تفاعُلنا مع عدي التميمي: ثقافة رقمية خاصة؟
سنُحاول في هذه المقالة استعراض ملامح ثقافة التفاعل في الفضاء الافتراضي مع عملية عدي التميمي، عبر دراسة تفاعل الجمهور مع التميمي كنموذج اشتمل على عدد من الأساليب ذات دلالة.
تشهدُ ميادين فلسطين بصورة خاصة، وجبهة المقاومة على امتداد الجغرافيا العربية والإسلامية عموماً، سلسلة أحداث كبيرة تجاوزت مخيّلة العدوّ الإسرائيلي في تقديرها استخبارياً. في المقلب الآخر، جمهور محورالمقاومة يُشاهد الانتصارات والعمليات البطولية ويتفاعل معها بأساليبه الخاصة في الفضاء الافتراضي كما في الواقع الحقيقي.
آخرُ هذه العمليات وأكثرها دهشةً وتفاعلاً على مواقع التواصل الاجتماعي كان استشهاد الشّاب الفلسطيني عدي التميمي بنيران العدو في أثناءإطلاقه النار - حتى الرّمق الأخير - على مدخل مستوطنة معاليه أدوميم، بعد نجاحه في التخفّي مدة 10 أيام عن أعين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية عقب تنفيذه عمليته الأولى على حاجز شعفاط.
بدأت سيرورة تشكّل المعاني والدّلالات حول استشهاد التميمي في الفضاء الرقمي عند لحظة بثّه كـ "حدث مُصوّر" شابَهَ كثير من مشاهد "الأكْشِن" في الأفلام السينمائية الباهرة.
انتشر الفيديو على مواقع التواصل، وصار أكثرها تداولاً في العالمين العربي والإسلامي، وَلَّدَ في إثره حركة تفاعلية لافتة، متنوّعة في أساليبها وآلياتها، ما يدفعنا إلى الحديث عن ثقافة رقمية خاصة بتفاعلنا مع الشهادة والشهيد.
قد تجد أحد هذه الأساليب التي سنأتي على ذكرها مُتحققةً في أحداث مشابهة مُسبّقاً، إلا أنّ الفريد في التفاعل مع استشهاد التميمي هو اجتماع كل هذه الأساليب السابقة واستحداث أساليب جديدة.
في هذه المقالة، سنُحاول بإيجاز استعراض ملامح ثقافة التفاعل مع حدث الاستشهاد في الفضاء الافتراضي، عبر دراسة تفاعل الجمهور مع استشهاد التميمي كنموذج اشتمل على عدد من الأساليب ذات دلالة.
التميمي خارج الزمان والمكان
في اللّحظة التي نُشِرَ فيها فيديو عملية التميمي ولحظة استشهاده في الفضاء الافتراضي، صار مُلكاً للجمهور. كل فئة تلقّفته وأعادت نشره على حساباتها بأسلوبها الخاص. ثمة من أعاد نشر الفيديو، مُرفقاً بنصوص تعبيرية وجدانية، تصلُح أن تُجمَعَ في مُعجَم يَضمّ بين دفّتيه ثروة تعبيرية من أدبيات البيئة الشعبية الخاصة بقيم البطولة والشهادة ودوافع الجهاد وأثره في صنع الانتصارات. وهي قيم تشكّل بدورها خريطة مفاهيمية تكشف عن عقيدة وذهنية خاصة بالعقل الجمعي لجمهور المقاومة.
وإن كان كثير منا فَعَّل مُخيّلته في إِنْطاق الفيديو الصامت بصوت زخّات الرّصاص وعَويل العدوّ، إلا أنّ هناك من أَنْطَقَه عبر إضافة أناشيد ثورية تُحاكي فعل الشهيد البطولي. وكأنه فعلٌ ينتمي إلى ماضي الثورة الفلسطينية والانتفاضة الأولى والثانية، ويُنبئ بمستقبل التحرير القريب.
في الجهة الموازية، اتّخذت فئةٌ من المُصمّمين الفنّيين منحىً آخر في تفاعلها مع حدث الاستشهاد. اتّجهت سريعاً نحو صبغ الفعل البطولي بصبغة الخلود. أخرجت الشهيد التميمي من القيد الزماني والمكاني للفيديو وحرّرته لتبقيه حاضراً، يخترق الزمان والمكان ليشمل التاريخ عبر تمثيله بأيقونة [1].
اكتسب حساب التميمي الخاص على "فيسبوك" وظيفة اجتماعية جديدة. إذ تحوّل إلى "ضريح افتراضي"، يقصده الجمهور لاستكشاف بطله الجديد، وليؤدّي له مراسم التكريم والتبريك بشهادته عبر تسجيل تعليقاتهم وكأنها تدوينات في سجلّ الشرف.
كان لافتاً تنوّع الأيقونات في تمثيل وضعية جسد التميمي، وفي ذلك دلالة على أنّ كل حركة من حركاته خلال أدائه "رقصة الحرب" قابلة للتخليد لِما تحمله من معانٍ مرتبطة بالقيام والجهاد والبطولة. إلى ذلك، عزّزت مُحاكاة أيقونة التميمي بعناصر معبّرة عن أثر شهادته في المستقبل البُعدَ الدّيناميكيّ في الأيقونة. وهو بُعدٌ يكشف عن دورة اشتغالها المستمرّ في سياق تبشيري. ( نقصد بالعناصر الإضافية على سبيل المثال: حمل المسدس، وهو في كفنه للتعبير عن حمل البندقية من بعده/ رَسْم وجوه عدّة طبق الأصل عنه إشارة الى الاقتداء به والسير على نهجه).
بدورها، تحرّرت "أيقونة التميمي" من الفضاء الافتراضي وحطّت سريعاً على جدران مخيم برج البراجنة في لبنان. والرسم على الجدران عملية تواصل اعتادها الفلسطينيون خارج فلسطين لبناء فضاء موحّد، مُوازٍ للفضاء العام الافتراضي بل وسَابق عليه، يَصون الذاكرة الشعبية الفلسطينية المؤمنة بالعودة إلى الوطن.
لم تنتَهِ رحلةُ الفيديو بأَيْقَنَة الشهيد التميمي في الواقع الافتراضي، إنما أكمل دورته في تبيان أثره السريع بإعادة محاكاته بفيديو آخر يؤدّي فيه أطفال مخيم العروب في مدينة الخليل مشهداً تمثيلياً لحدث الاستشهاد. فكما وُلدت نسخ طبق الأصل لصلعة التميمي خلال مطاردته من العدوّ، سيُعاد فعل التميمي مجدداً على يد شباب اليوم وأجيال الغد. هنا تحرّر فعل الاستشهاد من زمان حدوثه ومكانه، وصار رسالة موجهة إلى العدوّ بتأكيد تحقّق فعل التميمي مجدداً في المستقبل.
هذا هو سحر الأيقونة المستمدّ من سحر الفعل البطولي الذي تخلّده: اختراقها الزمان، وتجاوزها الحدود، واشتغالها المستمر بالمعاني والقيم، وتأثيرها المُتَّقِد في الأجيال الصاعدة.
"فيسبوك" التميمي: دلالات جديدة ووظيفة مُغايرة
في الثقافة الرقمية السائدة، يفقد المنشور قيمته الدلالية مع تقادم الزمن. سقط هذا الاعتقاد باستشهاد التميمي الذي أعاد منشورات سابقة كتبها على صفحته على "فيسبوك" إلى دورة الحياة من جديد، بدلالات أقوى وبوظيفة مغايرة.
"لَم وَلَن نَخشى عَوآقِبَ أَيِّ شَيْء. أَلْوَيلُ لِمَن يَعْتَقِدُ أَننا انتهينا"، هو المنشور الأخير الذي كتبه التميمي على صفحته. وإن كان موثقاً في نظام الشبكة بأنّ المنشور كُتب في 16 أيلول/سبتمبر 2022، إلا أنه كدلالة تحمل معنى وقيمة - تقاطع مع الأزمنة الثلاثة: الماضي تحقّق لحظة كتابة التميمي المنشور. أما الحاضر فشَهِدَ على تقديم التّميمي مصداقاً عملياً لمنشوره عبر تنفيذه عمليتي إطلاق نار على العدو. وأخيراً المستقبل يرتبط بخلود منشوره إثر تحوّله إلى شعارٍ تداوله الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي.
بمعنى آخر، صارت منشورات التميمي التعبير الواضح والصريح عن فعله البطولي، كما كان الفيديو الموثّق لفعله البطولي المصداق العملي لمنشوراته. فَعلَ التميمي ما يسألنا عنه "فيسبوك" كل يوم what’s on your mind?[فيمَ تُفكّر؟ ]. وهذه ملاحظة أشار إليها كثير ممّن علّقوا على منشورات التميمي بعبارات مثل "صدقت ووفيت؛كلام وفعل؛ حصل والله حصل؛ وَعَدْتَ فَأَوْفَيت".
بعد استشهاده، اكتسب حساب التميمي الخاص على "فيسبوك" وظيفة اجتماعية جديدة. إذ تحوّل إلى "ضريح افتراضي"، يقصده الجمهور من مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي لاستكشاف بطلهم الجديد، وليؤدّوا له مراسم التكريم والتبريك بشهادته عبر تسجيل تعليقاتهم وكأنها تدوينات في سجل الشرف [2].
اتجهت فئةٌ من المُصمّمين الفنّيين سريعاً نحو صبغ الفعل البطولي بصبغة الخلود. أخرجت التميمي من القيد الزماني والمكاني للفيديو وحرّرته لتبقيه حاضراً.
ولما كان الجمهور الناشط في الفضاء الافتراضي يسعى دائماً للتمثيل الرقمي لأي ظاهرة مجتمعية، كذلك صُنع في حالة استشهاد التميمي. خُلِقَ له وجودٌ رقميٌ عبر إنشاء صفحة له لنشر التصاميم الفنية والقصائد والنصوص النثرية التي قيلت فيه.
أول مادة نُشرت في هذه الصفحة، بعد الفيديو، كانت وصيته التي كتبها في 11 تشرين الأول/أكتوبر 2022.تُعدُّ وصيّة التميمي وسيلة تواصل مكتوبة بيننا وبينه، حدّثنا فيها قليلاً عن حاضره ونبوءته بالاستشهاد، وخَتَمَها بوصية للشباب الفلسطيني ناصحاً بحمل البندقية من بعده لتحرير فلسطين.
وبذلك، تحوّلت الوصية من مجرّد نص مكتوب موجّه إلى المتلقّي [المرسل إليه] إلى علاقة تواصلية تفاعلية مستمرة بين البطل النّموذجي والشباب السائرين على نهجه، يكون رَجْعُ الصدى [3] فيها صوت زخّات الرصاص في قلب العدوّ.
يُوَلِّدُ حدث الاستشهاد المُصوّر في الفضاء الافتراضي سيرورةً متكاملةً لامتناهيةً من المعاني والدّلالات، يتلقّفها الجمهور ويُعيد تسميتها بأدبيّاته وتعابيره اللّغوية، ويَجْتَرِحُ منها أيقونات لتخليد الشهيد وتحرير فعله من سياقه الزماني والمكاني المحدود ليملأ فضاء التاريخ والمستقبل.
إنها دورة النّضال في عصر ما بعد الحداثة: تبدأ بفعل بطولي في أرض الواقع، ثم تمتدّ إلى الفضاء الافتراضي حيث ساحة تداول المعاني والتمجيد ومحاولات التخليد، لتعود مجدداً إلى الميدان لإحداث الأثر المدوّي.
الهوامش
[1] الأيقونة: هي تعريب لكلمة يونانية تعني الصورة، أو الشّبه. ونقصد بالأيقونة هنا الصورة التي تظهر فيها شخصية نموذجية، الهدف منها تخليد هذه الشخصية كنموذج تقتدي به الأجيال الصاعدة. وعندما نقول "أيقنة الشخصية"، أي تمثيلها بأيقونة.
[2] سجل الشرف: كتاب يُوضع في صرح الشهيد، يُدوّن فيه الزائرون تعليقاتهم للتعبير عن تمجيدهم للشهيد وعهدهم له بمواصلة دربه.
[3] رجع الصدى: ترجمة عربية لكلمة feedback، وهي إشارات يتلقّاها المرسل من المرسل إليه كدليل على استجابته التفاعلية في العملية الإتصالية.