"الوطن" العاملي: الأرض المستباحة (2)
عرف الجنوب اللبناني تسميات متعددة جاءت تجسيداً للمتغيرات السياسية – السلطوية التي عرفها الاجتماع العاملي.. كيف حصل ذلك؟ وما مبرراته؟
إذا كان "وطن" العامليين – جبلهم ومسقط رأسهم ومركز ثقل هويّتهم ووجودهم وتاريخهم – قد عرف تسميات متعدّدة (جبل عامل، بلاد الشيعة، بلاد بشارة ، بلاد المتاولة، جنوب لبنان)، فإن تعدد أسمائه لم يكن توصيفاً ذاتياً، كما لم يكن تحقيقاً لرغبات "الآخرين" في إطلاق النعوت وإبتكار الأسماء، وإنما كان تجسيداً للمتغيرات السياسية – السلطوية التي عرفها الإجتماع العاملي وبرّرت تعدّد أسمائه.
ففي حين تلازمه "العاملية" بما هي أصل ونسب، فإن "شيعيته" أعقبت مجاهرته بخياره المذهبي – المعتقدي وسادت منذ القرن التاسع الميلادي، وإن "بلاد بشارة" ارتبطت باندراجه في سلطة الأيوبيين بعد هزيمة الفاطميين في القرن الثاني عشر الميلادي، وكذلك "بلاد المتاولة" التي جسدت العصبية العاملية في ممانعتها ضد إخضاع جبل عامل لسلطة أمراء جبل لبنان، وأخيراً، سكان جنوب لبنان بعد إلحاق الجبل العاملي بــ دولة لبنان الكبير سنة 1920.
وهذا يعني أن تعدّد الأسماء كان خاضعاً لتعدّد السلطات وتداولها واختلافها ونظرتها لموقع جبل عامل في حسابات مصالحها ومآل منازعاتها وحروبها، وجميعها مشدودة إلى غاية واحدة: إخضاع الإجتماع العاملي والسيطرة على المجال الحيوي لوجوده.
ومن البديهي القول إن المجال الجغرافي يشكّل الإطار الموضوعي لتعيين حدود وسيادة جماعة ما، بصرف النظر عن كونها أمّة أو وطناً أو طائفة أو قبيلة. كما أنه يعيّن بدقة دائرة نفوذها ومدار معاشها ومساحة سريان سلطتها على أتباعها وخطوط تماسها الجغرافي والسياسي مع السلطات المحيطة بها. وبما أن جبل عامل قد أصبح موطن الشيعة الأساسي في بلاد الشام، فإنه يحتاج إلى مقاربة مختلفة تخرج عن الإطار الجغرافي لتدخل في صلب الإشكالية المتواصلة والمرتبطة بتحديد موقع الإجتماع العاملي وحدود إنتشار مذهبه أو هويّته المعتقدية، حيث يميّز ذاته ويؤسّس وحدته.
وكما هي الحال في كل إجتماع أهلي أو سياسي، فإن المجال الجغرافي يجيب على أسئلة عدة تتعلّق بزمن إستقراره وتوطنه وانتشاره في بقعة من الأرض، وفي تعيين المساحة التي يشغلها بعد تمثّلها بخصوصية مذهبية مقارنة مع خصوصيات أخرى.
وفي هذا السياق انتظم العامليون الشيعة في اجتماع أهلي – مذهبي نظراً لوجودهم في محيط متعدد ومتنوّع خضع تاريخياً لسلطة مذهبية أخرى، رفضها العامليون فكرياً، أي من ناحية كونها تجسيداً لإنحراف "الدولة الجائرة" عن "الدولة العادلة"، ما حوّل الجبل العاملي إلى نقطة استقطاب لعنف الدولة واستبدادها.
وبما أنه إجتماع أهلي لم يضع لنفسه مشاريع سياسية انفصالية بقدر ما شدّد على انتمائه للدولة الإسلامية الواحدة، بصرف النظر عن مشروعيّتها وممارساتها، فإنه تمكن من الصمود مثلما تمكّن من تحصين هويته المذهبية. وتبعاً لذلك سيتحوّل جبل عامل إلى مجال جغرافي تتمركز فيه هجرات الشيعة من مراكز الضغط السلطوي منذ زمن العباسيين. وعلى امتداد مساحته المتواضعة وجد الشيعة فيه ملاذاً وحصناً يتقون بهما عنف الجائرين ويضبطون فيه تواصلهم مع الجماعة – الأمّة، ويصبرون فيه ويمانعون ضد ضربات السلطة – السلطات المحتمية وراء مسوّغات مذهبية أخرى. وسوف يتعاملون أيضاً مع أطماع مجاوريهم من الملل والطوائف والدول المتناثرة على امتداد حقبة التوتر الذي غطى تاريخ بلاد الشام ومصر والسلطنة العثمانية.
وبالتالي فإن تعيين المجال الجغرافي للإجتماع العاملي يظهر متحركاً وموصولاً بالأحداث التي تجري فيه وحوله. وبسبب من طبيعته الأهلية وموقعه الإستراتيجي سوف يكبر ويصغر وفق مقاييس الصراع الذي تدور رحاه في أرجائه، وتصبح حدوده خاضعة لأهداف السلطات المتنافسة عليه، تنهبه وتقضمه شيئاً فشيئاً. وبدل من أن تشفع له وحدويّته وقبول هامشيّته وقلة حيلته وعدم خروجه على الدولة، فإن هذه الدولة لم تلتزم بواجبها تجاه رعيّتها بقدر ما تعاملت معها كغنيمة وتركتها مستباحة لمن يشاء ويقدر على استباحتها.
انتظم العامليون الشيعة في اجتماع أهلي – مذهبي نظراً لوجودهم في محيط متعدد ومتنوّع خضع تاريخياً لسلطة مذهبية أخرى، رفضها العامليون فكرياً، أي من ناحية كونها تجسيداً لإنحراف "الدولة الجائرة" عن "الدولة العادلة"، ما حوّل الجبل العاملي إلى نقطة استقطاب لعنف الدولة واستبدادها.
تندرج هذه الملاحظات المكثّفة في سياق تاريخي يظهر خلاله جبل عامل مجالاً جغرافياً متحركاً، يبدأ بحدود الإجتماع الأهلي وهويته المذهبية، ثم يتدرّج إلى حدود السلطات التي غطّت تاريخه بالعنف.
ولا ترجع أهمية المجال الجغرافي إلى كونه بقعة من الأرض يعيش فيها أبناء مذهب واحد، فيها يتوالدون ويتواصلون ويصنعون تاريخهم، وإنما إلى موقعه الإستراتيجي في منطقة نزاع مستمر حطّت فيها أطماع ومشاريع من كل حدب وصوب. الأمر الذي جعل جبل عامل ومجاله الجغرافي عرضة لتقلّبات دائمة طالت بناه الإقتصادية وعلاقاته الإجتماعية ومناعته المذهبية وتحولاته السياسية. وسوف يُظهر المجال الجغرافي مسار الأحداث التي وضعت الإجتماع العاملي في موقع الأهمية بالنسبة لأطراف النزاع، سواء أكانوا مسلمين أو أوروبيين، سلاطين أو أمراء أو ولاة أو ملل أو صليبيين أو فرنسيين وأخيراً صهاينة. كما يكشف أثر المنازعات الدائمة في تعيين حدوده: الحدود التي صنعها الإجتماع الأهلي لمحل سكناه ومعاشه، والحدود التي تستجيب لمصالح أصحاب التنافس والصراع، وهي مصالح ومنازعات كانت تستقر مؤقتاً على توازنات دفع الإجتماع العاملي ثمنها من مجاله الجغرافي، كما دفع ثمنها من حريته وإزدهاره وحياة أبنائه.
جغرافية الإجتماع العاملي
انطلاقاً مما تقدّم، فإن جبل عامل يبقى محط إجماع المؤرّخين، على اختلاف مشاربهم، بما هو مستقر وموطن المسلمين الشيعة على ساحل الشام، أو أنه على الأقل، تلك البقعة من الأرض التي يقطنها الشيعة بأغلبية ساحقة، وأن تاريخه يكاد يختصر تاريخهم في تلك المنطقة من العالم الإسلامي.
ولا يغيّر من صفته هذه تعايش أقليات إسلامية أخرى أو مسيحية، رغم أن قدومها إلى ربوعه قد تم في زمن متأخّر، وتحديداً إثر هجرة موارنة الشمال إلى الجنوب أو تشتتهم في أعقاب الانتصار الدرزي في أواسط القرن التاسع عشر. سواء أثّرت هذه الهجرات المذكورة في صفته أم لا، فإنه يظل، من الناحية التاريخية، المجال الجغرافي الخاص بالإجتماع العاملي – الشيعي منذ قرون.
تنقل عالمة الاجتماع الفرنسية صابرينا ميرفان عن إتيان دي فوماس أن خارطة جبل عامل مأخوذة، على ما يبدو، من أعمال الجغرافيين والرحالة القدماء، وتعطي مصداقية للخارطة التي دأب العامليون أنفسهم على رسمها لحدود "جبلهم" وحيث تفترق عن الخارطة الفرنسية التي أبقت إلتباساً في الحدود الجنوبية، بعكس الوضوح التي عرفته الخارطة العاملية.
وجاء في التحديد الفرنسي: يحده – أي جبل عامل – البحر الأبيض المتوسط من الغرب ويُشرف عليه من الشرق جبل حرمون على الحدود السورية. وتقف حدوده شمالاً عند نهر الأولي الذي يفصله عن الشوف. وأما جنوباً فلا تظهر حدوده الطبيعية. وذلك أن نصفه الجنوبي، بحسب الجغرافيين، يعتبر جزءاً من الجليل الأعلى... يمتد من الليطاني إلى محور عكا – صفد – طبريا..."[1]
وبعد أن تحوّل جبل عامل إلى "جنوب لبنان"، حرص الكتّاب العامليون على تدوين حدوده الطبيعية بعد أن كانت مجرّد رواية شفهية، مثلما حرصوا على إسمه الأصلي والتاريخي (جبل عامل) بما هو "ذاكرة لتاريخ ورمز لهوية مرغوب فيها وعلامة على التشبّث بالأرض"[2] .
وتتفق مختلف النصوص العاملية على حدود جبل عامل الطبيعية وحجم مساحته وأسماء مدنه وقراه، إذ "يحدّه جنوباً نهر القرن، الجاري قرب ترشيحا، "طيرشيحا"، من بلاد عكا، وشرقاً أرض الخيط والأردن والحولة، وقسم من جبل لبنان، وشمالاً نهر الأولي. وغرباً البحر ==المتوسط، وتدخل في هذا الحد صيدا، وجزين، وقسم من قرى عكا..."[3].
بيد أن نصوصاً أخرى جاءت أكثر تفصيلاً، وبخاصة في ما يتعلق بالحدود الجنوبية المتاخمة لفلسطين حيث جرت منازعات عاملية – فلسطينية، وبصورة أكثر أهمية، حيث انتهت التفاهمات الفرنسية – البريطانية، مدعومة بصمت "لبناني"، إلى إنتقاص أولي في مساحة جبل عامل سوف يتحوّل، لاحقاً، إلى قضم إسرائيلي متواصل مشدود إلى إستراتيجيّة توسّع، تغذّت في مفاعيلها ومداها وتفاصيلها من الصمت "اللبناني" المريب؟
عندما كان الشيخ سليمان ضاهر في غربته، رسم حدود موطنه العاملي في بيتين من الشعر:
لعبر الأردن الغربي أصبو، وتجذبني لشرق البحر هضب
ومن نهر الفراديس المصفى، لنهر القرن لي رهط وصحب[4]
وفي كتابه "خطط جبل عامل"، رسم السيّد محسن الأمين خارطة جبل عامل من كتابات المؤرخين القدماء، أمثال شيخ الربوة وأبو الفدا والقلقشندي وإبن جبير وغيرهم، وتوصّل إلى تحديد متواتر يُشبه الإجماع، ينص على اعتبار جبل عامل جزءاً من ساحل الشام تفصله الجبال عن دمشق.
تنقل صابرينا ميرفان عن إتيان دي فوماس أن خارطة جبل عامل مأخوذة، على ما يبدو، من أعمال الجغرافيين والرحالة القدماء، وتعطي مصداقية للخارطة التي دأب العامليون أنفسهم على رسمها لحدود "جبلهم" وحيث تفترق عن الخارطة الفرنسية التي أبقت إلتباساً في الحدود الجنوبية، بعكس الوضوح التي عرفته الخارطة العاملية.
ورغم أنه "لم يُذكر له تحديد على التحقيق في كتب التاريخ وتقويم البلدان، إلا أنه يمكن تحديده على وجه التقريب القريب من التحقيق بحسب ما هو معروف اليوم بين أهله المأخوذ عن أسلافهم يداً عن يد مع ملاحظة ما في كتب التاريخ ونسبة جماعة إليهم علم محل سكناهم الذي أوجب هذه النسبة، فيعلم أنه كان يعدّ من جبل عامل في تلك الأعصار. والمتحصل من مجموع ذلك أن حدّه من جهة الغرب شاطئ البحر المتوسط أو بحر الشام، ومن الجنوب فلسطين ومن الشرق الأردن "الحولة" ووادي التيم وبلاد البقاع وقسم من جبل لبنان الذي هو وراء جبل الريحان ووراء إقليم جزين، ومن الشمال نهر الأولي أو ما يقرب منه وهو المسمّى قديماً نهر الفراديس. وهذا التحديد بمجمله ممّا لا يشبهه ولا شك فيه، ولكن يقع التأمل في الحد الفاصل بينه وبين فلسطين، فقد قيل إنه هو النهر المسمّى نهر القرن، وحينئذ يدخل في جبل عامل ما ليس منه...[5].
وإذا كان التحديد قد أثار إشكالاً في حدود جبل عامل المتاخمة لفلسطين المحتلة، فإن الحدود التي نقلها السيّد الأمين عن الشيخ علي سبيتي في كتابه "الجوهر المجرد في شرح قصيدة علي بيك الأسعد"، تفتح مجالاً لمناقشة نوعية الحدود الشمالية والشرقية، خاصةً في ما يتعلق بمدينة صيدا وإقليمي التفاح وجزين وبعض القرى التابعة للبقاع الغربي[6].
غير أن الشيخ علي الزين يرسم حدوداً تفصيلية إستند فيها إلى تحديد السيّد الأمين في خططه، والشيخ علي سبيتي في كتابه "الجوهر المجرد..."، وخرج من الإشكالات بإستناده إلى اليعقوبي في كتابه "البلدان"، والشيخ محمد مهدي مغنية في كتابه "جواهر الحكم" وطنوس الشدياق في كتابه "أخبار العين...". حيث يتوصل إلى خارطة جامعة حاسمة إتفق على تفاصيلها المؤرخون القدماء والمعاصرون له.
ففي هذه الخارطة تبدأ حدود جبل عامل "من الشمال بمصب نهر الأولي شمالي صيدا، فتدخل مدينة صيدا فيه، ثم يذهب صعوداً إلى الشرق شمالي قرية البرامية ويتجاوز في خطه قرية روم من جهة الشمال إلى أن يصل إلى جزين فيضم إليها واديها وشالوقها وجميع القرى التي كانت تابعة لمقاطعة جزين، ويقطع جبل التومات منحدراً إلى مشغرة ويتصل بنهر الليطاني من شمال سحمر، ثم يذهب إلى أن ينحط على ينبوع نهر الحاصباني ويتّجه عندئذ جنوباً على مجرى النهر المذكور، فيدخل فيه جبل الظهر ومشغرة وعين التينة وميذون وسحمر ويحمر وقليا وزلايا ولبايا ولوسة من قرى البقاع الجنوبي، وتدخل فيه قرى كوكبة، وبرغز، وسوق الخان، من ناحية حاصبيا، ثم ينتهي هذا الخط على ضفة بحيرة الحولة الغربية، وينعطف غرباً جنوبي مقام النبي يوشع وسالي الهراوي، ويمتد غرباً فيتبع مجرى وادي فارة وينتهي عند مصب وادي القرن جنوبي قرية البصة والزيب، فتدخل فيه قرية الخالصة من أرض الحولة وهونين وقدس ويوشع ثم إبل القمح، وصلحة، والمالكية، وتربيخا، من القرى التي أُلحقت بفلسطين، وتدخل فيه قرية البصة التي كانت مثار النزاع بين العامليين وحكام عكا... . ومن الباحثين من يحد جبل عامل، من الجنوب بالنهر المسمى بنهر القرن الجاري شمالي طيرشيحا إلى جنوب قرية الزيب، ومن الغرب بالبحر الأبيض المتوسط، ومن الشرق بأرض الخيط أو بسهل الخيط، المفصول بينه وبين الجولان بنهر الأردن، وبينه وبين الحولة بالبحيرة التي أزالها الصهاينة إلى الوادي المسمّى بعوبا، إلى نهر الغجر، ثم الوزاني شرقي قرية سردة وقرية الخيام إلى قرى كوكبا، فلبّايا وسحمر، ومشغرة... ثم يحدد من الشمال بإقليم الخروب وإقليم الشوف أو بالضفة الشمالية من نهر الأولي...[7]
وعلى هذا الأساس، تغدو مساحته 3200 كلم2، 80 كلم2 من الأولى إلى نهر القرن و40 كلم2 من الساحل غرباً إلى منتهى الحدود الشرقية الجنوبية عند ضفة الحولة والشرقية عند منتهى جبل الظهر[8].
وقد ذكر السيّد محسن الأمين في خططه أسماء جميع مدن وقرى ومزارع جبل عامل داخل هذه المساحة والتي قاربت 600 إسم، بما فيها بطبيعة الحال، جميع القرى التي أُلحقت بفلسطين بعد عام 1920 [9]. وقد توزّعت هذه المساحة إلى مقاطعات داخلية تزداد الفواصل بينها أو تقلّ وفق طبيعة العلاقة التي كانت تحدد التوازن والصراع بين العائلات العاملية التي اقتسمت هذه المساحة وجعلت منها مناطق نفوذ لها.
ومن المتعارف عليه، أن جبل عامل كان يضم 8 مقاطعات يفصل بينها بالتساوي مجرى نهر الليطاني، فتصبح 4 مقاطعات جنوبية هي: تبنين، هونين، قانا ومعركة، و4 شمالية هي: الشقيف، الشومر، التفاح وجزين.
إلا أن الشيخ علي الزين يضيف إليها مقاطعة تاسعة، نقلاً عن مؤرخي جبل لبنان، وهي مقاطعة جبل الريحان وقاعدتها قرية كفرحونة، وكان حكامها من آل برّو، وذلك وفق ما جاء في تأريخ أبي شقرا للحركات في لبنان، حيث يقول: "لما استوطنت عشائر الدروز في بلاد الشوف واستولت على مقاطعاته، كانت عشائر المتاولة مستوطنة إقليم جزين ومستولية عليه مع ما يتبعه من ناحيتي جبل الريحان، وإقليم التفاح، وكانت تلك الأنحاء برمّتها مأهولة بالمتاولة، أما العشائر المتوالية فكان أهمها المقدمون الخزرجيون، وكانت جزين قصبة لهم يملكونها ويملكون ما يجاورها من القرى والضياع، ثم المشايخ آل برو أصحاب كفرحونة وجبل الريحان، وهؤلاء كانوا ذوي وفر جزيل وثروة عظيمة...[10]".
تستمد هذه الحدود صحتها من اعتبارها المجال الجغرافي للإستقرار الشيعي في بلاد الشام، وهي بذلك تشكّل حدود الإجتماع الأهلي – المذهبي وتستوعب سلطة العائلات التي حكمت مقاطعاتها المذكورة.
ولا يقلل من أهمية هذا الإعتبار وجود جماعات أخرى، سواء ما كان منها مستوطناً أصلاً في جبل عامل أم من جاء إليها إثر متغيرات سياسية وطوائفية طالت البنية الديمغرافية لجبل عامل إنطلاقاً من جبل لبنان.
وبناء عليه، فإن حركة الحدود التي سارت بإضطراد نحو القضم والإنكماش، لا تأتي، بالدرجة الأولى، من الشك بحدود المجال الجغرافي للإجتماع العاملي بقدر ما تكشف أوّليات التدخل والتوّسع التي دأبت عليها الولايات المحيطة بجبل عامل.
وبالتالي، فإن حركة الحدود الخاصة بالإجتماع العاملي خضعت لمتغيرات تاريخية، بحيث كان التغيير الجغرافي إنعكاساً لمدى النفوذ الذي مارسته السلطات المجاورة وطبيعة أطماعها ومصالحها، الأمر الذي يزيل الإلتباس المتعلّق بالمجال الجغرافي للإجتماع العاملي ويبقيه في ما يتعلق بالمجال الجغرافي للصراعات الإقليمية سابقاً وللصراعات الإقليمية والدولية لاحقاً وراهناً.
التنافس الخارجي والحدود الجنوبية
في حين يشدّد محسن الأمين على دوافع طائفية للهجرة الشيعية من جزين، فإن إنحسار حدود جبل عامل خضع لمتغيرات الوضع الإقليمي والدولي أكثر بكثير مما عكس ظلم الجيران المسيحيين.
وهذا يعني أن تراجع حدود الإجتماع العاملي يكشف أهمية موقع جبل عامل الجغرافي والسياسي والإقتصادي والمذهبي وسط منطقة تعج بالتناقضات وفي محيط تتربص كل سلطة فيه بالأخرى لتتقدم على حسابها.
فمن ناحية الجنوب كان الإنحسار تتويجاً لترتيب إنكليزي- فرنسي قطف ثماره التاريخية اليهود والموارنة. ومن ناحية الشرق والشمال كان الإنحسار تتويجاً لترتيب عثماني – شهابي قطف ثماره الفرنسيون والموارنة. وعلى إمتداد الحدود الشرقية كان التعدّد ضرورة لتعزيز الإنفصال بين شيعة البقاعين الشرقي والأوسط وشيعة جبل عامل. فكانت النتيجة أن تكرّست وضعية جبل عامل كساحة مستباحة لن يتأخر المشروع التوسعي الصهيوني في مد يده إليها.
وفي هذا السياق يندرج تاريخ الحدود الجنوبية المستباحة ويتميّز عن تاريخ إستباحة الحدود الأخرى بدخول العامل الإسرائيلي. بحيث تبدو، أمامه، المنازعات الحدودية العاملية – الفلسطينية مجرد عبث سياسي بلا جدوى، وبخاصة حول مقاطعتي تبنين وهونين.
ولم تشهد المنازعات العاملية – الفلسطينية على تخوم هاتين المنطقتين أبعاداً طائفية على غرار ما عرفته مقاومة العامليين لسيطرة أمراء جبل لبنان على جبل عامل.
وبالتالي، يظهر إنكماش الحدود الجنوبية المتاخمة لفلسطين بعيداً من المسار الطوائفي الذي يكشفه إنحسار الحدود الشمالية ومتغيراتها السكانية والإجتماعية.
ففي الجنوب، حيث ولاية صفد، كان التوسّع الفلسطيني لا يعتمد على فواصل جغرافية – طوائفية أكثر مما يركز على حدود التنازع بين هذه الولاية وغيرها من الولايات، كصيدا ودمشق وعكا وإمارة جبل لبنان، خاصةً وأن تبنين وهونين والشقيف وصور كانت، في فترات متعدّدة من أعمال ولاية صفد، وتحديداً في عهد المماليك.
كما كان زعماء جبل لبنان، في بعض الأوقات، "مؤيدين لنائب صفد في السلم والحرب، كما يبدو من المصادر التاريخية كصبح الأعشى وتاريخ العثماني والصفدي والدويهي والشهابي...". ورغم أن حدود شمال فلسطين تميّز، إلى حدّ بعيد، بين المساحات الجغرافية لأبناء المذاهب، حيث تبدو هذه الحدود وكأنها حدود الشيعة على تخوم فلسطين، أو أنها فعلاً كذلك، إلا أن المنازعات بين العامليين والفلسطينيين لم تكشف أبعاداً ذات دلالات مذهبية.
كان ينبغي انتظار نتائج التدخل الأوروبي كي نتلمس الدلالة السياسية لتصغير جبل عامل من ناحية الجنوب، وهو تصغير أبقته المصالح المتضاربة في إطار القرى السبع، من دون أن تهمل، نهائياً، محاولات إيصاله إلى الضفة الجنوبية لنهر الليطاني، وإدراجه في إستراتيجية التوسع الصهيوني في جنوب لبنان.
فالحدود كانت متحرّكة ضمن ثوابت الإنتماء والسكن والإجتماع الأهلي، والمناطق التي إستغلّها فلسطينيو عكا بعض مقتل ناصيف النصار سنة 1780، لم يكن ذلك لأسباب هامة، لا سيما وأن النفوذ السياسي للولايات الفلسطينية كان يتجاوز، بإستمرار، مسألة إقتطاع قرية أو قريتين ليتعدّاها إلى بسط السيطرة على جبل عامل أو على الأقل على مجمل حدوده الجنوبية.
وبهذا المعنى نفهم حدود الإشكاليات الحقوقية التي برزت بين العامليين والفلسطينيين حول حقوق الملكية والإستثمار في كل من قرية الزيب الواقعة على البحر في الجانب الغربي الجنوبي من نهر القرن، وقرية البصّة الواقع في سفح جبل بلبون التي "لم تزل تابعة لجبل عامل منذ القديم حتى مقتل ناصيف النصار سنة 1195 ه. فأتبعت لعكا، أما مزارع البصة فإن أكثرها إلى الآن تخص جبل عامل وخراجها يؤدي إلى قلعة تبنين، ومنها الأرض المسماة ب (جاليل)، وهي الآن خراب لا مزارع فيها سوى أراضٍ تنزلها العربان والمتلصّصون وفيها غابة زيتون عظيمة من غرس الرومانيين يُقلع منها كل سنة جانب عظيم لجميع الجهات، وقد وضع أهل ترشيحا يدهم – بعد مقتل ناصيف – على تلك الأرض وعلى الزيتون وستغلّوها، ولهم فيها مزارع يزرعونها، وقد أقام عليها حمد البيك المحمود (دعوى) في ديوان الأيالة في بيروت سنة 1263 ه. وتهيّأ له شهود من أهالي الزيب وطيرشيحا، وأقر له أهل طيرشيحا بأنها كانت تابعة لبلاد بشارة قديماً، وكان رفض الوالي لدعوى حمد البيك مجرد تحامل وعصبية..."، كما يروي الشيخ علي الزين.[11]
يُجمع المؤرخون، على إختلاف أهوائهم وغاياتهم، على مبدأ الإلتئام الأهلي – المذهبي لمواطن السكن والإنتشار في طول الدولة العثمانية وعرضها، بما في ذلك وسائل ووسائط سلطة هذه الدولة على رعاياها. ولم تخرج حدود جبل عامل الجنوبية عن هذا السياق إلا في اللحظة التي بدأت فيها هذه الحدود متداخلة مع التنافس البريطاني الفرنسي الذي أعقب هزيمة الدولة العثمانية.
وبعبارة أخرى، كان ينبغي انتظار نتائج التدخل الأوروبي كي نتلمس الدلالة السياسية لتصغير جبل عامل من ناحية الجنوب، وهو تصغير أبقته المصالح المتضاربة في إطار القرى السبع، من دون أن تهمل، نهائياً، محاولات إيصاله إلى الضفة الجنوبية لنهر الليطاني، وإدراجه في إستراتيجية التوسع الصهيوني في جنوب لبنان.
فالتنافس البريطاني - الفرنسي حول مناطق النفوذ في بلاد الشام وضع الجانبين في تماس مباشر على حدود جبل عامل الجنوبية. فمن جهة، كان البريطانيون يطمحون بالتقدم أبعد من شمال فلسطين بهدف إبقاء النفوذ الفرنسي شمال نهر الليطاني، منسجمين في ذلك مع رغبات زعماء الحركة الصهيونية العالمية في إنشاء وطن قومي لليهود تصل حدوده إلى ضفاف الليطاني والحاصباني وسهل الحولة. وعندما لاح في الأفق المشروع الفرنسي توسيع رقعة المتصرفية وتحويلها إلى دولة لبنان الكبير، سارع زعماء الصهيونية لمقايضة البطريرك الماروني إلياس الحويك بالمساعدات المادية والفنية مقابل إبقاء هذه المنطقة، الممتدة من الليطاني إلى حدود جبل عامل مع فلسطين، خارج لبنان الكبير. ومن جهة ثانية، كان الفرنسيون يرغبون بتحجيم النفوذ الإنكليزي في بلاد الشام، وخاصة في المناطق المحاذية لمناطق سيطرتهم في سوريا ولبنان، منسجمين في ذلك مع حاجة الكيان اللبناني إلى مجال جغرافي يتجاوز جبل لبنان، مثلما كانت مصلحتهم تقتضي عدم "تلغيم" الكيان الوليد بإضافة "نصف" الإجتماع الأهلي العاملي إليه.
يكشف حراك المجال الجغرافي للإجتماع العاملي عن مأزق مقيم في الأرض والهويّة. فالأرض، بما هي "وطن" العامليين كانت دائماً مستباحة وتبحث عن دولة تحميها، عثمانية أو فرنسية أو لبنانية لا فرق، ولمّا تجدها بعد.
على هذا الأساس، تم ترسيم الحدود بين بريطانيا وفرنسا في إتفاقية سايكس – بيكو قبل إعلان دولة لبنان الكبير، وفي إتفاقية الحدود التي تلت ذلك الإعلان ووقعها الجانبان في 23 كانون الأول/ديسمبر 1920.
وفي هذا الترسيم فرضت المصالح الفرنسية – المارونية شروطها وحدودها على المصالح البريطانية – الصهيونية. بيد أن هذا الفرض لم يصمد طويلاً. ففي أقل من سنتين تنازلت فرنسا عن أجزاء من الأراضي الواقعة في أقصى جنوب دولة لبنان الكبير.
قد تكون مقاومة العامليين للقوات الفرنسية، وخاصة المواجهات التي تخللت حملة الكولونيل نيجر الهادفة إلى إخضاع جبل عامل وإلحاقه القسري بدولة لبنان الكبير، سبباً في هذا التنازل الفرنسي عن قرى وممتلكات العامليين، وقد تكون المصالح الخاصة وحدها كامنة في التنازل المذكور.
ومهما يكن من أمر هذه الأسباب، فإن بداية مسار القضم في حدود جبل عامل الجنوبية كشفت نوايا التنافس الإنكليزي – الفرنسي مثلما أخرجت إلى العلن التنافس اليهودي – الماروني، إلى درجة كان يتمّ فيها بحث مصير هذه الحدود بمعزل عن أصحابها الحقيقيين. وهكذا كان، فقد إنتهى التنافس الأول إلى إتفاق حدد مناطق النفوذ بين إنكلترا وفرنسا، وإستجاب إلى جزء من الرغبات الصهيونية ولكافة الرغبات المارونية.
في التنافس الثاني، وفي نهاية الأمر، أصبح جبل عامل جزءاً من دولة لبنان الكبير، وبرضاها ورضى حاميها الفرنسي، تخلت هذه الدولة عن أجزاء من حدودها الجنوبية التي أصبحت ملكاً مجانياً للمستوطينين اليهود.
وبالتالي، فلا يجوز للصهاينة أن يتذمّروا، على حد تعبير الفرنسي روبير دوكهي، لأن لجنة تقويم الحدود بين الإنتدابين البريطاني والفرنسي أعطت كامل أراضي الحولة لليهود، وهي، كما يقول، من أخصب الأراضي في المنطقة.[12]
ومن الناحية العملية، فإن التعديلات التي عرفتها الحدود سنة 1922، من خلال إتفاقية بوليه – نيوكمب، أو إتفاقية "حُسن الجوار" الموقّعة بتاريخ 23 حزيران/يونيو 1923، بما هي إلتزام ببنود معاهدة "سيفر" الخاصة بالتثبيت النهائي للحدود الفاصلة بين مناطق السيطرة الفرنسية والبريطانية، أسفرت – هذه التعديلات – عن خسارة العامليين ومعهم دولتهم اللبنانية الناشئة، عدّة قرى وآلاف الدونمات من الأراضي الخصبة في منطقة سهل الحولة المعروفة ب "جورة الذهب" والتي كانت تاريخياً جزءاً لا يتجزأ من مقاطعة هونين.
"فمنطقة سهل الحولة كانت تتبع بأغلبية أراضيها حتى عام 1920، إلى قائم مقامية مرجعيون، وهذا السهل يُسمّى "جورة الذهب" ويمتلك قسماً هاماً من أراضيه الزراعية الخصبة ملاكون من كبار العائلات الغنية البيروتية، كما يمتلك متنفّذو جبل عامل مساحة واسعة فيه، وكانت العامة تعمل في هذه الأرض تسدّ بعرقها لقمة عيشها"[13].
واستناداً إلى شهادة أصحاب الأملاك الذين لا يزالون يحتفظون بأوراقهم الثبوتية لملكياتهم في تلك المناطق، يورد سلام الراسي مساحة الأراضي التي اغتصبتها الحركة الصهيونية من أملاك سكان جبل عامل في سهل الحولة، وخلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين فقط، توضّح هذه الأرقام ما يلي:
إن سكان مرجعيون فقدوا 14211 دونماً، وكفركلا 2007 دونمات، ودير ميماس 1087 دونماً، وحاصبيا 4441 دونماً، والقليعة 210 دونمات، والطيبة 419 دونماً، وسكان القرى الأخرى المتفرقة 200 دونم. أي أن سكان جبل عامل والمنطقة المحيطة بسهل الحولة فقدوا ملكية حوالى 23000 دونم من الأراضي الزراعية الخصبة التي كانوا يمتلكونها ملكاً خاصاً، تضاف إليها مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت لكبار الملاكين اللبنانيين هناك بإسم ملكيات التصرّف والتي حرمتهم منها إدارة الإنتداب البريطاني تحت ستار أنهم لم يقدموا الأوراق الثبوتية اللازمة عنها إبان فترة التحديد والمساحة، فسجلت هذه الأراضي بإسم أملاك الدولة التي إنتقلت بكاملها للحركة الصهيونية في فلسطين...[14].
أما القرى السبع (وهي طبعاً أكثر إذا استدركنا أخواتها) فقد خسرها لبنان بعد ولادته بسنتين مروراً إلى ما بعد قيام "إسرائيل". إذ، "بموجب إتفاقية حُسن الجوار 1923 بين الإنتدابين الفرنسي والإنكليزي، ولقاء تجديد إمتياز تجفيف مستنقعات الحولة لشركة فرنسية بدأت التجفيف قبيل الحرب العالمية الأولى، إنتقلت 17 قرية جنوبية إلى الإنتداب البريطاني، وبالتالي إلى الحركة الصهيونية العالمية، منذ مطالع 1924، وهذه القرى هي: المطلة، النخيلة، الصالحية، الناعمة، الخالصة، الزوية، المنصورة، الذوق الفوقاني، الذوق التحتاني، خان الدوير، الدوارة، الخصاص، العباسية، دفنة، اللزازة، هونين، إبل القمح...[15].
وهكذا نقضت فرنسا إلتزاماتها تجاه حدود الدولة التي أقامتها في لبنان. وتعاملت هذه الدولة الناشئة مع التفريط الفرنسي بترابها الوطني وكأن شيئاً لم يكن. فكانت النتيجة أن أخذ المشروع الصهيوني الأرض وطرد السكان، الذين كانوا قبل 3 سنوات مواطنين لبنانيين، إلى منطقة سيادة دولتهم وحاميتها دولة الإنتداب، حيث تحولوا فجأة إلى رعايا من دون وطن وحصلوا على نعمة "هوية قيد الدرس".
وبما أن السكوت على القضم يزيد في شهوة التوسع عند المقتدِر، أضافت "إسرائيل" عام 1948 قرى عاملية – لبنانية أخرى وكرستها بإتفاقية الهدنة عام 1949. إذ إجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلية، عشية إعلان دولة "إسرائيل"، الأراضي اللبنانية واحتلّت 19 قرية بعد أن ارتكبت مجزرة في بلدة حولا.
وبين انسحابها وتوقيعها على إتفاقية الهدنة، استولت "إسرائيل" على قرى شوكة، أقرت، حانوتة، معسولة، المالكية، الدحيرجة، كفربرعم، الجردية، بعد أن طردت سكانها الذين سرعان ما أصبحوا أيضاً مواطنين لبنانيين "قيد الدرس".
وبذلك يكون لبنان قد خسر، بعد ولادته بثلاث سنوات وبعد إستقلاله بثلاث سنوات أيضاً، 24 قرية و23000 ألف دونم من الأراضي الصالحة للزراعة. وإذا كانت هذه القرى قد تجاوزت العدد 7 فإنها قد تكون أيضاً أكثر من 24 إذا أضفنا إليها المزارع والخرائب. وهو الأمر الذي يفسّر التعداد المختلف للقرى التي خسرها لبنان حتى عام 1949 في حدوده الجنوبية من الجنوب الغربي إلى الجنوب الشرقي، والتي يذكرها الشيخ علي الزين بتسميته قرى "المشيرفة، والناقورة، وما يتبعها من خرائب، ومنصورة (بيت مطر)، وسعسع، وصلحة، وديشوم، والمالكية، وقدس أو قادس نفتالي، ومزرعة يوشع، والمنارة، وهونين، وإبل القمح، والمطلة، إلى غيرها من القرى الخربة أو المستحدثة ضمن حدود جبل عامل القديمة كقريتي مسكاف عام قرب العديسة، والتخشيبة ضمن إبل القمح اليهوديتين"[16].
وفي هذا السياق، ينبغي الإقلاع عن ترداد القرى السبع لأنها أكثر من ذلك، ولكي لا تعترف "إسرائيل" بأخواتها بعد إهمال أو جهالة بها في خطاب المطالبة اللبنانية المتأخر والمشروع.
ومع ذلك، فالتوسع الصهيوني لم يقف عند حدود القرى السبع وأخواتها، كما لم تردعه إتفاقية الهدنة عن المزيد من القضم في حدود لبنان الجنوبية، حيث تكشف إستراتيجية التدخل الإسرائيلي في لبنان، منذ بداية الستينيات، وقائع التوسع الذي لم يتوقف.
ففي سنة 1967 بدأت "إسرائيل" بوضع يدها على منطقة غنية بالمياه والبساتين المزروعة، وهي المنطقة المعروفة بمزارع شبعا الواقعة على مساحات واسعة من السفح الجنوبي لجبل الشيخ والجزء الشمالي من سهل الحولة، وتمتد من بلدة كفرشوبا حتى الحدود السورية على مساحة تبلغ 24 كلم2 وتضم 14 مزرعة و1075 منزلاً تأوي أكثر من 1200 عائلة.
وقد احتلت "إسرائيل" هذه المزارع تباعاً قبل أن تقدم على طرد سكانها نهائياً في نيسان/أبريل 1989، وتضيف إليها مزارع أخرى، بحيث تكون "إسرائيل" قد قضمت:
خربة الدوير، برختا، المعز، زبدين، بيت البراق، ربعة، قفوة، برتعيا، رمتا، كفردورة، جورة العقارب، فشكوا، القرن، سبطرا، خلّة الغزالة، البحاصير، وادي الخنسا، رويسة بيت الداس، رويسة السماق، الجل الأحمر، حرش مشهد الطير، الشمل، بركة النقار، السواقي، جورة العليق، تلّة السدانة.
ومنذ العام 1974 بدأت "إسرائيل" بإقتطاع تدريجي استمر حتى سنة 1988، وخسر لبنان من جرائه شريطاً من أراضي عيترون طوله 3 كيلومترات وعرضه يتراوح ما بين 100 و500 متر، و80 دونماً من أراضي بليدا، و90 دونماً من أراضي رامية، و50 دونماً من عيتا الشعب، و150 دونماً من تلال علما الشعب وتلال الضهيرة، إضافة إلى جبل الشميس كله.
ومنذ العام 1982، أي بعد الإحتلال مباشر بدأت "إسرائيل" بإجراء تعديلات على الحدود المعترف بها دولياً، وذلك بالتقدم والتوسع شمالاً داخل الأراضي اللبنانية.
فقد نقلت الشريط الشائك الفاصل بين الحدود من محاذاة مستعمرة المطلة إلى مسافة 600 متر شمالاً بطول يتراوح ما بين 3 كلم و5 كلم. ثم شقّت طريقاً على الضفة الجنوبة لنهر الوزاني بطول 12 كلم، بعدما اقتطعت الأراضي المحيطة بالنبع والتي تبلغ مساحتها 5000 دونم، كما ضمّت قسماً من سهل الخيام، ومساحة 700 دونم من أراضي عيتا الشعب و800 دونم من أراضي رامية ومروحين و400 دونم من أراضي الضهيرة و70 دونم من أراضي علما الشعب.
ومنذ نيسان/أبريل 1989 بدأت بتنفيذ الخطوات العملية لضم 40 كلم2 من الأراضي الواقعة بين مستعمرة المطلة ومرصد جبل الشيخ، إضافة إلى تعديل آخر في الحدود قامت به وحدة هندسية في جيش الإحتلال، وذلك ==بهدف إعادة ترسيم الحدود الدولية في القطاع الغربي المحتل، بحيث تتقدم الحدود شمالاً مسافة 200 متر داخل لبنان وعلى طول 4 كلم، بعد أن مهدت لذلك، سنة 1991، بقضم ثمانية كلم2 قرابة مستوطنة برعام الصناعية، وواصلت تقدمها، سنة 1995، في إتجاه أملاك الوقف الماروني في الدبيشة...[17].
وفي خلاصة ما تقدّم كله، يكشف حراك المجال الجغرافي للإجتماع العاملي عن مأزق مقيم في الأرض والهويّة. فالأرض، بما هي "وطن" العامليين كانت دائماً مستباحة وتبحث عن دولة تحميها، عثمانية أو فرنسية أو لبنانية لا فرق، ولمّا تجدها بعد.
والهوية، سواءٌ كانت لبنانية واضحة أو "قيد الدرس"، وجدت نفسها وسط هويّات "لبنانية" متعددة ومتناقضة، بحيث تصبح كل هوية متماهية مع منطقة – طائفة في تاريخها الخاص كما في مصيرها.
وإذ لا يجد "الوطن" العاملي دولةً تحميه و"هوية" وطنية توحّد المواطنين في "دولة" قادرة وجامعة، يُعيد الإجتماع العاملي إكتشاف حاجته لعصبية يلوذ بها عن نفسه ضد عاتيات الدهر.
هكذا فعل العامليون في السابق، فكانوا "متاولة" ضد أطماع الأمراء والولاة، وأصبحوا "مقاومة" في مواجهة أطماع "إسرائيل". ومن لا يرى في "إسرائيل" مشروعاً توسعياً على حساب لبنان، يعتبر إحتلالها شأناً أهلياً – جنوبياً لا ناقة للدولة فيه ولا جمل. ومع ذلك، يسألون عن معنى أن تكون المقاومة "شيعية"؟
مصادر ومراجع
[1] صابرينا ميرفان: حركة الإصلاح الشيعي، ترجمة هيثم الأمين، دار النهار، بيروت، 2003 صفحة 17.
[2] م.ن.ص.ن
[3] الشيخ محمد تقي الفقيه: جبل عامل في التاريخ، دار الأضواء بيروت، 1986، ص 15. ويمكن الرجوع إلى مجلة العرفان الجزء الأول من المجلد 27،
[4] راجع النص الكامل للقصيدة في مجلة العرفان، المجلد 13، ص 755.
[5] السيد محسن الأمين، خطط جبل عامل، الدار العالمية للطباعة والنشر، بيروت، 1983، ص 61.
[6] حول هذا الموضوع أنظر المرجع نفسه ص 61- 64.
[7] الشيخ علي الزين، للبحث عن تاريخنا في لبنان، بيروت،1973، ص 160- 161.
[8] م.ن.ص 164
[9] خطط جبل عامل، ص 230-273،
[10] للبحث عن تاريخنا في لبنان، مرجع مذكور، ص 164- 165، وكذلك خطط جبل عامل، المرجع السابق ص 131. أنظر أيضاً كتاب تاريخ الحركات في لبنان لأبي شقرا، ص 150.
[11] مرجع نفسه، ص 161
[12] نقلاً عن مسعود ضاهر: جبل عامل في إطار التجزئة الإستعمارية في المشرق العربي، بحث منشور في كتاب: صفحات من تاريخ جبل عامل، بيروت، 1979، ص 114.
[13] مرجع نفسه ص 116
[14] مرجع نفسه، ص 116- 117
[15] مرجع نفسه، ص 116
[16] للبحث عن تاريخنا، مرجع مذكور، ص 162.
[17] راجع حول هذا الموضوع: وثائق العدوان الإسرائيلي، الصادرة عن مجلس النواب، بيروت، 1995.