ستة أصوات سورية واعدة في تكريم فيلمون وهبي
الجميل هو العفوية في تقديم ألحان "سبع الملحنين" من دون المبالغة في إظهار حُلْيات الصوت والمُبالغة في تقديم العُرَب وغيرها من بدائع الحناجر وزخرفات الأداء. إذ جاءت تلك الأصوات بمثابة قماشات رهيفة تترك لنغمات وهبي أن تُطرِّزها بخيوط حريرية جميلة.
أبرز ما يميّز الأمسية التي قدّمتها "الفرقة الوطنية السورية للموسيقى العربية"، بقيادة المايسترو عدنان فتح الله، في تكريم فيلمون وهبي، هو المجاهرة بستة أصوات ذكية قادرة على تقديم جماليات ما أبدعه "شيخ الملحنين" بكلّ ما تتضمّنه من ذكاء مُركَّب وصعوبة وحساسية فائقة، ناجمة عن فطرة وهبي الفريدة التي تُمسك المستمع منذ النوتات الأولى لمقدّمة أي أغنية قام بتلحينها.
ومن الميزات الإضافية للأمسية التي احتضنتها "دار الأوبرا" في دمشق، أمس الأربعاء، هي أن كل صوت من أصوات المغنين المشاركين وهم: بلال الجندي، فادي زرقا، رماح شلغين، مايا زين الدين، لاميتا أيشوع، وسيلفانا دياب، له شخصيته الخاصة، بحيث تمت مباشرةً، ومع بدء كل منهم بالغناء، إزاحة أي مقارنة بين أداءات هؤلاء الشباب وبين المطربين الذين غنّوا لهم، إلى درجة جعلت الحاضرين يؤثرون البحث في العلاقة بين تلك الأصوات وألحان وهبي، ومدى الانسجام والتوافق بينهما، ومقدار الفهم الحقيقي لخصائص اللحن وقدرته على مَوسَقة الأشعار وجَوْهَرَتها والغوص في معناها.
والجميل أيضاً هو العفوية في تقديم ألحان "سبع الملحنين" من دون المبالغة في إظهار حُلْيات الصوت والمُبالغة في تقديم العُرَب وغيرها من بدائع الحناجر وزخرفات الأداء. إذ جاءت تلك الأصوات بمثابة قماشات رهيفة تترك لنغمات وهبي أن تُطرِّزها بخيوط حريرية جميلة، وبقُطَب زاخرة في بهائها.
بدأت الأمسية بأغنية "فايق يا هوى" بصوت لاميتا أيشوع التي استطاعت أن تبرز ما أوضحته السيدة فيروز في الفيلم التعريفي عن فيلمون وهبي والذي عُرض في بداية الحفل، والذي قالت فيه إن: "فيلمون خُلِقَ ضد الفشل، بس أنا بعرف فيلمون اللي جوا كمان، إنسان حساس كتير وحزنو هو اللي بيخلق ألحانو مش ضحكو".
وآثرت أيشوع أن تجعل من رخامة صوتها حاملاً للواعج العشاق، وللهوى الذي يجمع ويُفرِّق، ولبكاء المواويل، وذلك بفرح مقام البيات، جامعةً متناقضات الحب لتدغمها بأداء رقيق يشابه رقة كلمات الأخوين رحباني.
ثم تابعت ألقها على مقام الحجاز وأشجانه المديدة من خلال أغنية "بكرم اللولو" على إيقاع البلدي الهادئ، لتنتقل بعدها إلى حيوية وفرح أغنية "دخل عيونك حاكينا ولولا عيونك ما جينا" على إيقاع اللف.
أما ثاني الأصوات فكانت مايا زين الدين، التي أبرزت قدراتها التطريبية على مقام الراست بأغنية "ليلية بترجع يا ليل"، بحيث انجدل لحن وهبي مع قوة صوتها ورنَّته الخاصة المُطالبة بإزاحة الليل وأن يغيب عن حياتنا، ليكون صوتها بمثابة ضوء آخر أشرق على الأمسية، وكأس من الكؤوس الصافية التي شربها الحضور، فزادت متعته.
وبعدها استطاعت زين الدين أن تؤكد درامية صوتها من خلال أغنية "طيري يا طيارة" بكل ما تحمله من شجن وأحزان وعتاب للزمن المستعجل الذي يريد أخذ أعمارنا وأن يتركنا من دون طفولتنا وبراءتها، وكلّ ذلك عزّزته المغنية الشابة عبر تلوين صوتها بطفولية مبهرة.
ثم ننتقل بعدها إلى لوعة مقام الكرد في أغنية "كتبنا وما كتبنا" بصوت بلال الجندي المُتمكِّن والقوي والصافي، والذي أوصل العِتاب واللوم إلى أقصى درجاتهما. خاصةً مع جماليات أدائه لموال "يا مالكين القلب" والذي نبَّه المُستمعين إلى أن جرس صوته الفريد استطاع أن يضفي خصوصية درامية على حكاية الأغنية وتصويراتها للدار والصفصافة والشباك والوادي ووجيف القلب المجروح.
أداء ممتاز لموال "واقفة ع البحر بكّاني السفر، مين متلي تلوّع وقدّي نطر" أثبت من خلاله الجندي أنه يليق به لقب "شحرور سوريا"، وأكد ذلك بعد الموال بأدائه لأغنية "يا طير الطاير قلو وحق الفرقة اشتقتلو".
أما صوت فادي زرقا، الواثق والحيوي، فأخذ جمهور صالة الأوبرا في رحلة مغايرة عبر أغنية "بترحلك مشوار" ومقام الراست التطريبي، بحيث أن هذا المطرب الشاب غَزَل السعادة بحباله الصوتية ونشرها من حنجرته، وتناغم بذلك مع روح الكلمات واندغم مع معناها، فبات أداؤه بمثابة بسمة الأمسية، والتحلية لكأس المر، وكأنه ترجيع صدى لموال "حبابي وين ما راحو يحلّون" الذي لوَّن من خلاله فنون الحب وجنونه من خلال الصوت وحده.
واستمراراً في تعزيز جماليات أدائه قدّم أغنية "هدوني هدوني" بصوته الرجولي وتمكُّنه من التنقّلات المقامية بسلاسة، ليكون بذلك ساقياً العطاش للطرب الأصيل بـ"بريق مليان مشعشع متل الزينة".
ثم تتعزّز حيوية الحفل بأداء سيلفانا دياب لأغنية "برهوم حاكيني" ورشاقة صوتها ودلاله. إذ تلاعبت بعواطف المستمعين بإتقانها للغناء على مقام السيكا، المعروف بأنه مقام العشاق والفرح المديد، وفوق ذلك استطاعت أن توائم غنج صوتها مع إيقاع اللَّف، بحيث أنه على الرغم من تكرار اللحن ذاته في جميع مقاطع الأغنية، إلا أنها بعفوية أدائها والفرح الكامن فيه تجاوزت ذلك بما أضفته من تنويعات مميزة وتلوينات جمالية تحسب لها، والأمر ذاته تكرّر في أغنية "الشب الأسمر جنني يا عيوني".
أما الصوت السادس فكان رماح شلغين، ذا الخامة المميزة، والذي اتكأ على تقلبات مقام البيات في أغنيتي "يا مرسال المراسيل" و"ها الدلعونية" اللتين قدَّمهما باقتدار، آخذاً إيانا في جولة جمالية بين هدوء الشجون وديناميكية الفرح لذاك المقام الشعبي، ليبرز قدراته الفائقة في الطبقات العالية، وخاصةً أثناء أدائه للموال السبعاوي "من يوم فرقاك كاسات شربي سِما"، وحساسية التنقّلات بين جمله الموسيقية وعلامات ركوزه، بحيث انبعث صوته بمساحاته الواسعة كاوياً إيانا بنار الهوى التي استعرت في حنجرته وصدق إحساسه.
وللاطلاع أكثر على شخصية هذه الأصوات الستة التقت "الميادين الثقافية"، عدنان فتح الله، الذي قال في تصريح خاص إن: "كلّ صوت من الأصوات الستة له خامة معيّنة وإمكانيات وأسلوب في الأداء، فمثلاً لاميتا أيشوع صوتها رخيم وتحكّمها بحنجرتها ممتاز، إذ تمتلك أدوات تقنية مهمة جداً، وخاصة في أداء المواويل. فهي تعتني بأدق التفاصيل وهذا ما يميّزها. أما مايا زين الدين فلديها حسّ طربي عالٍ، وقادرة على تحقيق إشباع للمقام وتالياً للمستمع، وهو ما برز في أدائها "لليلية بترجع يا ليل" و"طيري يا طيارة طيري".
وأضاف المايسترو: "خامة صوت سيلفانا دياب يليق بها النمط الشعبي البسيط، الذي فيه شيء من الدلع، وشخصيتها تساعدها على أداء هذا النوع من الأغنيات مثل برهوم حاكيني، والشب الأسمر، في حين أن فادي زرقا صوته عريق رخيم "باريتون". لذا اخترت مقام الراست في "بترحلك مشوار"، كما يمتلك القدرة على الأداء بطريقة مسرحية، وخامة صوته شبيهة بنصري شمس الدين، ومن هنا جاء تميّزه بأغنية "هدوني هدوني".
وفي ما يخصّ بلال الجندي فأوضح فتح الله أن صوته من نوع "التينور"، وهو يمتلك إحساساً فريداً فرضه في أغنية "كتبنا وما كتبنا" وفي موال "يا طير الطاير". أما رماح شلغين فهو "من الأصوات السورية الواعدة وأتنبأ له بمستقبل مهم، وهو على الصعيد الموسيقي جيد، وكمغنٍ عنده طاقة في تحدّي إمكانياته في أداء الأغنيات الصعبة، من مثل موال "ها الدلعونية" الصعب، وأدّاه بطريقة جيدة واستخدم إحساسه المرهف، وأيضاً في أغنية "يا مرسال المراسيل".