رواية العرَّافة: أدوات القوَّة العظمى المهيمنة على العالم تتجدَّد
يمكن للقارئ أن يتبيَّن رموز هذه الخرافية كما يأتي : المملكة الذهبية هي فلسطين، أو الوطن العربي، مملكة الدجاج الأبيض هي الكيان الاستيطاني الصهيوني، القوة العظمى هي الاستعمار الغربي.
عنوان هذه الرواية: العرَّافة ذات "المنقار الأسود" (دار النهضة العربيَّة، بيروت)، هو اسم طائر غريب أسود كبير، يشبه الدَّجاج، له منقار أسود طويل معقوف كمناقير الصُّقور...، جاء إلى مزرعة الدَّجاجات، المسمَّاة بـ "المزرعة الذهبيَّة"، في اَونةٍ كانت دجاجاتها وفراريجها تدرك أنَّ عليها الاختيار بين الموت جوعاً، أو القضاء بين أنياب الثعالب والصقور والنسور، التي تحاصرها، بعد أن غدت مزرعتها منطقة محظورة، فرضت عليها القوَّة العظمى المهيمنة، الطاغية، حصاراً منذ عدَّة دورات تفقيسيَّة.
استطاع هذا الطائر الغريب طَرد الثعالب والصُّقور والنُّسور، معلناً أنَّ قدرته مستمدَّة من الاَلهة وملوك الجنِّ التي أمرته بأن يأتي من صومعته كي ينقذ هذه المزرعة من الحصار، بعدما قدَّمت ما عليها من قرابين.
هذه هي نهاية الرواية، وهي تثير أسئلةً منها: لماذا اختيار اسم هذا الطائر عنواناً لرواية لم يكن له أي دور في أحداثها؟ وأيُّ قدرة يملك حتى استطاع طرد جنود القوَّة المهيمنة الطاغية، وفكِّ حصارها للمزرعة؟
تحتاج الإجابة عن هذه الأسئلة إلى إجراء قراءة في هذه الرواية، وهذا ما سوف نفعله، في ما يأتي:
نقلِّب ورقتين، فنقرأ الإهداء: " إلى من أدرك إنسانيَّته قبل الفناء". السؤال الذي يثيره هذا الإهداء هو: هل هذا الإهداء موجَّه إلى الإنسان الذي يدرك إنسانيَّته، وهو يحيا في هذه الدُّنيا الفانية، فيكون إنساناً حقيقيَّاً؟
لكنَّ هذه الرواية هي خرافيَّة لا تروي حكاية من عالم الإنسان، وإنَّما تروي حكاية متخيَّلة، عن عالم الدَّجاج. والسؤال الذي يُطرح هنا هو: كيف لحكاية خرافية متخيَّلة، من عالم الدجاج، أن تكون علامة دالَّة على إدراك الإنسان إنسانيَّته قبل الفناء، أو فاعلاً يمكِّن الإنسان من إدراك إنسانيته؟ وهل من علاقة بين هذا كلِّه وعنوان الرِّواية، المفترض أن يكون علامة دالَّة على هويَّة الرواية ورؤيتها؟
هذا النوع من القصِّ يمكن أن يكون قناعاً يُسقط ما يجري في عالم الحيوان على عالم الإنسان، ويلجأ إليه الكاتب لعدَّة أسباب، منها: 1. استغفال السلطان المجتمعيِّ، السياسيِّ أو الدِّينيِّ أو الاجتماعيِّ، وإيهامه بأنَّ ما يُقصُّ لا يقصده.2. التمثيل، أي تقديم خرافيَّة تمثِّل رؤية ما، بطريقة تقديم المثل. 3. الغرائبيَّة، أو " الفنتازيا"، التي يعتمدها الكاتب، ويجعلها تنطق برؤيته، معتقداً أنَّها غير تقليديَّة، تشدُّ القارئ، وتثير اهتمامه.
في هذه الحالات جميعها، يفترض أن تكون الخرافيَّة أدباً قصصيَّاً يكشف الواقع وينطق برؤية إليه، في فضاء المتعة الجماليَّة الأدبيَّة. والسؤال الذي يُطرح هنا هو: ما السبب الذي جعل الكاتب يختار كتابة خرافيَّة، ليقدِّم رؤيته لقارئه؟ وما هي هذه الرؤية؟
في ما يأتي أحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، بعد تقديم معرفة بالرواية.
تتَّخذ هذه الخرافيَّة بنيةً سرديَّة خطِّيَّة، تمضي وفاق مسار الزمن الطبيعي، نسيجها سرديٍّ يكاد يكون نسيجاً حكائيَّاً، تكثر فيه خيوط تقنيَّة التلخيص، يتناوب السرد بين ثلاثة مسارات تتفرع عن مسار واحد في الاستهلال، وتلتقي في مسار واحد في النهاية، والحكاية المتخيَّلة محكمة البناء، يمليها خيالٌ خصب موظَّف في بيان رؤية فكريَّة، وتحبكها مهارةُ قصٍّ أجادت إقامة البناء الحكائي.
جاء، في هذه الحكاية: تفرَّق "بنو دجاجة"، بعد معركة " المناقير الكبرى"، فأقام "الديك الذهبيُّ المملكة الذَّهبيَّة" للدَّجاجات الملوَّنة. ولم تلبث هذه المملكة أن أُصيبت بالعقم، فلم تفقس بيضة واحدة؛ وحدث ذلك، كما قالت العرَّافة ذات المنقار القاني، لأنَّ بعض الدَّجاجات جَنَح، فسرق حبَّات قمح، وصاح في غير وقت الصِّياح.
بناءً على تنجيم تلك العرَّافة، وللخلاص من خطر الفناء، انتقلت المملكة من أرض الخيرات الحصينة، إلى هضبة نائية، واستقرَّت فيها، محاطةً بمزارع عشوائيَّة تخدمها، غير أنَّها بقيت تواجه خطر الفناء، لأنَّ أيَّ بيضة لم تفقس عن ذكرٍ. وكان لا بدَّ من نيل رضى الاَلهة، كما قالت العرَّافة، فنذرت أن يُقدَّم قربانٌ للعرف المقدَّس، وعندما فقست بيضةٌ عن ذكرين، طلبت العرَّافة من والدهما " ودَّان"، القائد العسكريُّ للمملكة أن يفي بالنذر، فرحل مع مجموعة من الدجاجات والديوك ليقدّم القرابين للعرف المقدَّس.
وفي أنقاض حضارة بشريَّة، تبعد عن هضبة المملكة الذهبيَّة مسافاتٍ بعيدة، أسس "أبو نبُّوت الأوَّل" مملكةً للدَّجاج الأبيض، أورثه إيَّاها " الزعيم المؤسِّس". كان " أبو نبُّوت الثالث عشر"، زعيم هذه المملكة الحالي، يعمل من أجل السيطرة على مملكة الدجاج الملوَّن، ويريد إقامة وطن قومي، ووطن الشعب المختار، لأحفاد "الزعيم الأكبر" الذي باركه الإله، يوم أعطاه " مفتاح الذكاء"، وجعل دجاجات مملكته صفوة الدَّجاج، والشعب الدَّجاجيَّ المختار.
يمكن للقارئ أن يتبيَّن رموز هذه الخرافية كما يأتي : المملكة الذهبية هي فلسطين، أو الوطن العربي، مملكة الدجاج الأبيض هي الكيان الاستيطاني الصهيوني، القوة العظمى هي الاستعمار الغربي.
يمضي سياق الرِّواية في تناوب بين هذه المسارات الثلاثة:الحياة في المملكة الذهبية، سعي مملكة الدجاج الأبيض إلى تحقيق هدفها، ورحلة ودَّان.
ينتهي السياق، في المسارين الأوَّلين، إلى أن يغدو شعب المملكة الذهبيَّة شعباً جائعاً منهك القوى مشلولاً، ما أفضى إلى سيطرة " أبو نبُّوت" وأعوانه على مملكته، وجعل سكانها عبيداً له. وتكشف الأحداث أنَّ من عمل على تحقيق هذا الهدف:" أبو نبُّوت" وقواه، والعملاء، مثل العرَّافة ذات المنقار القاني، والأعوان، هم أدوات للقوَّة العظمى المهيمنة.
هنا، يلتقي هذان المساران مع مسار ودَّان، بعد أن عاد من رحلته التي التقى خلالها الحكيم، وزغلول حكيم الطيور الأكبر، واكتشف أنَّ العرف المقدَّس الذي جاء لتقديم القرابين له ليس سوى سراب، وأن ليس من ملوك للجان، وأنَّ الاَلهة لا تعاقب هذا العقاب الفظيع من أجل جُنح بسيطة، فلمْ يقدِّم القرابين، فعاد بالمعرفة، والتقى "نبلة" حفيده الذي هرب من سجن " أبي نبُّوت".
يعود الجدُّ وحفيده ليخوضا صراعاً مع تلك القوَّة وأعوانها. تقتل القوَّة الطاغية، الجدَّ، وتخبر الحفيد بأنَّها اختارته، ليكون حاكماً، فيتظاهر بالقبول، وينفِّذ خطَّةً يقتل بموجبها أعوان تلك القوَّة، ويقيم ستاراً حديديَّاً حول مملكته، ويحكم بالعدل، غير أنَّ خلفه ينحرف، فيطغى، وتحاصر القوَّة الطاغية المملكة، فتمسي مرَّةً أخرى أمام الفناء، فتأتي العرَّافة ذات المنقار الأسود، لتنقذها، من ذلك المصير، فتفعل ما فعلته العرَّافة ذات المنقار القاني من قبل، وهما، كما يفيد وصفهما متشابهتان، في كلِّ شيء ماعدا المنقار الذي أمسى أسود، بعد أن كان قانياً، أي أمسى أشدَّ شراسةً وظلماً وفتكاً...
يمكن، في ضوء هذا العرض السريع، أن نجيب عن الأسئلة التي طرحناها، فنرى أنًّ أدوات القوَّة الطاغية المهيمنة على العالم تتجدَّد، لتؤدِّي دورها، في كلِّ مرحلة بحلَّة جديدة، وتسوِّغ وجودها، في البنية المجتمعية التي تؤدي منها دورها، بمسوِّغات مضلِّلة، منها إشاعة شعوذات وغيبيَّات ومفاهيم دينيَّة غير صحيحة، وهي، أي تلك القوَّة، توصل الدول إلى ماَزق، وتوصل إلى حكمها من يوهم المحكومين بأنه المخلِّص، لكنَّه يكون في الحقيقة أداةًّ جديدة للقوَّة الطاغية تتناسل من أدوات قديمة.