رواية "الرجال": تصوّر لعالمٍ من دون كرُومُوسُوم Y
قد تبدو الحياة من دون الرجال والصبيان أسهل بكثير بالنسبة إلى النساء، لكن سرعان ما تبدأ النساء بافتقاد رجالها.
هل النساء أفضل من الرجال؟ يعتقد بعضنا أن الإجابة على هذا السؤال سهلة وأنها "نعم"، ويستشهدون بالإحصائيات: يرتكب الرجال معظم الجرائم العنيفة وهم من بدأوا معظم الحروب. بالتالي، يصبح السؤال: إذا تمكنت النساء من التفوق على الرجال جسدياً أو تخلصن من الرجال نهائياً، هل ستصبح الأمور أفضل؟ تحاول رواية "الرجال" استكشاف هذا الاحتمال. و"الرجال" هي الرواية الخامسة للروائية الأميركية ساندرا نيومان، وقد صدرت عام 2022 عن دار"غروف برس" Grove Press""، وتقع في حوالى 270 صفحة.
في هذه الرواية، يختفي كل الرجال فجأة ويتركون للنساء مهمة تنظيم عالمٍ تغير تغييراً جذرياً. تبدأ الرواية باختفاء زوج بطلتها، وراوية أحداثها، "جين بيرسون"، واختفاء ابنها ذي الخمس سنوات أثناء عطلة تخييم في غابات كاليفورنيا أواخر آب/أغسطس.
جين امرأة بيضاء، شقراء، طويلة، راقصة باليه سابقة، لديها سجل إجرامي، وتسمّي نفسها نتالي لإخفاء هويتها. تتصل جين بالنجدة، لكن لا يتمكن أحد من مساعدتها لأن العالم كلّه قد تغير، وفي لحظة اختفاء زوجها وابنها، اختفى جميع الرجال من العالم؛ اختفوا من وسط عملية جراحية، من وراء عجلات سيارات، من نقاشات ومن ممارسات حب. ورغم الحزن الذي سببه هذا الفقدان، تجد فيه جين فرصة لدمج جزئين من حياتها؛ بداياتها العابثة وهي تتصيد الصبيان والشباب، ومرحلة نضوجها اللاحقة وهي تحاول أن تصبح زوجة وأماً مثالية. هكذا، تغرق جين في حلم يقظة بأنها لم تتزوج قط ولم تنجب، وأنها عاشت واقعاً بديلاً تكون فيه راقصة باليه مهمة أو تبحر وحيدة حول العالم. "مع هذا، شعرت بوجود زوجي وابني هناك، وأحببت أنهما كانا هناك"، لكنهما لم يكونوا موجودين بعد ذلك.
تلجأ جين إلى صديقتها إيفانجيلين، وهي امرأة سوداء أطلقت النار يوماً على ضباط شرطة ذبحوا عائلتها، تترأس الآن حزب المعايشة، وسوف تترشح للرئاسة في العالم الجديد الخالي من الرجال. كانت جين وإيفانجيلين حبيبتين في السابق وشريكتين، واختفاءُ حياة جين العائلية الآن، يعني أن بوسعهما العودة كسابق عهدهما. تبدأ عملية البحث، ويتضح أن جين ليست وحيدة في هذا المسعى؛ تتتبع القصة أيضاً نساء أخريات يتقن إلى إيجاد رجالهن: آباء، أصدقاء مقربين، أخوة، وأبناء. إن قوة مجهولة قد "أزالت كل إنسان يحمل كرُومُوسُوم Y"؛ كل الرجال والصبيان والمتحولين يختفون في لحظة واحدة.
قد تبدو الحياة من دون الرجال والصبيان أسهل بكثير بالنسبة إلى النساء، لكن سرعان ما تبدأ النساء بافتقاد رجالها. تتحطم طائرات عندما يختفي طياروها الذكور من غرف التحكم، تستعر النيران في غياب رجال الإطفاء، تنهار المصانع التي يديرها رجال، ويفقد العالم رجال الشرطة. هكذا تصوّر الرواية النساء وهنّ محطمات حزناً، يصرخن بأسماء رجالهن المفقودين في الشوارع، وما من مجيب. وفي غمرة يأسهن، تنجذب النسوة إلى قناة غامضة على الإنترنت تبث برنامج يحمل اسم "الرجال"، وتصبح بعضهن مدمنات على مشاهدته آملاتٍ أن ذلك سوف يعيد المفقودين. تعرض القناة فيديوهات للمختفين أثناء وجودهم في بُعدٍ ما ملعون "يمشون أو يقفون ضمن مجموعات، وأفواههم تنفتح وتنغلق في تناغم" أمام مشهد شيطاني غريب.
لكن، بعد الكارثة، ومع الوقت، يحلّ هدوء غريب. ويتمكّن العالم من المضي من دون الرجال. تجد النساء أنفسهن في "عالم من الحملان من دون ذئاب"؛ تلعب الفتيات خارج بيوتهن من دون الحاجة لمراقبتهن، فخطر المتربصين لم يعد موجوداً؛ تملأ النساء المنتزهات، ويتمتعن بحريتهن؛ يتناقص العنف والاعتداءات الجنسية؛ يمتلئ الهواء بصخب أصوات النساء والفتيات وحسب. ويجد العالم طرقاً بديلة؛ تخترع النساء آلياتٍ لتلقيح البيوض باستخدام الحمض النووي الأنثوي، يعدن توحيد كوريا الشمالية والجنوبية، يصلن إلى اتفاقات تخص المناخ، وتتدرب النساء، والرجال المتحولين نساءً، على القيام بالأعمال التي كانت سابقاً مخصصة للرجال، مثل قيادة الشاحنات أو أخذ دور البابا.
من بين قصص الرواية، قصة بطلتها جين، على وجه الخصوص، قصة مثيرة للاهتمام والقلق في آن معاً. في عمر السادسة عشر، كان مخرج فرقة الباليه قد علّم جين أن تغوي الصبيان والفتيان الصغار حتى عمر الثالثة عشرة. وعند محاكمتها، توصم جين بالمجرمة وتترك مدمرة: "لن أكون كاملة بعد الآن قط، لن أكون بخير مطلقاً".
بالنتيجة، مشاعر جين المختلطة تجاه الرجال لا تفارق الرواية: كان مستغِّلها وضحاياها على السواء ذكوراً. وفي العالم، الرجال مشعلو حروب إنما هم أيضاً مواطنون أبرياء. بالتالي، كلما نظرنا عن كثب، تبدّى لنا أكثر تعقيد الأمور بين الجنسين.
من هنا، يمكن أن نتساءل: إذا ذبحت النساءُ الرجالَ الذين أغضبوهن، هل ستتحقق العدالة؟ تدرك هذه الرواية بالطبع أن هذه ليست المسألة كلها. على سبيل المثال، تُهاجَم إيفانجيلين التي هي سوداء البشرة من عدة نساء عنصريات بشراسة، وحتى جين، صديقتها البيضاء، تستخدمها لأجل غاياتها. كذلك، ثمة في الرواية عصابات نهب مكونة من مراهقات. بالتالي، لا تؤمن الرواية بأن فساد الأخلاق عند البشر محصور بجنس معيّن، ولا تقول إن النساء غير قادرات على التصرف كذئاب. مع هذا، إنه بالتأكيد عالم أفضل لتحيا النساء فيه.
تقول إحدى الشخصيات متذكرة كل الأذى الذي ارتكبه الرجال: "بالطبع لا يمكن التيقن من أن اختفاءهم كان عقاباً، لكن من لا يعتقد أنه كان عقاباً بالفعل؟".
عموماً، مشكلة النسوية هي الرجال. لكن، ليس بمعنى أن الرجال هم مصدر مشاكل النساء على وجه التحديد، رغم أن الإحصائيات تميل إلى أن تشير إلى ذلك الاتجاه. في الحقيقة، إن المشكلة بالنسبة إلى النسوية هي أن النساء، رغم كل شيء، تحب الرجال. وأحد دروس تجارب الموجة الثانية من النسوية هي أن وجوداً مثالياً خالياً من الرجال هو وجود يحارب ضد جاذبية العاطفة. رواية "الرجال" تأخذ هذه الورطة وتعالجها بذكاء.
علاوة على ذلك، لا تسمح لنا الرواية قط بنسيان خطها الرئيسي، لكن، بالإضافة إليه، تنبثق عدة خطوط فرعية وثيمات مهمة: مسألة العرق والعنصرية، مسألة الطبقات، تبعات الصدمات بعيدة المدى وإمكانية التحكم بها، الجهود التي قد نبذلها للتخفيف من وطأة الحزن والخسارة الفرديتين. بالإضافة إلى ذلك، فلسفة إيفانجيلين السياسية فيما يخص المعايشة هي فلسفة مذهلة؛ و"المعايشة" هو مصطلح بيولوجي يُستخدم للإشارة إلى العلاقة بين نوعين من الكائنات يستفيد واحدهما من الآخر من دون أن يتأذى هذا الآخر.
كذلك لا بدّ من الإشارة إلى الأقسام التي تصف المشهد الشيطاني الذي يتواجد فيه الرجال، وهي أقسام عجيبة ومرعبة، وتنطوي على مشاهد مُعبّر عنها ببراعة إلى حدّ أنها تسبب الاضطراب للقارئ. "نرى ظلال الرجال والحيوانات وهي تتحول، تطول وتقصر. وفي النهاية، يصبح الرجال أنحل على نحو ظاهر". كذلك، تطرح الرواية هذا السؤال المصيري: إذا اتضح أن العالم أصبح مكاناً أفضل من دون وجود أحبائك، هل ستضحي بالصالح العام لتعيد عقارب الساعة إلى الوراء وتستعيد أحباءك؟
إن هذه الرواية، مثل رواية نيومان السابقة "السماوات"، تغيظنا بفكرة الطوباوية. بماذا نحن مستعدون للتضحية للوصول إليها؟ هل من الممكن أن نخلق عالماً مثالياً؟
إن "الرجال" هي بمثابة دراسة مُقلقة عن الفقدان، والحزن، والتضحية الأخلاقية، كما أن المناظر الطبيعية فيها مليئة بالخراب البيئي. "لقد فهمنا الأمر: كان هذا عالماً مستقبلياً لم يختفِ الرجال فيه قط. كان الجحيم الذي كنا سنغدو محكومين به، الأرض التي كان الرجال ليصنعوها"، تقول جين واصفة ذلك الخراب.
لقد تسبّبت رواية "الرجال" بالكثير من المشاكل حتى قبل صدورها، وتلقّت عدة اتهامات فيما يخص مسألة كراهية الرجال بسبب فكرتها القائلة بأن العنف، والحرب، والوحشية قد تختفي ببساطة في غياب الرجال. لكن، من الحرفية الزائدة قراءة الكتاب كمعادلة بسيطة تساوي بين وجود الرجال وموت الأمل بالمستقبل، رغم صعوبة تجنّب مثل هذه الخلاصة ضمن الكتاب. فالرواية في الحقيقة محيّرة، ومليئة بالأفكار والمشاعر المتنافرة. إنها استكشاف للترابط والتلازم بين الجنسين، ولإغرائه وخطورته، واستحالة اجتثاثه من العلاقات البشرية. إنها رواية عن اليوتوبيا النسوية، والتضحيات المستحيلة التي تُسائل حلم المجتمع المثالي. إنها رواية الصراع بين الفرد والجماعة، بين الرغبة الفردية والصالح العام للجماعة، وكيف يمكن لذلك أن يهدّد أي شكل من أشكال التقدم.
بالنتيجة، صحيحٌ أن الرواية محض فانتازيا جذابة، وليس أطروحة سياسية، لكن فرضيتها الأساسية قد تكون مزعزعة قليلاً. ليس الجندر بل انعدام المساواة هو ما يهم: فعندما تطغى مجموعة على أخرى، سوف يسيء بعض أفرادها التصرف بالتأكيد.
ترجمة وإعداد: سارة حبيب