سهرة أمميّة
هكذا التقينا في العشاء "على الضيّق": شاعر سوفييتي - قوقازي، وأفريقي والده رمز حركات التحرر الأفريقيّة، المغدور لومومبا، وصديقنا الهندي الأحمر.
لا أتذكّر متى عرفته، ومن عرّفني به، لكنّني التقيته كثيراً في الفاكهاني، في عشاءات "على الضيّق"، كما كان أصحاب تلك الدعوات يصفونها، من الرفاق والأصدقاء، حتى لا تلوص الأمور، فنُحرم من تبادل الحديث براحتنا.
عندما زارنا في الفاكهاني الشاعر عليم كوشاكوف، صاحب قصيدة "الخنجورة" الملحميّة، حضر فرانسوا بن باتريس لومومبا، وهكذا التقينا في العشاء "على الضيّق": شاعر سوفييتي - قوقازي، وأفريقي والده رمز حركات التحرر الأفريقيّة، المغدور لومومبا، وصديقنا الهندي الأحمر، وهو ليس أحمر تماماً، فهو بلون تربةٍ خصبةٍ، تختزن في ذرّاتها معادن تلوّنها، لذا يمكن وصف لونه بالنحاسي.
إلى السهرة حضر فهد الأردني، وهو شيوعي سابق، يرفض أن يوصف بهذا الوصف، وإن ترك صفوف الحزب بسبب عدم الجديّة في تطوير قوّات الأنصار الفدائيّة، وصديقنا الفنان ناجي العلي، وسفير فلسطين في موسكو العميد محمد الشاعر، ورفيقنا الداعي لهذا العشاء طلعت الودود قليل الكلام.
لا تكون سهرة كهذه أمميّةً من دون فودكا مبردّة، يُحضرها (الرفيق) أبو العلاء، الذي يردد الكلمة الروسية "تفارش" مع كل نخب يرفعه .
ركّز ناجي نظراته على ملامح ابن لومومبا، ونقّل نظراته بين وجهه ووجه صديقنا الهندي الأحمر الذي لم نكن نسأله عن اسمه، أو المنطقة التي جاء منها في تلك البلاد، أميركا، حفاظاً على سرية تواجده معنا، مع أنّه بات معروفاً لكلِّ من يتحرّك في الفاكهاني كهنديٍّ أحمر، لا اسم له نخاطبه به، على ظهره تتأرجح ضفيرة سميكة طويلة، وهو يتمشّى مسرعاً في شوارع الفاكهاني، متوجِّهاً إلى لا مكان محدد. العشاء على الضيّق اتّسع رويداً رويداً، حتى ضاقت الصالة الفسيحة بالمتسرّبين الفضوليين الذين لم يدعُهم أحد، ولكنهم لا يفوّتون فرصة هكذا سهرة أمميّة، وهم يتميّزون بحاسَّة شمٍّ لكل دعوة "محرزة" كما يُقال، يعني يحضرها أشخاص مهمّون.
في السهرة، اقترحتُ أن نخاطب ابن لومومبا بالكلمة الروسية "تفارش"، مستأذناً الرفيق أبي العلاء، طبعاً بشيءٍ من المرح، مع أنّنا في بداية السهرة. ملت على فرانسوا وخاطبته بما يشبه الهمس، وأنا أقدّم له حّز تفّاح: "تفارش...".
هو درس في "جامعة باتريس لومومبا" في موسكو، التي حملت اسم والده تخليداً لنضاله، وفتحت أبوابها للقادمين من العالم الثالث، الذين ترسلهم في مِنَحٍ حركات التحرر في بلدانهم، ويلتقي فيها أبناء القّارات الثلاث: آسيا، أفريقيا، أميركا اللاتينيّة. لذا فهو يتقن اللغة الروسية.
نهض عليم كوشاكوف بناءً على طلبٍ من العميد الذي خاطبه بالروسيّة، فتوقّف الهمس بين الحضور، وانقطعت الأحاديث الجانبيّة استعداداً لسماع مقاطع من قصيدة "الخنجورة". أخذ العميد يترجم لنا، مقطعاً مقطعاً، بلغته الجميلة، ووجهه قد فاض سروراً بتجلّيات "الخنجورة"، تلك التي يمكن أن تُستخدم لأغراض متعددة متباينة. شخصيّاً، كنت قرأت ترجمة الخنجورة في طبعة عربيّة صدرت عن "دار التقدّم" في موسكو، وكالعادة عرضتها مكتبة الزهراء في دمشق في الواجهة، مع مختارات لينين وماركس.
وجدتني أهمس لناجي: "الخنجورة مثل الشبريّة عندنا في الريف. يغرسها الفلاّح القفقاسي في حزامه دفاعاً عن النفس، ويخفيها اللص عن الأنظار لتكون أداة عدوان. قد تعبّر عن الرجولة والجسارة، وقد...".
لكزني العميد في ركبتي وقد اتّسعت ابتسامته، فهو سعيدٌ بهذه السهرة على شرف شاعرٍ سوفييتي صديق، بما تعنيه، وبحضور عددٍ لا بأس به من الكتّاب والفنانين، وبحضور شخصيتين أُمميتين: ابن لومومبا، وصاحبنا الهندي الأحمر. زجرني بوّد قائلاً: "لا تشاغب".
دوّى صوت القذائف، فارتّجت الشقّة التي نتعشّى فيها في الدور الحادي عشر، قبالة كليّة الهندسة، فالحرب لا تتوقّف على المحاور بين القوات الوطنيّة المتحالفة مع الثورة الفلسطينيّة، والقوّات الانعزالية.
خرج العميد إلى الشرفة، غاب قليلاً ثمّ عاد وابتسامته المطمئنة تفيض على وجهه: "القصف من بيروت الشرقيّة". موجِّهاً كلامه للشاعر كوشاكوف، الذي استأنف إلقاء قصيدته الملحميّة، بعد أن ذكّر بأنَّه ينتمي لبلدٍ خاض غِمار الحرب العالمية الكبرى، وهزم النازية في تلك الحرب الوطنية، ولاحقها حتى برلين.
هنا وقف صديقنا طلعت، ورفع كأس الاتحاد السوفييتي الصديق والشاعر الصديق كوشاكوف، فتدفّقت الحماسة في الساهرين، الذين رفعوا نخب الأمميّة التي تجمعنا بابن رمز كفاح أفريقيا، وبأخينا الهندي الأحمر الذي تريد أميركا والصهيونيّة جعل مصيرنا كمصير شعبه وأرضه. توهّجت الحُمرة في تقاطيع وجه عليم كوشاكوف، الذي أخذ يهّز قبضته مع تصاعد دويّ القصف حول البناء، وجسده المعبر عن الصلابة يتمايل، موحياً بما تفعله الخنجورة في يد المقهور الممتلئ غضباً وشجاعة.
ازداد القصف ضراوة. خطَّط ناجي ملامح ابن لومومبا، والهندي الأحمر، والخنجورة، على الصفحة الخلفيّة الكبيرة لملصق شهيد. رفع الرسمة وأخذ يتأملها، ثمّ عاد وضرب بالقلم الأسود ضربات سريعة، ومدّ خطوطاً، ثمّ نهض وفرد الرسمة على الطاولة التي أفرغت من الصحون والكؤوس، وأعلن: "سهرة طيبة... انبسطت. بدّي أروّح على صيدا... على مخيم عين الحلوة".
حذّره العميد بحرصٍ: "يا ناجي الطريق خطر في هذا الوقت. هناك كمائن إسرائيلية على الطريق. انتظر شويّة حتى تطلع الشمس... مش كل يوم بيطلع عندنا فنّان مثل ناجي العلي!".
قلتُ بلهجة العارف: "يا سيادة العميد، ناجي لا ينام خارج صيدا، وهو يطمئن على عين الحلوة يومياً. حاولنا منعه دائماً، ولكنّه عنيد".
أخذه العميد بين ذراعيه، وقبّل رأسه: "فنّان أصيل، ابن الشعب فعلاً".
ثمّ قال كلاماً بالروسيّة لعليم كوشاكوف، الذي سرّته الخطوط التي رسمها ناجي، والتي تظهر فيها ملامحه وبيده خنجورته، ومعه ابن لومومبا والهندي الأحمر.
قال العميد لناجي: "يرجوك كوشاكوف أن توقّع له على اللوحة، وتكتب كلمة، ويطلب منك أن تزورهم في موسكو".
انحنى ناجي بظهره المحدودب. وقّع على الصورة، وكتب تحتها: "يا صديقنا كوشاكوف: نحن نرسم ونكتب بأقلام كخنجورتك".
في غبش الفجر، غادر ناجي في سيّارته، وتفرّقنا نحن في الفاكهاني، بينما كان دويّ رشاشات ثقيلة يتجاوب في الفجر الرمادي البارد.
سألتُ أبا العلاء: "كيف تجمع تفارش بالروسيّة يا أبا العلاء؟".
ضرب على جبينه: "آخ... لوسألتني أثناء السهرة لاستفسرت من السيّد العميد، أو من رفيقنا كوشا.. كوشا..كوف".
توقّف وأمسك بكتفي وهو يتمايل: "الزيارة القادمة إلى موسكو أحضر لك فودكا سليشنايا، و... جمع تفارش... يا تفااااارر..اش..أولغا..سا..تعلمني جم..جمع..ها...". وكرر (آهاااا) مع اسم أولغا، كأنّه يزفر من وجع فراق، ولوعة شوق مزمنة!
ربّتُّ على كتفه مهدهداً وجعه الذي أعرف سببه: "هيّا بنا يا تفارش، فالقصف يحمل موتاً يترصّدنا، وأولغا لن يسرّها أن تسمع بموتك المجّاني في بيروت... هيّا يا تفارش، هيّا".
افترقنا عند زاوية الشارع. توجّهتُ إلى شقتي، واختفى هو متمايلاً في الشارع الفرعي، بينما الأرض تهتزُّ مع دويّ القصف غير البعيد في الفجر الرمادي. استدار أبو العلاء شاهراً قبضته عالياً، وكأنّه يحمل خنجورة في يده، وتوجّه شرقاً، كأنّه يتصدّى للقصف القادم من بيروت الشرقية، حيث مناطق الانعزاليين، وصوته يرتفع متقطّعاً:
"ومع ذلك فنحن نحيااااا يا تفاااارش...".