثقافية، وأيضاً روايته "قطعة جحيم لهذه الجنة" (2017)، التي يجدلها بالحاضر السوري، وبخياره البقاءَ ضمن بلد بات مجرد العيش فيه ورطة كبيرة، ولاسيما مع غياب الحب واستفحال الحنين.
أمّا على صعيد الكتابة الصحافية، فظلّ، منذ بدايته في مجلة "الطليعة"، انتقالاً إلى عمله مع منظمة التحرير الفلسطينية في مجلة "البلاد"، التي كانت تصدر من قبرص، مواظباً على أسلوبٍ خاص يُماهي بين الشعرية والسرد في مختلف المواضيع التي كتب عنها. وخير دليل على ذلك مقالاته التي جمعها في عدّة كتب، منها "ضمير المتكلم" (2000)، و"بريد الغرباء" (2008).
مواجهة الإقصاءات
-
غسان الجباعي
الغيابات أيضاً طالت الساحة الدرامية السورية، متمثلةً برحيل غسان الجباعي، صاحب الرؤية الخاصة في الدراما، كتابةً ونقداً، إذ قّدم منذ مطلع التسعينيات سيناريوهات تأسيسية للدراما التلفزيونية، مثل "تل الرماد"، و"بقايا صور"، عن روايات لحنا مينة، و"طيارة من ورق" و"رمح النار" و"عمر الخيّام" وغيرها.
كما كتب عدّة مجموعات في القصة القصيرة، منها: "أصابع الموز" و"الوحل"، وأيضاً رواية "قمل العانة" منذ عامين. وكذلك، جرّب الشعر من خلال ديوان "رغوة الكلام"، لتبقى اشتغالاته المسرحية هي الأهم على صعيد تبلور الرؤية، وأبرزها "جنراليوس" و"الشقيقة" و"بودي الحارس"، إلى جانب عدد من الدراسات النقدية، مثل "الثقافة والاستبداد" و"المسرح في حضرة العتمة"، والتي دافع فيها عن الحضور الإبداعي في مواجهة الإقصاءات المتكررة.
كما رحل المخرج المسرحي محمود خضور، الذي قدّم كثيراً من الأعمال لمصلحة المسرح القومي، منها "هاملت يستيقظ متأخراً"، "الخادمة"، "المدينة المصلوبة"، "الميراث"، "نبوخذ نصر"، "زيارة الملكة" و"قبل أن يذوب الثلج"، محاولاً، من خلالها، التزام كلاسيكية ما درسه في موسكو مع محاولة تجديد رؤيته لمصلحة المعنى الجمالي وتثويره في جميع المسرحيات، التي أخرجها، منذ سبعينيات القرن الماضي، وخصوصاً تلك التي شاركه فيها الراحل ممدوح عدوان، نصوصاً، بحيث شكّلا ثنائية امتدت عبر عشرات الأعمال المسرحية، واستطاعا من خلالها الخوض في كثير من القضايا، التي تلتزم الوطن والإنسان، مع الدفاع عن الحرية وضرورة النور في مواجهة العتمات المديدة.
ترك خشبة الحياة
-
محمد وحيد قزق
محمد وحيد قزق، "الإعجازي" في اشتغالاته على الديكور المسرحي، ترك خشبة الحياة أيضاً، مخلِّفاً فراغاً كبيراً يصعب ملؤه، بعد أن أسس رؤيةً خاصة ترفض المستحيل، وتنأى بذاتها، ما استطاعت، عن التقليدي والسائد، بحيث إنه كان شريكاً حقيقياً لجميع المخرجين المسرحيين، الذين اشتغل معهم، سواء في الأعمال المقدمة للكبار أو للأطفال، إلى درجة أن لمسته كانت ناصعة وغزيرة في بهائها وجمالها، ومجرد ورود اسمه في فريق عمل أحد الأعمال المسرحية كان يعني أن هناك شيئاً مميزاً في انتظار الجمهور.
الرواية السورية أيضاً خسرت خيري الذهبي، الذي تُوُفِّي بعيداً عن سوريا، التي سعى، طوال مسيرته الأدبية، لأن يرسم بانوراما لها، عبر تحولاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن خلال مشكلاتها المستعصية، منذ روايته الأولى "ملكوت البسطاء"، التي نُشِرت في سبعينيات القرن الماضي.
وعلى رغم خوضه الدائم في غمار ما اعتُرف على تسميته الرواياتِ التاريخيةَ، فإنه لطالما رفض هذا الوصف، مبرراً بأنه كان ينشغل بتنقيب التاريخ واستيعابه من أجل تصوير الواقع الراهن بالاعتماد على الماضي. لذلك، استطاع أن يُقدِّم حكاياته عن دمشق خلال فترة تزيد على 100 عام، ولاسيما في ثلاثيته الأشهر والمعنونة بـ"التحولات"، وتضم (حسيبة، فياض، هشام). كما أنه، خلال بحثه التاريخي وترسيخ رؤيته الروائية، كان يستحضر باستمرار أسئلة الهوية المستلَبة والحضارة المنهوبة ومآلات الخنوع للظلم والارتكان للضعف. وتلك التساؤلات التي طرحها الذهبي تخمَّرت في رواياته الأخيرة، ومنها "المكتبة السريّة والجنرال"، ليستحق عبر مسيرته الأدبية الطويلة لقب "روائي دمشق" بجدارة.
فراغ كبير
-
صفوح شغالة
على صعيد الأغنية السورية، غاب الشاعر الحلبي صفوح شغالة بعد أن ترك أكثر من 1500 أغنية، انتشرت في الوطن العربي، بعد أن غناها له كبار المطربين والمغنين، من أمثال جورج وسوف، في أغنيتي "طبيب جراح" و"تخسر رهانك"، وديانا حداد، التي غنّت من كلماته "ما ندم عليك"، و"أمانيه"، بالإضافة إلى كثير من أغاني فلة الجزائرية ووائل كفوري وشادي جميل وغيرهم.
أكثر ما كان يميز أشعار الراحل هو انتماؤها إلى السهل الممتنع، وقوتها التعبيرية، حتى إنه حظي بلقب "فينيق الأغنية العربية" بسبب قدرة أغانيه على اجتياز الزمن، والبقاء في الذاكرة أعواماً طويلة.
وبالمثل، ترك رحيل المايسترو حسام الدين بريمو فراغاً كبيراً، بعد أن أسس مجموعة جوقات انتسبت إليها أجيال كثيرة من المغنين، حتى إن كورالات لونا وألوان وقوس قزح شكَّلت حالة فريدة، في غنائها في لغات متعددة وأنماط كورالية متنوعة، الأمر الذي جعلها علامة فارقة عبر تعدد ريبورتوارها بين ترانيم الميلاد والأغاني الوطنية، إلى جانب أغاني التراثين السوري واللبناني.
إثبات حضور
على رغم كثرة الغيابات، فإن الثقافة السورية آثرت إثبات حضورها، داخلياً وخارجياً. ومن ذلك ما حققته وزارة الثقافة والأمانة السورية للتنمية في إدراج صناعة العود والعزف عليه ضمن قوائم التراث الثقافي اللامادي، ضمن منظمة اليونيسكو، وذلك بعد عام واحد من إدراج القدود الحلبية في القوائم ذاتها، وقبلها خيال الظل والوردة الدمشقية.
يضاف إلى ذلك استقبال عدد من الفرق وقادة الفرق السيمفونية العرب والأجانب في حفلات دار الأوبرا، كنوع من الشراكات الموسيقية وكسر الحصار الثقافي على سوريا، فضلاً عن الاحتفالية الكبيرة المتعلقة بأيام الفن التشكيلي السوري، تحت شعار "70 عاماً من الحداثة"، والتي تضمنت الاحتفاء بمئوية فاتح المدرس، واعتبار لوحته كفر جنة وحصولها على الجائزة الأولى في المعرض السنوي الثالث عام 1952 بداية الحداثة التشكيلية في سوريا، فضلاً عن كثير من النشاطات في فروع الثقافة المتعددة، من موسيقى ومسرح وسينما وتشكيل ونشر كتب. وعلى الرغم من غلبة الكم فيها على النوع، فإنها ظلَّت بمثابة تأكيد حضور وإثبات وجود ودليل حياة.
وإلى جانب الفعاليات الرسمية، واظبت الجمعيات الأهلية، كــ "دار مدى" و"البيت الأزرق" و"غاليري زوايا" و"صالة مشوار وتجليات"، على نشاطها. كما شهد هذا العام انطلاق "غاليري دمشق" بمعرض استعادي للفنان عز الدين شموط، وأيضاً إعادة افتتاح دار عبد القادر الجزائري بمعرض فني ثلاثي، بإدارة "غاليري ليليت". وساهم كل ذلك في ضخ شيء من الحيوية في جسد الثقافة السورية المنهَك، بفعل كثير من الغيابات، وعلى رأسها غياب الرؤية الاستراتيجية لما تستطيع الثقافة أن تحققه في زمن الحرب، التي أصابت كل مناحي الحياة.