تجارة الحرب في البنتاغون (2 - 2)
إن مقتل أكثر من 50 ألف شخص حتى الآن في غزة، يعادل تقريباً 900 مرة الخسائر البشرية الأميركية الناجمة عن هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.
فيما يلي الجزء الثاني من مراجعة كتاب "فهم صناعة الحرب" للكاتب "كريستيان سورنسن" الذي يقدّم خلاصة معلوماتية موسوعية تربط ما بين صناعة الحرب والاقتصاد الأميركي الكلي وسياسات واشنطن الداخلية والخارجية في مختلف المجالات
صناعة الحرب وتبرير الحماية
يقول صاحب كتاب "فهم صناعة الحرب" كريستيان سورنسن: بعد الخوف وبفضله يأتي دور صناعة الحرب التي تؤازر الجشع. وهذا أمر سهل بخاصة وأن الحلفاء الأثرياء ــ زعماء الدول الغنية بمواردها النفطية خصوصاً ــ يدركون هشاشة مواقعهم أمام شعوبهم والدول المجاورة، فينقادون بسهولة لتلبية نداء الدفاع عن سلطانهم وهيمنتهم من خلال تمويل الحرب والمشاركة في شنّها. ومع هذين الخوف والدفع إلى الحرب، تصبح حمايتهم أمراً مطلوباً. وهنا تكون الإدارة السياسية ــ الأميركية ــ حاضرة لبيعهم الحماية مقابل المال. "فطالما كان صاحب السلطة يريد الانتفاع من تقديم خدمات الحماية، فليس للرافضين إذاً سوى أن يفسحوا له الطريق. من هنا فالحكومة المهيمنة ــ وهي الأميركية بالطبع ــ تنخرط حقيقة في مشروع تجاري لبيع الحماية… سواء أرادها الناس أم لا".
وللمزيد من التوضيح يتابع الكاتب، "الحماية هنا تستدعي معنى الإتاوة، وهي ما يفرضه "البلطجي" على المهرّبين كي يأمنوا الضرر، هذا الضرر الذي يهددهم به الرجل ذاته الذي يقوم بحمايتهم".
الخطر والوقاية منه
والواقع، والكلام للكاتب، فالدولة الأميركية هي الشخص المعنوي الذي يكون مصدراً لكلّ من الخطر والوقاية منه. فهي الأقدر على توفير الحماية اللازمة ضدّ كل من البلطجيين المحليين والناهبين الخارجيّين.
وهذا لا يخرج عن مجريات تاريخ قيام الدولة في الغرب الأوروبي عموماً، على الرغم من خروجه عن المنطق السليم. فمن دراسة التجربة الأوروبية خلال القرون القليلة الماضية، يتبيّن أنّ صانعي الحرب وبناة الدول كانوا مقاولين للقوة الجبرية، ويسعون لمصالح ذاتية. وهذا اعتبار مقارب للحقيقة أكثر من التصوّرات البديلة، مثل فكرة العقد الاجتماعي، أو فكرة السوق المفتوحة. والدراسة العميقة لهذه التجربة تكشف كيف أن الاستغلال القسري أدّى دوراً كبيراً في بناء الدولة في القارة العجوز.
ومن الشائع أن يقوم المدافعون عن الحكومات المهيمنة بتصوير أن هذه الحكومات توفّر أفضل عرض حماية من العنف المحلي ومن الخطر الخارجي، وأن يزعموا أن ثمن هذه الحماية بالكاد يغطّي تكاليفها، ويطلقوا على من يتشكّى من ثمن هذه الحماية لقب "مخربين وإرهابيين". وبهذا يكون البلطجي جاني الإتاوة هو الشخص الذي يخلق التهديد، ثم يجعلك تدفع من أجل تقليص هذا الخطر. وهناك فارق أساسي بالطبع: فالبلطجي يعمل، بالتعريف الدارج، من دون القداسة التي تتمتع بها هذه الحكومات. وهنا فالحماية التي توفّرها الحكومة الأميركية غالباً ما تكون ــــــ وفق هذا المعيار ـــــ مؤهلة لأن يطلق عليها اسم بلطجة. وطالما أن المخاطر التي تحمي منها حكومات الدول التابعة، مواطنيها، هي مخاطر متخيّلة أو نتيجة لنشاط الحكومة ذاتها، فإن هذه الحكومة تنظّم جني إتاوات بالبلطجة. وما دامت الحكومة الأميركية تحفّز تهديد الحرب الخارجية أو تختلقه، والنشاطات القمعية والاستخراجية التي تقوم بها تمثّل عادة التهديد الحقيقي الأكبر على المواطن، فإن الكثير من هذه الحكومات التابعة إذاً تُدار تماماً بطريقة البلطجي جاني الإتاوة.
ومن المناسب التذكير هنا أنه بالعودة إلى "نيكولو ميكافيلي" و"توماس هوبز" يدرك المراقبون السياسيون أن الحكومات، وبغض النظر عن الأمور الأخرى التي تقوم بها، تنظّم وتحتكر العنف أينما استطاعت، تماماً على طريقة حماتها الأميركيين.
والتمييز بين القوة "الشرعية" و"غير الشرعية" لا يصنع أي فارق في الحقيقة؛ فإذا كانت الشرعية تعتمد على الامتثال لمبادئ مجردة أو على قبول المحكومين بها، فهذه الاشتراطات تأتي لتبرّر بل وربما لتشرح النزعة الحكومية لاحتكار القوة، من دون أن تتعارض معها.
وهذا ما يُبيّنه التاريخ كما قال فيرناند برادل (Fernand Braudel) "فخلف كل قرصان أو بلطجي مدن أو دول- مدن" في القرن السادس عشر، كان يقف إقطاعي قوي". ويتكرر ذلك في تاريخ نشأة الدولة الأميركية حيث كان الحاكم يتكئ على عالم الخارجين على القانون – الغانغستر ــ لتثبيت سلطانه. ومن الطبيعي بالتالي أن يصبح أمر إشاعة السلام والاحتواء والتخلّص من الخصوم المشاكسين لصاحب السيادة، مشروعاً رائعاً ونبيلاً في ظاهره يجلب السلم للشعب. إلا أنه في الواقع ينبع بشكل حتمي من منطق القوة والهيمنة. ويتفق ذلك مع ما قاله المؤرخ الاقتصادي فريدريك لين (Frederic Lane) قبل ربع قرن من أن "الحكومات تنخرط في مشروع تجاري لبيع الحماية، وبالتالي فإن إنتاج العنف والتحكّم به يفتح الباب للاحتكار"...
يعتبر هذا الكتاب استثنائياً من حيث دقة البحث وشمولية المعرفة، ولا سيما من حيث العلاقة المصلحية الوثيقة بين واشنطن و"تل أبيب"، وأساساً بين الخوف من الحرب وجني الإتاوة، وبالتالي فهو خطوة كبرى في الاتجاه الصحيح لمواجهة نفوذ وزارة الحرب الأميركية.
وهذا يتفق تماماً مع ما نشرته مجلة "موذر جونز" الأميركية منذ أسابيع من أن "دعم بايدن غير المشروط لإسرائيل في شن عدوانها الحالي على غزة، وهو واحد من أكثر حملات القصف تدميراً في التاريخ الحديث، وضع واشنطن على خلاف مع معظم العالم وأجزاء كبيرة من قاعدتها السياسية. ومع ذلك لم تظهر الإدارة الأميركية حتى الآن إلا بطئاً واضحاً في التراجع عن دعمها القوي لـ "إسرائيل". وبايدن نفسه القائل ذات مرة بحسب الصحيفة: "من الممكن أن تدخل إسرائيل في معركة بالأيدي مع أميركا، ومع ذلك سنظل ندافع عنها". فالولايات المتحدة تعاني من عقدة التعاطف الغريزي مع إسرائيل مقابل عدم الاهتمام بالفلسطينيين، ولديها وجهة نظر عفا عليها الزمن حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهي أن السلام لن يأتي إلا من عدم وجود اختلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة".
إلا أنّ الرئيس الأميركي المتشدّد في دعمه للكيان الإسرائيلي، نسي أن يقول إن مقتل أكثر من 50 ألف شخص حتى الآن في غزة، يعادل تقريباً 900 مرة الخسائر البشرية الأميركية الناجمة عن هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.