تجارة الحرب في البنتاغون (1- 2)
يرى الكاتب أن إسرائيل بواقعها المميّز من الصهيونية، حظيت باهتمام مركزي من قِبل الإدارات الأميركية.
أبرز ميزات كتاب "كريستيان سورنسن" الجديد أنه يقدّم خلاصة معلوماتية موسوعية تربط ما بين صناعة الحرب والاقتصاد الأميركي الكلي وسياسات واشنطن الداخلية والخارجية في مختلف المجالات، إلى مركزية "إسرائيل" وسط كل ذلك. كما يوفّر كمّاً هائلاً من المعلومات التي تدعم وتعزز بياناته، والتي لا تشكّل برأي الكاتب، سوى النذر اليسير مما هو متوفّر.
السلطة والجشع والخوف
يدور الكتاب في مجمله حول الشركات والأرباح والجشع و"إسرائيل" والعولمة. ولهذه الأخيرة يفرد الكاتب اهتماماً خاصاً، إذ إنها برأيه الطريق العريض الذي تفتتح القوى الرأسمالية الأميركية من خلاله مختلف الأسواق الخارجية أمامها، وقد جعلتها تتطلّب التنقّل الحرّ لرأس المال (وليس للأفراد)، واستخدام العمالة الرخيصة حول العالم، واستغلال الموارد الطبيعية على أراضي الآخرين وفي باطنها. وبالتالي يعملون لها كي تنتهي إلى صهر الثقافات المتنوعة عبر فرض السلع والخدمات الموحّدة لتلك الشركات، مع ما يحمله ذلك من تبعات، أبرزها الهيمنة على دورة الاقتصاد العالمي وضمان الربح. وبالتالي فالكاتب يرى أن صناعة الحرب هي استراتيجية الولايات المتحدة للقرن الحادي والعشرين.
يهتم الكاتب بإظهار الوجه القبيح للعولمة الذي يراه يتمثّل "بتغلغل المال والسلطة في كل مفصل من الشؤون الأميركية وبالتالي العالمية". يقول إن "سلطة الشركات، المحلية والأجنبية، توظّف أعداداً كبيرة من الأشخاص في اللوجستيات والتوريد والبيانات وغيرها من مقتضيات العمل، بما يفوق ما يورده البنتاغون والخدمات العسكرية من مقاتلين فعليّين، ويشكّل المرتزقة المأجورون وطواقم الشركات القسم الأكبر من الإمبراطورية العسكرية الأميركية".
وزارة الحرب الأميركية
بصراحة قاسية يقول "سورنسن" ما مؤدّاه: "أرى أن وزارة الحرب ـــــ وزارة الدفاع ـــــ هي هيئة قائمة على الاحتيال والتبذير والاستغلال. وبفضل نزعتها الطاغية لاحتكار العنف تصبح مزاعمها لتقديم الحماية للدول التابعة، أكثر مصداقية وأكثر صعوبةً من أن تُقاوَم. من هنا فالحجة المشذّبة تشدّد على الاعتماد المتبادل بين بناء الدولة وصناعة الحرب. والتماثل بين هاتين العمليتين وبين ما نسميه ـــــ حينما يكون أصغر وأقلّ نجاحاً ـــــ الجريمة المنظّمة يشكّل بقية تفاصيل الصورة. وهذا هو تماماً ما تمارسه الدولة الأميركية.
وتتميز الوزارة بالضخامة بحيث لا يمكن لأي معيار أو آلية داخلية الإحاطة بها... ويعلم كبار مدراء الشركات أن وزارة الحرب هذه هي كناية عن مال الرشاوى الموقوف لطمع وجشع هذه الشركات، وتعرف الإدارة أنها هي من يدير العرض.
وفي سياق عرضه يرى الكاتب أن "إسرائيل بواقعها المميّز من الصهيونية، حظيت باهتمام مركزي من قِبل الإدارات الأميركية... فالولايات المتحدة عشقت منذ عقود دولة الفصل العنصري، بحيث أن الفكر السياسي الحاكم والمتواصل عبر تاريخ أميركا المعاصر، كان يرى دائماً ضرورة دعمها وحمايتها بكل السُّبُل".
وفي هذا الفضاء فإن شركات الحرب في الولايات المتحدة "لا تأبه بموت الأبرياء، ولا تتردّد في فعل أيّ أمر لحماية "إسرائيل" وجعلها الأقوى في المنطقة. لذا تساعدها مهما ارتكبت ولا يرف لها جفن لموت الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والمصريين والعرب عموماً... ذلك عندما تولّد الحرب الأرباح، فإن القتل يتيح للشركات المسيطرة قاعدة عريضة للربح. ومن الواضح أن صناعة الحرب والاستخراج ومراكمة رأس المال، وحماية "إسرائيل" تفاعلت جميعها معاً في تشكيل ملامح الدولة الأميركية. فهذه تعتبر أن الوضعية العسكرية العدائية الموروثة في الصهيونية، قيمة استراتيجية لها… وهو ما أباح للعدوانية الإسرائيلية الذهاب بعيداً في قتل العرب بفعالية، مستخدمة الأسلحة والطائرات التي اشترتها من الشركات الأميركية"... والتي سددت أثمانها الإدارة الأميركية بطبيعة الحال.
وبينما يربط المؤلف بين مختلف القطاعات والشركات والجامعات والساسة المتعاونين مع وزارة الحرب، يقوم بعرض بعض الأفكار الأساسية التي تعمل سياسة واشنطن من خلالها، ومن أكبرها المال والسلطة وكيفية تغلغلها في كل مفصل من الشؤون العالمية. وهذا يرتكز بشكل رئيسي على القيم المتحكمة بوزارة الدفاع الأميركية.
والواقع أن الحجم الكبير والانتشار الشامل لبراثن وزارة الحرب يتحكّم بجميع مظاهر السياسة الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة. وتحافظ أفعال "الباب الدوّار" بين المؤسسات العسكرية والشركات والإدارة السياسية، على ضبط التوجّه والغاية والسلطة والجشع والسيطرة الكلية على الأمة وعلى الدول التابعة. من هنا فالوزارة تتدخّل بشكل مباشر أو غير مباشر في كل مظهر من مظاهر الاقتصاد الأميركي. وما لم تتوقّف دوافعها التربّحية الفَضّة، فإن التقدّم الفعلي نحو بيئة عالمية مسالمة ومتعاونة، سيكون مستحيلاً.
لذلك يتعيّن الانتظار لغاية انهيار الدولار الأميركي عبر التضخم المرتفع وخسارته قيمته وبالتالي قوته. قد تكون تلك العملية بعيدة الأمد لكنها ليست مستحيلة. فالعملات الورقية على مرّ التاريخ كانت تعود دائماً إلى قيمتها الأصلية التي لا تساوي شيئاً. من هنا فالتهديد الحقيقي للدولار يبقى محلياً وعالمياً في آن واحد، ومرتبطاً بالشركات العاملة التي ليس عليها سوى أن تصنع وتبيع للملاعب التي هيّأتها لها الإدارة السياسية.
الحلّ
الحلّ البارز الذي يطرحه الكاتب لهذه المعضلة هو "العمل على إسقاط الدولار من خلال الوصول إلى مرحلة مرتفعة من التضخّم، ما يفقده قيمته ويحرم وزارة الحرب من تأثيراتها ونفوذها المتمثل بالواردات والتسليح والرشاوى والفساد والتوظيف المغري وغيرها. وهذه ليست بالمهمة السهلة أبداً، لكنها الهدف الذي ينبغي العمل على تحقيقه".
لكن هذا ليس بالأمر الميسور. يقول الكاتب: "علينا أن نطرح التساؤلات حيال التربّح قبل أن نحدث أي تغيير أو تقدّم في هذا المجال... هناك العديد من الأفعال والقيم النبيلة التي يمكن استخدامها لمواجهة نفوذ وزارة الحرب. ولكن للأسف لا تساعد الأخبار الرائجة حول الحالة الراهنة للاقتصاد على إنهاء الموقف الأساسي لسلطة الدولار الأميركي والقادر على إقناع الشركات والأفراد. لذا يجب العمل على إظهار أن القوة العسكرية والدولار ليسا الحل النهائي المضمون لجميع المشاكل".
ويتحدث "سورنسن" عن مشروع حل رديف يتمثّل بتعطيل التواصل الإلكتروني. فهو يرى أن استخدام الحواسيب بمظاهرها كافة، ابتداء بالتواصل البسيط عبر البريد الإلكتروني، مروراً بالتشفير والذكاء الاصطناعي والاستخبار عن بعد، والمجسّات وأدوات المراقبة والتعاملات المصرفية وغيرها، أصبح الأداة الأكثر أهمية لوزارة الحرب. ومن هنا تقوم "غوغل" و"فيسبوك" و"مايكروسوفت" و"آبل" وغيرها من شركات التواصل ــ وكلها أميركية ـــــ والأكاديميون المتخصصون، بتشجيع تلك التكنولوجيا وتطويرها وتسخيرها لخدمة العملة الخضراء. والمعنى أن تعطيل التواصل يخدم خطة إقفال مجالات العمل أمام وزارة الحرب.
وفي الحقيقة يبدو أنه "كلما زاد تواصلنا، تزادد هشاشتنا". لذا يمكن أن يقوم الحل على تصنيع وابتكار توترات بين القوى العالمية، يمكن أن تتسارع وتنفجر في شكل معركة حقيقية، بحيث يؤدّي ذلك إلى تعطيل التواصل الإلكتروني وإيقاف المعركة. لكنّ هذا أمر مُغرق في نوع عقيم من التفاؤل الافتراضي. لذا فهو ليس حلاً، يقول الكاتب.
ويتبيّن أن هذا يتفق مع ما استنتجه مبكراً الرأس المدبّر للإدارة والدولة العميقة، فرأى ضرورة العودة إلى دأبه الأول وهو إشاعة الخوف وصناعة الحرب وتقاضي الإتاوة مقابل الحماية. فالطريقة مُجرّبة وناجحة.
إشاعة الخوف كبداية
الخوف أولاً وهو الفكرة الأساسية الأخرى التي يستعرضها الكتاب، ويجد أنها "تستخدم للمحافظة على مطالب وزارة الحرب بالمزيد والمزيد من الأموال". ذلك أنها كآلية تعامل مع الأتباع، تشجّع الصراع على السلطة في البلدان التابعة. وهذا أمر بالغ الأهمية من منظور الشركات المهتمة بالربح تحت شعارات نشر الديمقراطية الزائفة". وبالنهاية يحقّق مصالح الشركات التي تبيع وتربح في مواسم الحروب التي "تبتكرها"، ما يفوق الخيال.
يستخدم الخوف كعامل محدد للآخر ــ الأفراد المختارون واللازمون كأعداء ــ للمحافظة على مدّ وزارة الحرب بالأموال. فالشركات التربحية ترى في الصراع على السلطة أمراً مذهلاً من منظورها لمجرّد أنه يفتح أمامها أبواب الربح (بصرف النظر عن الخسائر الهائلة التي قد يتسبّب بها للآخرين). ثم يأتي التوجّه الاقتصادي للدولار الأميركي ليتابع المهمة. "فالاقتصاد الأميركي كما هو معروف، يرتكز على قيمة الدولار باعتباره عملة الاحتياط العالمية. وتكمن جلّ قوة الدولار في علاقة الولايات المتحدة بالدول النفطية وإعادة تدوير البترودولار: يُسعّر البترول بالدولار، ومن ثم تستخدم تلك الدولارات لشراء المعدات العسكرية من الشركات الأميركية لصالح الدول التابعة التي تجري محاصرتها بالخوف... ومن ثمّ يجري إدخالها في حروب صُمّمت خصيصاً من أجلها...".
وهنا ملاحظة استطرادية. إنّ ما لا يُلقى الضوء عليه هو حقيقة أن الاقتصاد الأميركي لم يتعافَ بشكل كامل من الأزمة الاقتصادية الناشئة عامي 2008–2009، عندما قام البنك الفدرالي (وهو بنك خاص بالرغم من التسمية الخادعة) بضخ تريليونات الدولارات في البنوك وغيرها من الشركات للحيلولة دون إفلاسها. لذلك ينبغي أن تأتي أموال الدول التابعة التي تدفعها لشراء السلاح والحماية كي تغذّي هذا الاقتصاد وتمنحه المزيد من الامتلاء والسلطة. وهذا ما تصنعه إشاعة الخوف لدى حكّام الدول التابعة ورغبتهم المُطلقة في البقاء على عروشهم، بحماية سلطان واشنطن العالمي.