رواية "مجد" لنوفيوليت بولاوايو .. استعادة لـ"مزرعة الحيوان" في السياق الزيمبابوي
تمثّل رواية "مجد"، مع غيرها من الروايات المماثلة، بداية موجة جديدة من الهجاء السياسي لدى الكتّاب الأفارقة. ولا تحجم نوفيوليت بولاوايو عن رفع صوتها بالحقيقة ضد أصحاب السلطة.
منذ تسع سنوات نشرت نوفيوليت بولاوايو روايتها الأولى "نحتاج أسماءَ جديدة" التي جعلتها أول امرأة إفريقية من السود تصل إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر. واليوم تعود بولاوايو إلى القراء برواية "مجد" (Glory) الصادرة في آذار/مارس 2022، عن دار فايكنغ، والتي أوصلتها أيضاً إلى القائمة القصيرة للبوكر، مع توقعات كبيرة بأن تنال الجائزة.
تتشارك الروايتان الظرافة والمرونة السردية. لكن، وفي حين أن الرواية الأولى هي رواية عن المنفى واللاانتماء، فإن الرواية الجديدة هي رواية عن الجذور، عن العودة إلى الوطن. وإذا كانت "نحتاج أسماء جديدة" نداءً، فإن "مجد" هي بمثابة استجابة.
رواية "مجد" هي حكاية ما بعد كولونيالية من 400 صفحة تصور سقوط طاغية، وظهور آخر. إنها رواية عن سقوط نظام مستبد، والفوضى والفرصة التي تظهر في أعقابه. تجري أحداث الرواية، المستوحاة من رواية جورج أورويل "مزرعة الحيوان"، في مملكة الحيوانات في جيدادا؛ وهو بلد إفريقي متخيل يمكن فهمه كنوع من التخيّل الفنتازي لزيمبابوي في الفترة الممتدة بين الانقلاب العسكري الذي حدث عام 2017 للإطاحة بالرئيس روبرت موغابي، وموته بعدها بسنتين.
تزيل بولاوايو، منذ بداية الرواية، مفردة "بشر" من القصة ومن لغة الشخصيات. الشخصيات كلها حيوانات، وما من رجال أو نساء في "مجد"، إنما فقط "ذكور" و"إناث". "الحصان العجوز" الذي يمثل الرئيس الزيمبابوي المخلوع روبرت موغابي، ويشار إليه بتعابير مثل "سعادته" أو "أبو الأمة" يُخلع من منصبه بانقلاب بعد حكم دام أربعين سنة، مع زوجته المحتقرة، وهي حمارة تدعى مارفولوس (والاسم يعني الرائعة)، وتمثل السيدة الأولى السابقة غريس موغابي.
تلقَّب مارفولوس بـِـ"د. الأم الحلوة" وقد نالت شهادة الدكتوراه بعد ثلاثة أشهر فقط أو، كما تقول الرواية، "قبل أن تكمل قول أُط من كلمة أطروحة دكتوراه". وبعد خلع الحصان العجوز، يعم جيدادا الابتهاج والأمل الكبير بالتغيير في ظل حكم حصان جديد يدعى توفيانس ديلايت شاشا أو توفي (وديلايت تعني السرور) وهو نائب الرئيس السابق الذي تحول إلى منافس له، ويمثّل الرئيس الحالي لزيمبابوي، إيمرسون منانغاغوا. لكن الأمل سرعان ما يتلاشى، ويكتسب توفي الذي أقسم على جعل جيدادا "عظيمة من جديد"، سمعةَ مصاب بجنون العظمة ومسبب لخراب يفوق ما سببه سلفه.
كذلك، وفي مرحلة يأس ما بعد الانقلاب، تظهر عنزة شابة تدعى ديستِني (وهو اسم يعني القدر) عائدة من المنفى لتكون شاهدة على أرض تفشى فيها الجشع، والخراب، والأنبياء الزائفون. أما سكان جيدادا الآخرون فهم خنازير، أبقار، عنز وخراف، قطط وكلاب، دجاجات وطاووس غريب. وكل الحيوانات رياعية الأرجل تبدل بسهولة بين إمكانيتي المشي على أربعة والمشي على اثنين. ثمة أيضاً تمساح محمل بالرموز، إذ أنه يذكّر ببديل موغابي، إيمرسون منانغاغوا الذي لقب بالتمساح، وبرئيس الوزراء الجنوب إفريقي بيتر ويليم بوتا الذي لقب أيضاً بالتمساح الكبير.
بولاوايو، كما في روايتها الأولى، تعتمد على المبالغة والمفارقة الساخرة لتروي حقائق قاسية للغاية. فرواية "مجد" مليئة بالكوميديا والهزل (توفي والحصان العجوز حمقاوان بقدر ما هما شريران)، وهي تسخر من النظام الاستبدادي والدولة البوليسية سخرية لاذعة. فها هي على سبيل المثال، قائمة ساخرة مُبالغ فيها بأسماء وزراء حكومة جيدادا وهي تعكس اتساع وعمق الخراب: "وزير الثورة، وزير الخراب، وزير النظام، وزير الأشياء، وزير العدم، وزير البروباغندا، وزير شؤون رهاب المثلية، وزير التضليل، وزير الاختلاس".
الأحداث في الكتاب مألوفة للغاية وقابلة للتمييز، وثمة الكثير مما يشبه تاريخ ما بعد الانقلاب في زيمبابوي؛ من الشعارات إلى الشخصيات والأحداث. ولهذا من السهل ملاحظة أن "مجد" قد بدأت كعمل غير تخييلي. وبالفعل، وفي ملاحظة للقارئ، تقول الكاتبة إنها كانت تعمل على توصيف غير أدبي للانقلاب الذي حدث عام 2017، لكنها وجدت أن رواية الهجاء السياسي هي شكل أفضل لتقديم الأحداث.
مع هذا، ليس من الضروري أن يعرف القارئ زيمبابوي وتاريخها الحديث ليستمتع بالرواية. فكما في كل الروايات الهجائية الجيدة، الخاص يخبر عن العام، والكثير من التفصيلات الخاصة في الرواية يمكن تمييزها على الفور لتشابهها مع تفاصيل عامة. تتكرر، على سبيل المثال، عبارة "لا أستطيع التنفس" على امتداد مقاطع طويلة أحياناً، مذكِّرة بجورج فلويد وحركة "حياة السود مهمة". كذلك، إن الوصف المؤلم للإبادة الجماعية، الحكام الفاسدين وأزلامهم، والأمة التي تعيش في الخوف، سوف يتوافق مع الناس في كل مكان من العالم.
تقدم رواية "مجد" أيضاً وجهة نظر حديثة عن علاقتنا بالعالم الافتراضي. ففي جيدادا، ثمة بلدان: "البلد البلد" وهي "المكان المادي الحقيقي الذي مشى فيه الجيدادييون وعاشوا واصطفوا في طوابير وعانوا وتألموا"، و"البلد الآخر حيث سجّل الجيدادييون الدخول وزمجروا واهتاجوا ونفّسوا عن غضبهم". وقد صُوِّر هذا البلد الآخر باستخدام هاشتاغات وتغريدات مضحكة، وبوصف مقاطع صوتية لحيوانات تعبّر عن رأيها بالأحداث الحالية. يمثّل الإنترنت هنا مهرباً نحو واقع بديل وأداةً للتعبير عن الرأي المعارض. فلكي "ينسوا الصراخ داخل رؤوسهم"، يتوافد مواطنو جيدادا إلى الإنترنت. وهناك، آمنين داخل هذا "البلد الآخر"، يعبّرون عن غضبهم من حكومتهم بطرق غير قابلة للحدوث في "البلد البلد".
تتناول الرواية أيضاً ثيمات مثل الشعوذة، القبليّة، إخضاع النساء، الرضّات التي تعبر من جيل إلى جيل، والتاريخ الذي يعيد نفسه لا سيما عندما يضفي الناس الطابع الرومانسي على الماضي. تمتاز الرواية أيضاً بأنها لا تدفع الإناث إلى الهامش، بل تجعلهن يحافظن على تماسك القصة. فعندما تعود العنزة ديستِني وأمها، بعد ثلث القصة تقريباً، يسود شعور محسوس بالراحة، وبعودة كل شيء حولهما إلى مكانه. كذلك، يصبح جسداهما اللذان يحملان ندوباً جسدية ونفسية، انعكاساً لأرضهما المرضوضة. إنهما بمثابة القلب في حكاية عن الجشع والخراب. ومن خلالهما، لا نعرف عن القمع العنيف لأي احتجاج أو فعل مقاومة وحسب، بل كذلك نطّلع على الواقع اليومي السيئ للزيمبابويين؛ شح الموارد، الطوابير، انقطاعات الكهرباء، تقنين المياه، النقص الحاد في تجهيزات المدارس والمستشفيات، والارتفاع في أسعار النفط من يوم إلى يوم. تكتب ديستِني عن بلادها، وكتابتها تقدم "طريقة للترفع عن الماضي، وإصلاح ما كان قد تحطم".
تبني الرواية إذاً على التقليد الموجود في التراث الإفريقي والعالمي، والقائم على إخبار القصص من خلال الحيوانات. وسيقارنها القرّاء بالطبع برواية "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل، ليس لذلك السبب وحسب، بل لأن كلا الروايتين تتحدثان عن فكرة خيانة الثورة. لكن، وعلى الرغم من وجود تشابهات أكيدة بين مخلوقات جيدادا ومخلوقات مزرعة الحيوان، فإن "مجد" منذ الفصل الأول تحذّر القرّاء من تفسير الكتاب من خلال المقارنة وحدها. وأثناء خطاب موجّه للحشود المجتمعة بمناسبة احتفالات يوم الاستقلال، تعلن "د. الأم الحلوة" وهي ترتدي حذاء من ماركة غوتشي ذي كعب عالٍ: "أنا أقف هنا لأعالج هذا الهراء هنا والآن، ولتكن جيدادا وتلك الشمس هناك شهودي وأنا أقول: ليست هذه مزرعة حيوان بل هي جيدادا مع "دا" و"دا" أخرى! لذلك، نصيحتي لكم هي أن توقفوا هذا. أوقفوه الآن حالاً!".
إن نوفيوليت بولاوايو تفوق أورويلية أورويل فعلاً؛ فهجاؤها هذا أحدّ أسناناً، أكثر غضباً، وإن يكن كثير الظرافة.
تتمتع الرواية ببراعة أسلوبية ولغة آخاذة موشجّة بتقنيات السرد الشفهي. وتلجأ أحياناً إلى استخدام جوقة من الجيداديين غير المرئيين يروون الأحداث من منظورهم. كذلك، يضيّق السرد الجمعي عدسته، في فترات متقطعة، ليقدم الأفكار الصريحة لبعض الحيوانات، كل على حدة، كما لو أنه يجري مقابلات في الشوارع. ويتنقل السرد بين الراوي العليم، ضمير المتكلم الجمعي (نحن)، وفصول كاملة مكتوبة على شكل تغريدات توتير. لكن الرواية، وعلى الرغم من أنها تحوي طيفاً واسعاً من الأدوات السردية التجريبية، فإنها على نحو ما لا تبدو أبداً مفككة.
إن رواية "مجد" تمثّل، مع غيرها من الروايات المماثلة، بداية موجة جديدة من الهجاء السياسي لدى الكتّاب الأفارقة. ولا تحجم نوفيوليت بولاوايو عن رفع صوتها بالحقيقة ضد أصحاب السلطة. ومع أن تركيزها في الرواية هو على فساد الزيمبابويين أصحاب المناصب، إلا أنها لا تتوانى عن إدانة القوى الأجنبية، من مستعمرين سابقين ومستعمرين جدد، الذين يتحملون اللوم أيضاً على وضع البلد البائس. تكتب بولاوايو بإلحاح وبشجاعة، ممسكة مرآة أمام وجه زيمبابوي المعاصرة ووجه العالم. و"مجد" مع بصيص الأمل في نهايتها، هي اجتماع حكاية رمزية مجازية، هجاء، وحكاية خرافية، في لكمة واحدة قوية. أخيراً، وإذا كانت "نحتاج أسماءَ جديدة" و"مجد" ترسمان صورة لماضي زيمبابوي وحاضرها، فإن المستقبل متروك لنهاية هذه الرواية حيث تتحدانا الكاتبة، مع الجيداديين في كل مكان، أن نعيد تخيّل ما يمكن أن تصبح عليه بلداننا يوماً ما. فلا بدّ من الأمل بحياة جديدة؛ حياةٍ، رغم سحق كل فعل مقاومة، سوف تتبدى للزيمبابويين الحقيقيين، بعد أن تأخر ميعادها طويلاً.
ترجمة وإعداد: سارة حبيب