حب غير مشروط.. لماذا يتعلق السودانيون بفلسطين؟
رغم الحرب وحالة الصهينة التي تدمغ مواقف حكّامهم، يبقى السودانيون أوفياء لفلسطين.. لماذا؟ وكيف؟
على رغم تبايناتهم الحادة بشأن الموقف تجاه الحرب في بلادهم، وتوزعهم مذاهب شتى بين مؤيدٍ لأحد طرفيها، ورافضٍ لها كليةً، وغير مبالٍ بها بالمرة، أظهر السودانيون توافقاً معهوداً بشأن موقفهم إزاء القضية الفلسطينية، وخرجوا في تظاهرات كبيرة رافضة لجرائم الاحتلال الصهيوني الأخيرة في غزة!
المفارقة أنّ خروج السودانيين وتدافعهم عفو الخاطر من أجل القضية الفلسطينية، يأتيان بالتزامن مع مرور 9 أشهر على الحرب الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع (شبه العسكرية)، والتي لم نرصد خلالها سوى وقفاتٍ خجولة ضد الحرب، ربما لكون موقف الدولة الرسمية نزّاعاً إلى حسم الصراع عبر الآلة العسكرية. وبالتالي، فإن أي أصوات تعزف ألحاناً بخلاف مقطوعات دعم المجهود الحربي، يجري تصنيفها على أنها أصوات موالية للعدو، وفي أحسن الأحوال مُخذلة.
وبوضع ردات الفعل الشعبية في السودان تجاه حروب بلادهم وفلسطين، ينهض تساؤل مهم، عن أسرار تعلق السودانيين بالأقصى، حتى إن أودى بهم ذلك إلى الوقوف في مواجهة سلطتهم الساعية بكل ما أوتيت من قوة لكسب ود سلطة الكيان؟
الدين
يُعَدّ الدين عاملاً حاسماً ورئيساً وراء انسياق السودانيين إلى دعم القضية الفلسطينية التي ترقى عند كثيرين منهم إلى درجة كمالات الإيمان.
وتحتل فلسطين مكاناً ريادياً في الذهنية السودانية التي تغذيها المرويات الدينية عن كون المسجد الأقصى هو ورثة الأنبياء المختومين بحضرة النبي محمد، وهو قبلة المسلمين الأولى، ومسرى نبيهم ومعراجه. وبناءً عليه، ستكون إمامة نبي المسلمين لكل الأنبياء في الأقصى الشريف دليلاً قاطعاً على أحقيتهم في المكان، مدعومين بآيات القرآن الكريم، وبالسنة النبوية المشرفة، وحتى بالمقولات المتشربة بالقداسة من شاكلة (لا يؤوم الرجل في داره)، أضفْ إلى ذلك كله حالة الإيمان القاطعة والقابعة في النفوس، ومفادها أن الأقصى عائد لا محالة إلى المسلمين كإحدى علامات قيام الساعة.
وعليه، لا غرو في أن تؤسطر المناهج التعليمية في السودان المجاهَدات عند تخوم المسجد الأقصى، ويبرز في السياق عمر بن الخطاب، وصلاح الدين الأيوبي.
التاريخ
لم تكن قناعات السودانيين بالقضية الفلسطينية أقوالاً وأشعاراً وتظاهراتٍ مؤيدة فقط، بل شارك أبضاً رهط كبير من السودانيين في حربَي عامي 1948 و1973.
وفي هذا الصدد، يبرز من السودانيين في حرب عام 1948 القيادي الإسلامي محمد صالح عمر، وعلى أيام المدّ العروبي في عبور عام 1973 يبرز اسم الرئيس المعزول عمر البشير.
وأدى الإسلاميون – بلا أدنى شك - في عقود حكمهم الثلاثة (1989–2019) أدواراً حاسمة في انحياز السودان إلى تيار الممانعة، إلى حدّ تمرير السلاح إلى المقاومين في فلسطين، وإن أدى ذلك إلى تحولهم إلى وجهة معتادة لضربات سلاح الجو الإسرائيلي، وتهم الإرهاب.
وفتحت الخرطوم طوال أعوام أبوابها للمقاومين، وكانت مستوطنة لمكاتبهم، ومقراً لصقل خبراتهم السياسية وحتى العسكرية. وفي هذا الصدد حُقّ لمؤسسة التصنيع الحربي في السودان أن تفخر بمساهمتها في تخليق أسطورة المسيّرات في إبان "طوفان الأقصى"، ونعني المهندس التونسي محمد الزواري.
وعلى الرغم من أهمية المحطات التاريخية، التي أشرنا إليها سلفاً، فإن قمة اللاءات الثلاث، والتي اعقبت هزيمة عام 1967، تُعَدّ علامة فارقة في اصطفاف الخرطوم كتفاً إلى كتف مع القدس الشريف.
القمة، التي جسّرت البَون بين الملك فيصل والرئيس جمال عبد الناصر، نجحت في خفض مشاعر الانكسار، ورفعت معدل العزيمة لدى العرب، عبر توحيد كلمتهم على لاءاتٍ ثلاث (لا اعتراف بـ"إسرائيل"، لا سلام مع "إسرائيل"، لا مفاوضات مع "إسرائيل").
وظلَّ السودانيون أوفياء للاءاتهم الثلاث، لم يثنهم عن ذلك إقدام الرئيس المعزول جعفر النميري على نقل اليهود الفلاشا في عامي 1984 و1985، أو تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، المُعرضة بعاصمتهم عقب زيارته لها في شباط/فبراير العام الجاري، فيومذاك قال: "رجعت بنعمات ثلاث"، أو حتى توقيع حكامهم على "اتفاقات أبراهام" في كانون الثاني/يناير 2021، كما لم يفلح محو عبارة "كل الدول عدا إسرائيل"، والتي كانت تسم جوازات سفرهم حتى زمانٍ قريب، من كشط العبارة من صدورهم وأفئدتهم.
جمع الأشتات
من المفارقات العجائبية بشأن علاقة الخرطوم بالقدس الشريف، حالة التوافق التي تحكم طيفاً متنافراً من القوى والأحزاب السياسية السودانية حين يتعلق الأمر بفلسطين.
ومع كل انتهاك تقدم عليه سلطة الاحتلال، تصدر البيانات الرافضة من القوى ذات التوجهات الإسلامية، والعروبية، واليسارية، وحتى من القوى المعروفة عندنا بالتقليدية.
ولن ترصد بخلاف تأييد المقاومة وذم الصهيونية، في بيانات القوى السودانية ومواقفها، بداية أقصى اليمين حيث الحركة الإسلامية المحلولة وجماعة الإخوان المسلمين، مروراً بحزب الأمة الناهض على قوى تقليدية (جماعة صوفية)، ولغاية أقصى نهايات اليسار حيث يتموقع الحزب الشيوعي السوداني على مقربة من الأحزاب البعثية والناصرية.
وبلا شك، فإن تعقيدات السودان كانت ستنحل بسهولة، لو حظيت بنزرٍ يسير من حالة التوافق التي تسم قواها السياسية بشأن فلسطين.
حب غير مشروط
ستجد كثيراً من الحب المنثور لفلسطين في السودان، تجده في الدعوات العاقبة للصلوات، ومنثوراً في القصيد، وفي أحاديث العامة.
نحن نعرف تاريخ هذه البقعة المباركة منذ الأزل، نعرف مدنها القديمة التي يجاهد الصهاينة لتجريفها من الخرائط، نعرف سلسال النضال والانتفاضات ونحفظ عن ظهر قلب قوائم الشهداء.
نعرف من قاوم بالرصاص والقلم الرصاص والحجر، نعرف شهداء الميدان، من أمثال عز الدين القسام، ونعرف شهداء المواقف الناصعات كأحمد يس وياسر عرفات، ونعرف كيف أشعل محمد الدرة واحدة من أهم انتفاضات الحجارة.
نعرف شهداء الأدب، أمثال غسان كنفاني، ونعرف قصة استشهاده واقفاً ضد تصرفات صِبية الاحتلال التي يعوزها الأدب، ونعرف حتى ناجي العلي الذي قتلوه بتهمة الرسم لكون الاحتلال لا يحتمل النيل منه، حتى لو بالسخرية.
نحفظ عن ظهر قلب أشعار محمود درويش، ونتخذ كتابات إدوارد سعيد درعاً نتترس بها بعد أن قذفتنا الأقدار (خارج المكان)، ونتابع بشغف فيديوهات تميم البرغوثي التي تسرب جرعات الأمل والمقاومة، بينما لا يزال بعضنا، بعد فراغه من تأدية فريضة الفجر، يصلي مع فيروز لأجل "زهرة المدائن".
وكما نفخر بالفلسطينيين القابضين على جمر القضية في القدس وضواحيها، نعرف من عاشوا بين ظهرانينا وكلهم توق إلى العودة، نعرفهم أهلاً وأصهاراً وأصدقاءَ وجيراناً وزملاء درس.
ولعله لم يكن من قبيل المصادفة أن تتشابه رايات السودان وفلسطين قريباً من التطابق، إن علمنا بتشابه المصير، فالعدو واحد، والقضية واحدة، والله الواحد فوق سماواته العُلى على الظلمة المغتصبين.
خاتمة القول أنّ الخرطوم، في عز انكساراتها، وحالة الصهينة التي تدمغ مواقف رسمييها، تبقى وفيةً لفلسطين. وإن أقدم حكامها وبعض من حكام العرب على إلقاء لاءاتها الثلاث في غيابة الجب، فسيظل شعبها مؤمناً بالقضية، وقائلاً للأخوة قبل الأعداء: "أنا يوسف يا أبي".