رواية "بلاد تركب العنكبوت" تكشف ما فعله بنا العالم الإفتراضي
رواية "بلاد تركب العنكبوت" تحكي عن فظاعة العيش، في عالم التواصل الاجتماعي الموازي؛ العالم الذي استبدلته البشرية بعوالمها الحقيقية، هرباً ربما!
منذ بضع سنين، تنبأت، وحالياً تجسدت، الأفلام السينمائية والروايات الخيالية بسطوة الذكاء الصناعي على عالم البشر فيزيائياً بزرع شرائح إلكترونية في الأدمغة، ونفسياً بسطوة عصر الصورة ومواقع التواصل الاجتماعي. وستكون الحرب القادمة، بحسب البعض، بين البشر وهذا الذكاء، ونحن نعيش حالياً عصر تحقق تلك النبوءات. ومِن ضمن الكتابات التي أقحمت القارئ في هذه الحقيقة المفزعة رواية "بلاد تركب العنكبوت"، من تأليف منى سلامة.
مِن المنطقي أن تخلع منطقك داخل عَالم الوهم فيه هو القانون الأوحد، فالرواية بالأساس فنتازيا سوداوية عن واقع أكثر مأساوية مِن الخيال، تحكي عن فظاعة العيش، وربما العيش فقط، في عالم التواصل الاجتماعي الموازي؛ العالم الذي استبدلته البشرية بعوالمها الحقيقية، هرباً ربما!
تحكي الكاتبة عن سُكّان "عالم موازٍ" نعرفهم على الأغلب في عالمنا الحقيقي. هم أولئك الذين يعيشون على صفحات العالم الافتراضي بشخوص بعيدة كلياً عن حقيقتهم. اختاروا أسماء جديدة دلالية، توحي بما يتمنونه ولكنهم عجزوا عن تحقيقه إلا بالهجرة إلى الخيال، مثل "شاهق، خيال، حصان طروادة، الكاتب الكبير، الفنان".
في ذاك العالم، نجد الأشرار طيبين، والقاسي حنوناً، والشياطين ملائكة ويعظون. يتقلدون مهناً أبعد ما تكون عن وظائفهم الحقيقية، ولا تمت إلى مهاراتهم وإمكاناتهم بِصِلة، مثل "شلبي سليم الفخراني". الشخصية التي عملت في كل المهن بالرواية، صاحب المقهى والبيت الذي يقطنه "أسمر البطل الرئيسي"، مالك مطعم الكشري وطبّاخه، عامل البوفيه في الجريدة، والسمسار العقاري، وأحياناً يكون مفتياً دينياً، و"الفنان" السفاح، ذلك الذي يرى أن عمله فني صرف لا يفقهه جُهّال العالم الحقيقي، فهو يأخذ من كل جثة عضواً ليبتكر به مخلوقاً جديداً يراه بهذه الهيئة أجمل. فنان بروح فرنكشتانية، ويُبرر عمله بأفكار أكثر شذوذاً وتطرفاً.
"الشيخ جو، ابحث في جعبتي عما تريد... أو قل عنوان موضوعك!". ألا تُذكركم الجملة بالعبارة الافتتاحية لمحرك البحث الأشهر أو جملة التصدير في صفحة فيسبوك: "بمَ تفكر؟". جو الذي يعرف كل شيء، أياً كان ما تريده، فقط اسأله وسيجيبك، فهو المُطلع على كل الخبايا؛ الباحث والعارف الأكبر!
رُغم أن الرواية فنتازية، فإن القارئ سيرى على مدى صفحات كمّ الواقعية المرعبة فيها، فقط لو نظر حوله. سنرى السباق المحموم للتلاعب بالأدمغة على صفحات التواصل الاجتماعي في محاولة لاستئصال أفكار وزرع أخرى، وكيف يستطيع رواد هذه التكنولوجيا توجيه الأدمغة البشرية بغض النظر عن الثقافات والأعمار والانتماءات، لأي وجهة مُبتغاه، وخصوصاً عندما يعملون على المجتمعات الغارقة في الجهل، مستخدمين سلاح التلاعب بالكلمات، وتصدير أفكار محيّرة عن معاني الحقيقة ونسبية الأخلاق والمبادئ وغيرها من كلمات وأفكار استشرت في كل المجتمعات الحقيقية، حتى كوّن كل إنسان مجتمعاً قائماً بذاته يحاول فرضه على الآخرين. بهذا، سيطروا على البشر الذين أطاعوهم حتى تحوّلوا إلى كلاب مخلصة تأتمر بأمرهم دون جدال أو سؤال، كما في الرواية.
صاغت الكاتبة رموزاً جنونية للتدليل على غرائبية الواقع، كفكرة "نادي المقامرة"؛ المقامرة على الطريقة الحديثة، فالمقامرة بالأموال عفا عليها الزمن، وجاء زمن المقامرة "بالوقت لكسب الكلمات". وتنسحب هذه الرمزية للدلالة على"التريند"! موضوع يتحدث فيه الجميع حتى لو لم يفقهوا في ما يتحدثون شيئاً، فالتحدّث وألا تصمت 3 دقائق متصلة هو شرط عضوية النادي؛ "شرط إثبات الوجود". تحدّث عن أي شيء وكل شيء، تعرفه أو لا تعرفه، حتى هذياً بكلمات غير مفهومة وغير مترابطة، والمقامر الحق يفوز كل يوم ببضع كلمات تُثري قاموسه اللغوي حتى يصل إلى الكلمة التي تُلقي بسامعها في قعر الجحيم.
الآن، ألا ترون أن هذا ما يحدث في صفحات العوالم الموازية الزرقاء؟ فكلما تحدثت أكثر وبموضوعات زلزالية حتى لو لم تكن حدثت فعلاً أو لا تفقهها زاد متابعوك وكثر مريدوك.
كذالك دلالة "مقهى العطاسين" الذي يشترط على رواده العطس المستمر طوال جلساتهم: "المجموعات التي ترفض أن تقف موقف المتفرج ولا تدلي بخبر زائف أو إشاعة". مَن يتوقف عن العطس يُطرد إلى مقهى الشاردين المُؤرقين ممن تظهر عليهم أعراض "إنفلونزا الضمير"، أو من استعادوا إنسانيتهم المفقودة. الأعراض التي عندما كثر المصابون بها، بدأ عالم اللون الأزق المُتمثل، رمزياً، في البحار والأنهار والمحيطات والسماوات بالتلاشي. وبهذه الطريقة، بدأت صحوة الضمير المتواترة تمحو الوجوه في العالم الذي يعيش فيه الناس كما لو كانوا مجرد كينونات حلم أناس آخرين.
دلالة المقابر التي لا تحتوي على جثث، والجثث التي تختفي فجأة دون ترك أثر وراءها، حتى في ذاكرة الغير، كلها دلالات لصفحات لم توجد فيها حيوات حقيقية، وهي فقط مجرد صفحات أغلقت واختفت من خوارزميات الشبكة العالمية.
يظل القارئ يركض في العوالم الفنتازية للرواية حتى يكتشف في النهاية أنه عاش وهماً أقنعته به الكاتبة أيضاً حتى النهاية.
جنون البداية.. أهلاً بكم في عالم الوهم إلى حين
ماذا تفعل إذا استيقظت يوماً فوجدت كل الموجودات حولك تعمل بشكل مطلق عكس كل قواعد المنطق التي اصطلحت عليها البشرية منذ وجودها على الأرض؟ هل تأملت يوماً كيف يطغى اللون الأزرق على حياتنا كبشر؟ البحار والأنهار والسماء. ماذا ستفعل إن بدأت كل تلك العناصر الزرقاء بالتلاشي تباعاً؟ تلك هي الفكرة الجنونية التي بدأت بها الرواية. يستيقظ الناس يوماً ليجدوا أن البحر المتوسط اختفى! هكذا من دون مقدمات. انسحب من شواطئ كل الدول المُطلة عليه. وتِباعاً، اختفى كل ما له زُرقة، لكن لم يكن اختفاء زرقة الأرض لكارثة كونية ما، بل كان مجرد رجوع بخطأ غير مقصود إلى أرض الحقيقة. فيروس مقاوم يهدم العالم الأزرق ليفيق منه الناس، لكن الفيروس أحدث بعض الخلل الذي أدى إلى أحداث لم تكن متوقعة.
عندما تتحول نعمة الخيال إىل نقمة
منذ فجر الحضارات، مَثّل الخيال واحداً مِن أكبر المحركات للبشرية على الارتقاء، ومنها واصل الإنسان وجوده على الأرض حتى اليوم، لكن عندما يتحول الخيال إلى مجرد أداة للهروب مِن واقع لم تعد احتمالية العيش فيه واردة بالنسبة إلى الكثيرين، حينئذ يتحول الخيال إلى نقمة. بالضبط هذا ما لعبت عليه الشركات المُصدرة للتكنولوجيا الرقمية، وخصوصاً تلك التي تصمم مواقع التواصل الاجتماعي.
"مواقع التواصل الاجتماعي" أعتى أسلحة العصر
لم تأتِ سيطرة عمالقة التكنولوجيا الرقمية من فراغ، بل درست الجمهور المستهدف وعرفت تطلعاتهم، وأحياناً خلقتها لهم، عرفت إغراءاتهم، إلى ما يطمحون، وما يلفت أنظارهم. دراسات مجتمعية ونفسية تنتجها وتعمل عليها، لتعي جيداً جحم الضغوط الاقتصادية والنفسية، ومدى تدهور العلاقات الاجتماعية والأسرية الحقيقية، ومدى تجذر الجهل في بعض المجتمعات، ومدى اليأس المتنامي في نفوس البشر بغض النظر عن انتمائهم العرقي والديني، والنتيجة التي ستخرج من كل هذا الكم من الحرمان الإنساني للإنسانية.
وهكذا، استطاعت تلك الشركات تقديم الحل الذهبي للعالم. خلقت عالماً موازياً: "إن سئمت مِن واقعك غير المُحتمل اعتزله وهاجر إلى عالم أفضل كن فيه كما تحب". ما لا تستطيع عيشه في الحقيقة، عشه في الخيال! كل هذا، كما يدّعون، مجاناً!
لكن وسط عالم السيولة المادي حتى النخاع الذي نعيشه: هل لا يزال هناك شيء مجاني! بالتأكيد لا، فالمُستخدم، أي نحن، هو السلعة، فمن أين لهم الحصول على البيانات والمادة التي سيعرفون منها جمهورهم المستهدف؟ بالتأكيد من حيواتهم الموازية التي يراقبونها ويعرفون عنها أكثر من أصحابها أنفسهم، والتي صارت أكثر سهولة عما مضى، إذ يتبرع المستخدمون طوال الوقت بفرد حيواتهم وأمانيهم وتطلعاتهم ونشاطهم اليومي، وأكلهم، وملابسهم، وسفرهم، وأماكن وجودهم، بكل أريحية وسهولة وطواعية، وعلى الملأ، فلا يتكبد المستفيد عناء البحث أو حتى التجسس، كما كان الأمر في السابق.