ثوابت الهويّة في متغيرات الاجتماع الشيعي في لبنان
إن إشكالية الهويّة لم تكن محصورة بالشيعة دون غيرهم بقدر ما كانت، ولا تزال، تتعلّق بمعنى الوطن عند جميع اللبنانيين، أي الوطن الذي يتجاوز حدود النشيد والعلم وبلاغة الكلام، ويتجاوز دولة المناصفة والمثالثة والحصص والحقائب والموازنات العامة، ويعلو فوق الطوائف.
تأسّس لبنان الكبير على توليفة خاصة: مجتمع طوائفي تديره سلطة طائفية، وقام استقلاله اللاحق على ثنائية خاصة أيضاً: عربي الانتماء ولكن بوجه غربي؟ وفي حين تفسّر توليفة التأسيس أزمة الدولة المعلّقة بين مصالح الطوائف وتراتبيتها في سلطة ونظام، تفسّر ثنائية الإستقلال مأزق الهوية الملتبسة المتماهية مع "وطن" على قياس الطوائف، بمصالحها الفئوية ووجوهها المتعددة. وإذا كانت الدولة المعلّقة أو المؤجّلة نتيجة طبيعية للتنافس الطائفي على السلطة، فإن الالتباس الحاصل في الهويّة يرجع بدوره إلى تعدّد المعاني الخاصة بالوطن، بحيث تبقى الهوية الوطنية الجامعة إشكالية مقيمة ومتوارية خلف المنازعات الأهلية اللبنانية، حتى إشعار آخر؟
هكذا تختزل إلتباسات الهوية إشكالية راسخة في تعقّل اللبنانيين لمعنى الوطن، حيث تسقط كل طائفة وعيها لذاتها على صورة للهوية الوطنية، والتي تكون كذلك – أي وطنية- بقدر ما تمثّل وتتماهى مع مصالح وحصص هذه الطائفة أو تلك وفي نوعية علاقتها مع "خارج" يغذّيها ويضمن استمرارها. مثلما تنهل الطوائف اللبنانية من تواريخها الخاصة ثوابت هويّاتها، تغرف هذه الهويات من المنازعات الأهلية والولاءات الخارجية مسوّغات الإشكالية التي حالت، وتحول دائماً، دون اتفاق اللبنانيين على هويّة وطنية جامعة.
تنسحب هذه الإشكالية على الجماعات اللبنانية كلها، لكن مفارقة الاجتماع الشيعي في تعقله لذاته وهويّته الوطنية تكمن في تخصيصه وحده، دون غيره، بتهمة "النقص" في لبنانيته، وهي تهمة لازمته منذ انخراطه القسري في دولة لبنان الكبير، ولم تفارقه حتى وهو يقدم الأرواح والأرزاق دفاعاً عن لبنان الكبير نفسه، بجماعاته ومناطقه المنتشرة والممتدة من الناقورة إلى عكار ومن بيروت إلى الهرمل. بمعزل عن صوابية هذه التهمة والغايات الكامنة في تخصيصها "الشيعي"، فإن "لبنانية" الآخرين لم تسقط على وعيهم دفعة واحدة بقدر ما تدرّجت وسط متغيرات داخلية وخارجية، وتوسّلت صورتها في تأويلات من كل حدب وصوب. وقبل أن يحسم اللبنانيون أمرهم في اتفاق الطائف ويتوافقون على هويّة عربية لوطنهم اللبناني النهائي، كانت هويّتهم الجامعة معلّقة وسط انتماءات شتى، تبدأ من فينيقيا وتنتهي في الغرب، أو تبدأ من العروبة ولا تغادرها، أو تنتقل بين مسيحية وإسلام، أو تنبثق كالمعجزة من أصل قائم بذاته...
بالتالي، فإن إشكالية الهويّة لم تكن محصورة بالشيعة دون غيرهم بقدر ما كانت، ولا تزال، تتعلّق بمعنى الوطن عند جميع اللبنانيين، أي الوطن الذي يتجاوز حدود النشيد والعلم وبلاغة الكلام، ويتجاوز دولة المناصفة والمثالثة والحصص والحقائب والموازنات العامة، ويعلو فوق الطوائف والمذاهب والمناطق والأشخاص.
مع ذلك، ينبغي وضع إشكالية الهويّة الوطنية خارج إطار الفرادة اللبنانية وإدراجها في مسار أزمة عامة أصابت شعوب المنطقة كلها بعد أن قذفتها الترتيبات الدولية لما بعد الحرب العالمية الأولى في آتون هويّات وطنية لاتزال، إلى اليوم، تبحث عن مشروعيتها. كما يمكن القول إن الدولة الوطنية الحديثة اختزلت مأزق الجماعة لحظة تحولّها إلى كيانات سياسية، مثلما ساهمت في تعميقه وتعقيده. "فالهويات المتعددة، ونماذجها في ثقافات محلية وعلاقات قرابة وقبائل وأقوام، لم تستتبع انفصالاً أو انحلالاً عن هويّة إسلامية جامعة، بيد أن قيام الدولة الوطنية- القطرية كان، تحديداً، تحويل الهويّة المحلية إلى "ذاتية" إلتأمت حول عناصر التاريخ الخاص دون أن تُفقد بالضرورة، ذلك الانتماء إلى هويّة جامعة. ومع ذلك، فإن ما كان سابقاً جزءاً من وحدة مصيرية أبقت "الخاص" ملتحماً بالعام ومتكاملاً معه، أضحت انفصالاً والتباساً بينهما إثر تحوّل الخاص إلى نصاب سياسي – سلطوي، أي مؤسسة قطرية قائمة جوهرياً على عناصر الاجتماع المحلي. الأمر الذي انتهى إلى وضع هذا النصاب وسط علاقة تجاذب وتناقض والتباس بين هوية إسلامية تاريخية وهويّة وطنية حديثة. فكانت "الإسلامية" قد تحوّلت من أساس تكويني لوحدة الهوية إلى إضافة فرضتها قوة العقيدة والانتماء الديني على الهويّة الجديدة. وهكذا برز المأزق في إضافة الدائم على المؤقت والعام على الخاص، وليس العكس، بحيث أصبحت الدولة الحديثة إسلامية بالدرجة الثانية، وعربية أو تركية أو باكستانية بالدرجة الأولى، ثم لم تلبث هذه الدرجة الأولى أن انقسمت على نفسها، فأصبحت الإسلامية في الدرجة الثالثة والعربية. مثلاً، في الثانية، في حين أصبح الانتماء القطري أو الطائفي أو القبلي في المقام الأول...."[1].
في هذا السياق، يندرج مأزق الدولة الحديثة بعد أن غدت مشطورة أو مشدودة إلى مرجعية ثنائية وضعت الهويّة الدينية التاريخية مقابل الهويّة السياسية القطرية، وبالتالي فإن مخاض تحويل الهوية الخاصة إلى نصاب سياسي انتهى إلى تأزيم هذا النصاب نفسه، لا سيما وأن الدولة الوطنية الحديثة وارتباط قيامها بالعوامل الخارجية لم تتمكن من قطع روابط تواصلها مع أسس النظام الفكري والعقائدي، كما لم تتمكن من الخروج النهائي على هويّتها التاريخية. فكانت نتيجة كل ذلك أن تماهت الدولة الحديثة مع أزمة هويّتها ووضعت المأزق الذي وصلت إليه اليوم.
"وقد بيّنت التجربة أن هذه الدولة لم تعمل على إضعاف البنية الانقسامية في السياسة العربية، ولكنها أنتجت على نطاق واسع وأشمل وسائل تجديد القطيعة والصراع والصدع السياسي الذي كان انهيار الإمبراطورية الدينية قد أحدثه". وبالتالي فإذا كانت الدولة القطرية قد لعبت دوراً محورياً في توليد الهوية الوطنية على المستوى السياسي، فإنها أيضاً وفي الوقت نفسه "تحيي الولاء الجماعي العربي- الإسلامي على المستوى الثقافي، وتخلق بشكل يزداد حدة شرخاً في الشعور بالهويّة ذاته..."[2].
جبل عامل وانكشاف مأزق الهوية:
يندرج وعي الاجتماع الشيعي لهويّته الوطنية في سياق تراتبية الهويّات التي تعتمل في أزمات المنطقة كلها منذ اللحظة التي تمكن فيها التدخل الأوروبي من تحويل الخلافة العثمانية إلى أوطان منثورة على أعراق وطوائف وقبائل. بالتالي، فإن مقاربة هذا الوعي الشيعي تظهر وثيقة الصلة بالمتغيرات التي أصابت الاجتماع الإسلامي العام، أكثر مما هو تعبير عن حاجة ذاتية لاجتماع أهلي فريد في أصله وفصله. بعبارة أوضح، فإن وعي الاجتماع الشيعي لهويّته اللبنانية سوف يتعرّف على خصوصيته من خلال المتغيرات التاريخية التي فرضت نتائجها عليه وعلى غيره في لبنان وفي المنطقة كلها.
تشترط المقاربة العلمية، الباحثة عن الثوابت والمتغيرات التي عرفها الاجتماع الشيعي في مساره التاريخي الخاص والذي انتهى إلى تموضعه في هويّة لبنانية – وطنية، التنقيب عن جذور هذه الهويّة في مركز الثقل الجغرافي والديموغرافي والفكري لهذا الاجتماع الأهلي. وبقدر ما يمثل جبل لبنان مسقط رأس الهويّة اللبنانية عند الموارنة والدروز، فإن جبل عامل يشكّل المجال الحيوي لحراك الاجتماع الشيعي عشية ولادة دولة لبنان الكبير، مثلما يشكّل مركز التراكم الموضعي للأحداث التي صنعت وعي الاجتماع الشيعي لانتمائه الجديد وآليات تفاعله مع المتغير السياسي الذي حطّ رحاله وأثقاله ومخاطره هناك، على ثغور جبل عامل، حيث يتقرر، ليس نوع الهويّة الجامعة لكل اللبنانيين، بل مصير لبنان نفسه. بالتالي، فإن البحث عن وعي الهوية في ثوابت ومتغيرات الاجتماع الشيعي يبدأ في جبل عامل ومنه يمتد إلى كل مناطق الاجتماع الأهلي والسياسي للمسلمين الشيعة في لبنان. ولهذا السبب بالذات، فإن استخدام عبارة الاجتماع العاملي يظهر كاختزال مكثّف للاجتماع الشيعي وهو يتلمس هويّته اللبنانية المستجدة. ففي جبل عامل، بالتحديد، ظهرت عورات الدولة المعلّقة والهويّة الملتبسة، وفي المواقف مما يجري فيه وحوله، انكشفت بصورة فاضحة أزمة الدولة ومأزق الوطن.
للمزيد من الوضوح، نشير إلى العلاقة البالغة الأهمية والحساسية التي قامت بين الدولة اللبنانية وقضية الجنوب (جبل عامل)، والتي تعود بجذورها إلى ما قبل الاستقلال عن فرنسا، إلى بدايات المشروع الصهيوني وموقع لبنان في استراتيجية "إسرائيل"، منذ إعلان قيام دولة لبنان الكبير سنة 1920 وقبل قيام "إسرائيل" سنة 1948، وإلى ما بعدهما وحتى إشعار آخر. أي أن قضية لبنان كوطن كانت قد ارتسمت في جنوبه، منذ قيامه إلى اليوم، فقد أبرزت هذه العلاقة إشكالية لبنان كوطن وتحديد العناصر التكوينية لهويّته.
"ومن البديهي القول إن الوطن يتألف من بشر توافقوا على العيش معاً في أرض واحدة، سواء أكانت هذه الأرض موطناً تاريخياً خاصاً بجماعة معينة أم تجميعاً لطوائف وأراضٍ وتواريخ حدث في لحظة توافق أهلي أو تدبير خارجي. وبمعزل عن هذين العاملين، أي التوافق الأهلي والتدبير الخارجي، وعلى الرغم من التناقضات التي سبقتهما، فإن اللبنانيين أجمعوا، بعد تردّد ورفض وممانعة عند بعضهم وقبول متحمّس عند بعضهم الآخر، وعلى مراحل متفاوتة في الزمن والحدّة، على أن لبنان الكبير هذا يشكل وطناً نهائياً لهم جميعاً. بيد أن الوطن ليس مجرد تضاريس، بقدر ما هو علاقة بين بشر وأرض وأهداف. وبالتالي، فالوطن يتشكل من حدود طبيعية واستقلال داخلي وسيادة ذاتية وعدالة مجتمعية. وهذه العناصر مجتمعة لا تشكل وطناً إذا لم يتفق أصحابه على حدوده واستقلاله وسيادته. وعلى صورة الوطن تقوم الدولة في حدودها المعترف بها من قبل الدول المحيطة بها، وفي استقلالية قرارها وسيادتها على أرضها وعدالة إدارتها للمجتمع.
ومنذ قيام دولة لبنان الكبير، كانت هذه العناصر، منفردة ومجتمعة، موضع خلاف حال دون حسم أمر الهويّة الوطنية الجامعة. وكان الجنوب بؤرة استقطاب للمتناقضات الوطنية، بحيث أن تعليق مصيره سرعان ما تحوّل إلى لغم يهدد الوطن في وحدة عناصره التكوينية المذكورة، وإلى عامل حاسم في تدعيم وحدة هذه العناصر وإستمرارها في آنٍ معاً. كما أن الدولة وجدت في الجنوب امتحاناً لتكامل وظيفتها في تعاطيها مع الوقائع التي تمس الحدود والاستقلال والسيادة والعدالة، مثلما وجدت فيه أيضاً ضخامة المسؤوليات الملقاة على عاتقها كدولة حافظة لوطن ومجتمع.
بهذا المعنى، كانت قضية الجنوب، ولا تزال، مدخلاً حاسماً لإنقاذ المجتمع من عقم الطائفية وتحصين الوطن بما يتجاوز حدود النشيد والعلم وبلاغة الكلام. فقد كان الجنوب، وهذا حاله اليوم، على تماس مباشر مع مشروع صهيوني ينطلق منه إلى صياغة جديدة لحدود الكيانات والدول المحيطة بفلسطين المحتلة (الكيان الإسرائيلي). وكان على الجنوب وحده، دون سواه من مناطق لبنان، أن يتحمّل تبعات هذا المشروع بكل احتمالاته التوسعية على حساب الوطن بحدوده وسيادة دولته. ذلك أن لبنان، كوطن، لم يعرف تهديداً حقيقياً، شاملاً وثابتاً، إلا من خلال العدوان الإسرائيلي الدائم على الجنوب واحتلاله الراهن جزءاً منه. وإذ لم يعرف هذا الوطن تهديداً مماثلاً من دولة أخرى، تسعى إلى اقتطاع أجزاء منه أو إعادة النظر في وجوده بالذات، فإن دولة ما قبل الطائف لم تأخذ هذا التهديد على محمل الجدّ ولم تبحث عن وسائل لمواجهته، أو أنها لم تنظر إلى ما يجري في الجنوب وحوله نظرة ثاقبة. فكانت نتيجة كل ذلك أن وجدت الدولة نفسها في أزمة علاقتها مع الجنوب، بما هي أزمة دولة تبحث عن وطن تحميه، مثلما كشفت قضية الجنوب عن أزمة وطن يبحث عن دولة تحميه".[3]
وإذا أخذنا بعين الاعتبار تفاصيل هذه القضية الوطنية واختلاف اللبنانيين على الأولويات الحافظة والجامعة وتوزّع الاهتمام بالخطر الإسرائيلي الوجودي بين لامبالاة أو ضعف أو حتى خيانة، فإن وعي الاجتماع الشيعي العاملي لهذا الخطر أسهم ليس فقط في تبلور هويّتهم الوطنية اللبنانية وإنما أخرج إلى العلن مكامن الالتباس في معنى الوطن وهويّته لدى اللبنانيين جميعهم ووضع أمامهم مسؤولية إعادة النظر بمفاهيمهم المتناقضة حول معنى الوطن، وبالتالي، الاتفاق على هويّة وطنية تحمي الوطن الحقيقي المهدّد بوجوده إنطلاقاً من الجنوب، بدل من اختزال الوطن بحصص الطائفة.
الثابت والمتغير في هوية الاجتماع الشيعي:
عرف الاجتماع العاملي بدايات انزياح هويّته الإسلامية عن ثوابتها في اللحظة التي تمكن فيها التدخل الأوروبي من اختراق المجال الحيوي لسلطة عثمانية بدت عاجزة أمام هذا التدخل، وتبحث معه عن تسويات وتنازلات في الأطراف تحول دون الانهيار الشامل للمركز. إلى هذا المفصل التاريخي يرجع الانكسار الأول للثابت الديني أمام المتغير السياسي، وإن لم يكن الانكسار تجديداً شاملاً ونوعياً في الهوية والوعي والانتماء، فقد سقطت على هوية الاجتماع العاملي الإسلامية – الشيعية هويّة جديدة: المتاولة. بيد أن "المتولة"، كهوية أو مشروع سياسي، لم تكن خياراً عاملياً بقدر ما كانت تسوية تحول دون انتظام الاجتماع العاملي في "طائفة"، مثلما تختزل رغبة في الحفاظ على انتماء إسلامي يحصّن جبل عامل من تداعيات الانتصار الأوروبي على وحدة دار الإسلام.
في هذا السياق، تندرج ممانعة الاجتماع العاملي في التجاوب مع متطلبات التدخل الأوروبي، أي تطوير هويّة المتولة وتمثّلها في تشكّل طائفي على غرار ما كان يحدث في الوسطين الدرزي والماروني منذ منتصف القرن التاسع عشر. بمعنى آخر، لا تشير معطيات القرن التاسع عشر ولا مؤلفات علماء أواخر ذلك القرن إلى وجود محاولات جدية ذات عمق سياسي مستقل عن الخلافة العثمانية، يتجسّد في تشكيل طائفي يركز دعائمه الموضوعية ويبحث عن حليف خارجي لكي يشرّع له الولادة التاريخية. وبينما يشهد القرن المذكور تبرعماً لمشروع طوائفي في جبل لبنان يتأسس على نزاعات أهلية دائمة وجدت حلاً لها باللجوء إلى عرّاب استعماري أوجد لها سلاماً طائفياً أخذ صيغته القانونية العثمانية في نظام القائمقاميتين، ثم العثمانية – الأوروبية في نظام المتصرفية، وأخيراً الأوروبية الفرنسية – البريطانية في اتفاقية سايكس بيكو التي أنتجت دولة لبنان الكبير الطائفي – الطوائفي من رأسه إلى أخمص قدميه. في المقابل، كان جبل عامل يمدّ الصمود العثماني بالمقاتلين، تطوعاً أو بالإكراه، ولا يخفي علماؤه والزعماء رغبتهم في وحدة إسلامية بقيادة سيئة في مقابل تجزئة وتفرقة بقيادة غرب استعماري يوزع الوعود. هذا يعني أن المرحلة الفاصلة ما بين الهزيمة العثمانية والانتصار الأوروبي لم تسفر عن انتظام عاملي في المشروع اللبناني بقدر ما كشف نزوعاً عاملياً نحو استقلالية عربية هشة عن العثمانيين، استقلالية تتضمن وحدة عربية غير متصادمة مع الإسلام. لكنها برغم ذلك، سقطت مرتين: مرة أولى لأنها خرجت عن سياق التاريخ الإسلامي العام، ومرة ثانية لأن الاستعمار نفسه تراجع عن فكرة الوحدة العربية السياسية بعد أن غذّاها في مرحلة صراعه مع الحليف العثماني.
بناء على ما تقدم، كان الدفع باتجاه انتظام الاجتماع الشيعي في طائفة شرطاً لاستقرار الترتيب الأوروبي للبيت اللبناني الجديد، أكثر مما كان نزوعاً إرادياً وقراراً حراً. وما تمكن الدفع الخارجي من تحقيقه لدى الجماعات اللبنانية الأخرى، أي الانتظام في طوائف وعصبيات طائفية، اصطدم بممانعة عاملية – شيعية وإن أوغل في تهيئة الاجتماع الشيعي لقبول الهويّة اللبنانية والانتظام في طائفة. فإذا كانت بداية الغلبة الأوروبية على السلطة العثمانية قد تمثّلت، في هذا المجال، باعتراف عثماني بنظام ملل تأسست شرعيته التاريخية على يد فخر الدين الثاني، فإنه – أي هذا النظام – بوصفه يشكل تطوراً نوعياً في علاقات المذاهب والأديان المحلية، لم يكن يتوافق مع رغبة حقيقية في الانتظام الطائفي المستقل عن شيعة جبل عامل. هذا من دون إغفال التأثير الذي أحدثه ذلك النظام على صعيد الوعي الذاتي المذهبي تحديداً. ذلك أن مسار التعامل المللي – الطائفي الجديد، الذي كان يضع الاجتماع الشيعي في جبل عامل في علاقات حقوقية وسياسية واقتصادية مباشرة مع كل من السنة والدروز والموارنة، كان قد ساهم في تأسيس الشعور بالتمايز المذهبي أكثر مما كان تكريساً لانتماء طائفي في طور النمو والتأسيس.
وبين إصرار أوروبي لاحق على إدماج جبل عامل بلبنان الكبير، وعناد العامليين على مواكبة ثورة النجف عام 1920 والتفاؤل المبكر بنجاح الشريف حسين الهاشمي، تغدو طائفية المسار الشيعي – العاملي إرهاصاً لا يعتريه شك أو إلتباس.
إذا كانت "المتولة" تسمية أوروبية لهويّة أهلية – شيعية أو كانت إرهاصاً طائفياً، فإنها لا تعني، بالضرورة، أن الاجتماع العاملي قد حسم أمره وقرر، بإرادة حرة، الانتظام في طائفة والانتماء إلى دولة ووطن، أو وجد مصلحة في إضافة هويّة لبنانية إلى هويّته الإسلامية. وإنما العكس، فقد حصل كل ذلك بالفعل، ولكن برغم أنف العامليين وعلى غير ما كانوا يشتهون ويأملون. وهنا بالذات تكمن مفارقة الاجتماع الشيعي اللبناني، مفارقة ترجع ليس فقط إلى خصوصية هذا الاجتماع وعناصر وحدته حول هوية إسلامية – مذهبية، وإنما أيضاً في معاندته على إدراج هذه الخصوصية في ممانعة تستهدف الحفاظ على الهويّة والانتماء خارج السياق السياسي- السلطوي.
يجد هذا العزوف مسوّغاته الشرعية في نصوص وتجارب ومواقف أجمعت على تأجيل السياسة إلى زمن الظهور المنتظر للإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري. هذا ما يفسّر حراك الاجتماع العاملي خارج أي أفق سياسي وترجمته في نصاب سلطوي محلي، في عمالة، أو إيالة، أو ولاية أو إمارة أو سنجقية...
بيد أن هذا كله لا يضع حراك الاجتماع العاملي في فراغ سياسي بقدر ما توسّل تحصين ذاته والهويّة على قاعدة الانتظار. بهذا المعنى، لم تكن "التقيّة" أكثر من تورية لمعارضة مشروعة وتسليحاً بالانتماء إلى دولة إسلامية واحدة، بصرف النظر عن هويّتها المذهبية أو ممارستها السلطوية. كما لم تكن "المتولة" إلا إستجابة متأخرة لحاجة العامليين إلى إدارة ذاتية لاجتماعهم الأهلي تمكّنهم من تدبير أمور دينهم ودنياهم. بالتالي، فإن مخاض الحراك الذي بدأ بالتقية وتواصل في المتولة وانتهى في الطائفة لم يكن تتويجاً لخيار عاملي بقدر ما كان انعكاساً لسياسات انهالت على هذا الاجتماع من خارجه أو فرضت عليه هيئته وهويّته: استبداد سلطوي، نظام ملل عثماني، طوائف جبل لبنان، المشاريع الأوروبية، طائفية لبنان الكبير وحروبه الأهلية الكامنة والمتكررة، المشروع الصهيوني ومطامعه في جبل عامل.
في حين أن الخصوصية المذهبية – الأقلوية قد تمثلت في وعيها للهوية الإسلامية الجامعة وفي الإنتماء لنصاب سياسي واحد (دولة الخلافة)، فإن نصابها السياسي المذهبي – الخاص والذي عرف ولادته التاريخية مع تنامي دور العائلات والزعماء، لم يستخرج نواته من طموحات سياسية متواضعة لزعماء الأسر الإقطاعية بقدر ما تأسّس على ممانعة أهلية ضد إلحاق جبل عامل وتوكيل أمره إلى قوى محلية- طوائفية لم تكن أكثر جدارة من العامليين أنفسهم. بعبارة أخرى، فإن بدايات المتولة، كبلورة أولية لتطور الاجتماع العاملي باتجاه سياسي يتجاوز التقية، باشرت في فرض منطقها انطلاقاً من المتغيرات التي أدخلتها السلطنة العثمانية على نوعية الممارسة السلطوية في الأطراف والدور المتعاظم الذي منحته للعصبيات المحلية.
مع ذلك، لم تتجاوز "المتولة" الحد الأدنى من اجتماع سياسي خرج من رحم ممانعة مشروعة، ولم تأخذ شكل الاجتماع السياسي الناجز، أي طائفة مثل باقي الطوائف، إلا عندما أصبح جبل عامل جزءاً من دولة لبنان الكبير. كما أن مجرد الانضمام إلى هذه الدولة لم يكن كافياً لتحويل المتولة إلى طائفة. إن الدولة اللبنانية نفسها، منذ أن أصبحت بؤرة استقطاب لطوائف الكيان، هي التي دفعت المتولة إلى نصابها الطائفي، وهو النصاب الأخير من أنصبة الطوائف التي قامت الدولة على توليفها ودمجها في كيان تنافسي وضع قراره في مكان آخر.
هكذا ساهمت دولة لبنان الكبير في إيصال المأزق العاملي إلى ذروته. فالاجتماع الأهلي- الديني أبقى العامليين خارج الشأن السياسي العملي الذي أبعدتهم عنه "التقية" حفاظاً على استمرارية "المذهب"، بينما جاءت "المتولة" إرهاصاً لاجتماع سياسي لم يطمح إلى الاإندماج العضوي في مؤسسات الدولة. أما "الطائفة" فهي الصياغة الراهنة لشروط الاندماج في الدولة، كشركاء في إدارتها وتعيين سياساتها. وهنا بالذات حدث الانتقال النوعي في الاجتماع العاملي كما لم يحدث على الإطلاق في مرحلتي التمذهب والمتولة. هذا ما يفسّر، تحديداً، إجماع العامليين حول المذهب والمتولة كتعبير عن ممانعة وقائية في مواجهة دولة لم تكن "دولتهم"، ويفسّر أيضاً اختلافهم على الموقف من اندماجهم في دولة تركت لهم مكانة وحصّة. ولم يكن الاختلاف أكثر من تموضع تاريخي لمأزق الانتقال، وهو المأزق الذي سعى العامليون إلى الخروج منه بالبحث عن دولة عربية أو سورية تبقيهم في تواصل انتظارهم لدولتهم التي لم يحن أوانها بعد...[4]
الهوامش
[1] راجع بهذا الخصوص دراستنا المنشورة بعنوان: لبنان الكبير ومأزق الإجتماع العاملي، مجلة المنطلق، العدد 104، بيروت، آب 1973، الصفحة 70.
[2] برهان غليون: الدولة والدين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1991، صفحة 9. وحول تأثير الهوية على الشخصية العربية –الإسلامية، من المفيد مراجعة الصفحات 33-51 من كتاب هشام جعيط: الشخصية العربية الإسلامة والمصير العربي، دار الطليعة، بيروت، طبعة 1990.
[3] علي الشامي: جنوب لبنان في مواجهة العدوان الإسرائيلي، مجلة دراسات لبنانية، منشورات وزارة الإعلام، العدد الأول، نيسان 1996، الصفحات 157-158.
[4] للمزيد من التفاصيل، راجع دراستنا حول لبنان الكبير ومأزق الإجتماع العاملي، مرجع مذكور سابقاً، الصفحات 73-74.