حلب.. "يا ربّة الوجه الصبوح"

من سيراقب اليوم خروج الارهابيين من مدن وقرى وقد بدأ يحررها الجيش السوري، سيشاهد كم هي الارصفة، الوجوه، كئيبة. وسيعترف أن القرار الذي اتخذ هو أن حلب ليست حطاماً، ولن تكون.

كلما أحسست باليتم أعود إلى حضنها. أدرك منذ البدء ألا وطنَ يحلُّ مكانها، ولا حبيبة تحلُّ مكان حبيبتي، حلب. أنا من مواطنيك منذ ما قبل التكوين، عندما وضع حاكم مدينة "لكش، أوروكاجينا" أول مثال مبكر للإصلاحات في سوريا 2350 قبل الميلاد.

وعندما أعطت أوروب، شقيقة قدموس، اسمها لقارة الظلمات فكانت أوروبا، وعندما وضع القائد هنيبعل أول خطة عسكرية لاجتياح روما فاجتاز البحر وجبالاً وعرة بفيلته وحاصرها عشرات السنوات حتى شاخ شبانه الجنود، وأصبح "هنيبعل على الأبواب" مثلاً يُقال للخطر، وبقيت خططه العسكرية تدرّس في الأكاديميات العسكرية عالمياً، وعندما ساوى المفكر أنطون سعادة بين السوريين مواطني أمة واحدة جديرة بالانتصار حقوقاً وواجبات بلا انتقاص أو تفاوت، وعندما أصبح سيد الشهداء السيد حسن نصر الله ملهماً لأحرار العالم.

لطالما أدهشتني حلب. منذ طفولتي وأنا كلما تذكرتها أرتجف وأنا أتحسّس نبضاتِ قلبها وهي تعلو نوافيرَ شغفٍ إذ أتلفـّظ حروف اسمها وأردّد أُحبكِ يا حلب. يا لهذا الاسم الآرامي الذي بقي ملتصقاً بها منذ 7 آلاف سنة، حينما كانت عاصمة للدولة العمورية. ومنذ ذلك التاريخ ظلت تلعب أدواراً هامة في التاريخ القومي، لكونها نقطة وصل رئيسة بين شرق سوريا العراق والغرب خليج اسكندرونة، حيث قوافل التجار التي كانت تتكئ على شواطئ سوريا.

كانت ساحة سعد الله الجابري وسط مدينة حلب ذات رمزية خاصة ومقصداً وملاذاً للآلاف من العوائل الحلبية بخاصة، والسورية عامة، قبيل العدوان عليها، فقد كانت الاعتداءات الإرهابية التي تستهدف أريافها بين حينٍ وحين، عقاباً لبقاء المدينة في كنف الدولة. كانت تلك الاعتداءات قد جعلتها بصورة لا تليق برمزيتها لأهالي المدينة وللسوريين. هذه «الظاهرة اليابانية» في المشرق العربي، كانت تنافس في صناعاتها بعض الدول الأوروبية، ناهيك عن الدولة التركية بطبيعة الحال.

وعلنا نتذكّر ذلك الأجنبي الذي قال يوماً "هذه الدولة ستكون صين الشرق الأوسط"، وهو يقصد سوريا، وتابع ممازحاً "سأقترح الإتيان بالبحر إلى هنا لتكون حلب شنغهاي السورية".

من سيراقب اليوم خروج الارهابيين من مدن وقرى وقد بدأ يحررها الجيش السوري، سيشاهد كم هي الارصفة، الوجوه، كئيبة. وسيعترف أن القرار الذي اتخذ هو أن حلب ليست حطاماً، ولن تكون. فبعد سنوات من الاعاصير السوداء السابقة لم تتحقق نبوءة رجب طيب إردوغان في "العثمنة"، ولا تصوراته في خارطة "السلطنة"، وهي لن تتحقق الآن.

أحدهم لاحظ كيف يتم تعذيب اللغة الإعلامية خلال هذه الأيام بالصدمات الكهربائية. الذين يعشقون اللغة بإيقاعها الفذّ وبمحتواها المترامي، لا يغتصبون الكلام بتلك الوقاحة، بل وبذلك الإرهاب الفقهي الذي لم يأخذ بالاعتبار أن سوريا لا تزال رزمة واحدة، كلما كانت الزلازل تحيط بنا من كل حدب وصوب، وما دام السوريون يرفضون أن يُعاملوا على أنهم مجرد حقول من الاسفنج!

وها هو الجيش السوري يردّ على أحلام الرئيس التركي، مرةً ثانية، وعلى أوهامه من الاحتلال والسيطرة على الأرض السورية وضم حلب إلى الجغرافيا التركية، وها هو الجيش السوري بدأ يستعيد بعض المدن والقرى من سيطرة الإرهابيين ويؤكد أقوال جنوده بـ "أنّنا سننتزع حلب من أحلام السلطان العثماني، وسندعه من دون أحلام، في سوريا، ومن دون أوراق"، وها هي جارة حلب، إدلب، تنتظر فرحها عندما تحين ساعة فرجها لتستقبل فرسان الجيش السوري.

سوريا، الأرض الضاربة في الحضارة أكثر من 10 آلاف عام، والتي علّمت الدنيا كيف تُبنى الحضارة وأهدت العالم أبجديتها الأولى، حاولت عصابات الإرهاب حتى استبدال علمها برايات الإجرام والقتل والعمالة والخيانة.

الهلال السوري الخصيب الذي غيّر وجه الدنيا منذ اخترع الحروف الأبجدية، يقول للعالم الآن: "نحن لسنا حفاة على قارعة التاريخ، كما على قارعة الجغرافيا، إن الحرب ضد الإرهاب مستمرة وشاقة وطويلة.. بدأت من هنا. وهنا يتقرّر مسارها ومصيرها".

لعل ذلك الطفل الحلبي يتذكر قبلة مدرِّسته الدافئة على خده في الصف الثالث الابتدائي، بعد أن سألته وهي تقف أمام السبورة: "هيّا يا شاطر.. هل تستطيع أن تضع لي صيغة «ما أجمل» في جملة مفيدة؟".

قال لها الطفل: "نعم.. ما أجملَ العلم وهو يرفرفُ فوق سطح مدرستي".

هذا الطفل أكد أن الهوى في حلب سوري.. ولن يكون عثمانياً أبداً.

لنحاول أن نقيس المسافة بين ضريح محيي الدين بن عربي وكنيسة حنانيا الذي عمّد بولس الرسول بماء بردى بعدما حوّلته الرؤيا من اليهودية الى المسيحية. ولكن هل تُسلّم سوريا كهذه إلى البرابرة؟!

حلب.. "يا ربّة الوجه الصبوح.. أنت عنوان الأمل".