رأي الأكثريّة بين الاعتبار العقلي والشرعي

تتخذ أهمّ القرارات الجماعية في نظام الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية على أساس رأي الأكثرية، مثل اختيار نوع الحكومة، والقانون الأساسي، والوليّ الفقيه، ورئيس الجمهورية، ونواب مجلس الشورى الإسلاميّ ومجلس الخبراء.

  • صحف غربية: الانتخابات الإيرانية ستنتج برلماناً أكثر تشدداً تجاه الولايات المتحدة (أ ف ب)
    الانتخابات الإيرانية دليل على تداول السلطة في الجمهورية الإسلامية.  (أ ف ب)

نُشرت هذه الدراسة المعنونة بـ"رأي الأكثريّة، بين الاعتبار العقليّ والشرعيّ / القسم الأوّل: للكاتب الشيخ مسعود إمامي؛ والتي نقلها إلى العربية د. حسن طاهر  ود. علي الرضا عيسى، في مجلة الاجتهاد والتجديد العدد المزدوج (59 ـ 60) .

يقول الكاتب إنه في عالم اليوم أصبح الرجوع إلى الرأي العام، وتفضيل رأي الأكثرية في اتّخاذ القرارات الجماعية، قيمةً عالمية. في أغلب الدول يتمّ اختيار نوع الحكومة، القانون الأساسي، أعلى منصب في الدولة، أعضاء مجلس النواب، بناءً على رأي الأكثرية. اتّخاذ القرار في المجالس والمجامع يتمّ أيضاً على أساس تفضيل رأي الأكثريّة. قاعدة اعتبار رأي الأكثرية ساريةٌ حتّى في الكثير من التجمُّعات الصغيرة والعائلية. وأعضاء مجمعٍ ما يعملون برأي الأكثرية في الأمور الخلافية التي تخصّ الأعضاء، وذلك بعد أخذ آراء الجميع.

ونظام الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية أيضاً ليس مستثنىً من هذه القاعدة. وتُتَّخذ أهمّ القرارات الجماعية فيها، مثل: اختيار نوع الحكومة، القانون الأساسي، الوليّ الفقيه، رئيس الجمهورية، ونواب مجلس الشورى الإسلاميّ ومجلس الخبراء، على أساس اعتبار رأي الأكثرية.

واليوم، تعتبر وجهة نظر الإسلام حول الرجوع إلى الرأي العامّ، وتفضيل رأي الأكثرية، ومجال اعتمادها، الشغل الشاغل للكثير من المسلمين. وقد أنجز المفكِّرون المسلمون وغير المسلمين أبحاثاً مختلفة في هذا المجال، وقدَّموا وجهات نظر متباينة أيضاً في هذا الصدد.

إن الوصول إلى وجهة نظر الإسلام في هذا الشأن مسألةٌ في غاية الأهمّية بالنسبة إلى الشعب الإيراني ونظام الجمهورية الإسلامية، الذين يحاولون أن يعيشوا في ظلّ حكومةٍ قائمة على تعاليم الإسلام.

في ما يتعلَّق باعتبار أو عدم اعتبار رأي الأكثرية يوجد قولان على الأقلّ: مؤيّدٌ؛ ومعارِضٌ. ولكنْ بتأمُّل وجهات نظر المؤيِّدين والمعارضين نستنتج أن لديهم قواعد مختلفة، ولا يمكن اعتبار جميع الموافقين أو المخالفين أصحاب نظريّةٍ واحدة. رُبَما بحَسَب رأي البعض يكون رأي الأكثرية معتبراً وصحيحاً من جهةٍ، وغير معتبرٍ من جهةٍ أو جهاتٍ أخرى. لذلك تلعب الأسس والمرتكزات التي يعتمدون عليها دَوْراً رئيساً في تحليل وجهات النظر، وما يتبعها من نقدٍ ودراسة لها. ومن هذا المنطلق يجب مناقشة وجهات النظر بناءً على المبادئ والمرتكزات.

إن أهمّ الأسس التي تقوم عليها صحّة الأخذ برأي الأكثرية هي الحقّ في تقرير المصير، وتوضيح الحقائق، الشرعيّة الدينية، المصلحة والقبول. ويمكن أن يكون مستند صحّة رأي الأكثرية، وفق كلّ واحدٍ من هذه الأسس، إمّا دليلاً عقليّاً أو دليلاً نقليّاً. 

وتسعى هذه المقالة إلى إثبات هذا الادّعاء، وهو أن مبدأ حقّ تقرير المصير، القائم على أدلةٍ عقليةٍ وشرعيةٍ محكمة، هو المبدأ المتين الوحيد الذي يستطيع تبرير أكثر حالات الاعتماد على الرأي العامّ في أغلب مجتمعات اليوم، لا كلّها.

كما تسعى إلى بيان أن عدم اهتمام أكثر أصحاب النَّظَر بهذا المبدأ، وأن إبداءهم آراءهم حول اعتبار رأي الأكثرية أو عدمه على أساس سائر المبادئ ـ وخصوصاً مبدأ كشف الحقيقة، يتسبَّب في تشويش المباحث المتعلِّقة بهذا الموضوع.

وعلى هذا الأساس، فإن تبيين المبادئ والمنطلقات المختلفة لأصحاب الرأي حول اعتبار رأي الأكثرية أو عدمه، وتبيين مقتضيات كلّ واحد من هذه المبادئ، وتفكيكها؛ تجنباً لخلط المباحث العلمية بشأن هذا الموضوع، هدفٌ مهمٌ آخر تسعى هذه المقالة لتحقيقه.

والنقطة الأهمّ التي تثبتها هذه المقالة أن معظم أصحاب النَّظَر في مجال الفقه والفكر الإسلامي قاموا ـ وفقاً لمبدأ كشف الحقيقة ـ بإنكار اعتبار رأي الأكثرية. وادّعوا أن رأي الأكثرية لا يكشف عن الحقيقة، فقد تكون أقليّةُ مجتمعٍ على حقٍّ، والأكثرية على باطلٍ، فلا يجدر في اتخاذ القرارات الجماعية العمل برأي الأكثرية. وادّعاء هذه المجموعة من العلماء عدم اعتبار رأي الأكثرية قائمٌ على مبدأ كشف الحقيقة. وهذا الادّعاء، على أساس هذا المبدأ، صحيحٌ ومنطقي؛ إلاّ أن الأمر الذي غفلوا عنه أن أكثر حالات الاعتماد على الرأي العام في مجتمعات اليوم ليست لأجل كشف الحقيقة؛ بل لأن الناس أنفسهم يجب أن يقرِّروا لحياتهم، ولا يمكن لشخصٍ ما إجبارهم على فعل شيءٍ ضدّ إرادتهم، وإنْ كان ما يقومون به غير صحيح. وقد عُبِّر عن هذا المبدأ بحقّ تقرير المصير، وآليته التنفيذية في اتخاذ القرارات الجماعية الاستفتاءُ العام، وتفضيل صوت الأغلبيّة.

ولإثبات هذا الادّعاء سوف يتمّ التطرُّق أوّلاً إلى شرح المفاهيم ذات الصلة، ومن ثمّ تُناقَش هذه الأسس الخمسة بشكلٍ عقلانيّ. وسيتمّ شرح النتائج المنطقية لصحّة رأي الأكثرية بناءً على تلك الأسس. وفي المرحلة التالية سيتمّ إثبات اعتبار رأي الأكثرية من وجهة نظر القرآن الكريم وسيرة المعصومين على أساس مبدأ حقّ تقرير المصير، وعدم اعتباره على أساس مبدأ كشف الحقيقة.