العدالة أم الرعاية.. أي نظام أخلاقي يجب أن نختار؟
هل نظرة الرجل إلى الأخلاق تختلف عن نظرة المرأة؟ بين عدالة الأخلاقيات الذكورية والرعاية كأخلاقيات أنثوية: أي نظام أخلاقي نختار؟
بينما تقوم نظرية الأخلاق التقليدية على أولوية الحرية والعدالة والاستقلالية، فإن أخلاقيات الرعاية، التي تهدف إلى أن تكون أكثر سياقية وأكثر واقعية، تؤكد فكرة الضعف والهشاشة التي تعتبرها واحدة من الخصائص الأساسية للحالة الإنسانية.
هذه الأخلاق النابعة من الفكر النسوي تميل اليوم إلى تحرير نفسها من أصولها والتوسع نحو المجال السياسي والفلسفي، من دون السعي لمعارضة قيم العدالة والاستقلالية.
تطرح نظرية الرعاية مقاربة جديدة أكثر فعالية للأخلاق من الناحية الاجتماعية. تعتبر هذه المقاربة الاستقلالية الذاتية أفقاً وليست مبدأ ثابتاً. أما العدالة فهي لا تأخذ معنى حقيقياً إلا إذا كانت ثمرة الاهتمام بالآخرين وتحديداً المهمشين والمستضعفين.
معضلة هاينز: الفرق بين أخلاق الصبيان وأخلاق الفتيات
انبثقت نظرية أخلاقيات الرعاية من نظريات نسوية في الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي، إثر النقد الذي وجّهته عالمة النفس النسوية الأميركية كارول جيليغان (1936) إلى نظرية أستاذها لورانس كولبيرغ (1927-1987) المتعلقة بتطور الإنسان الأخلاقي. وذلك حين لاحظت جيليغان أن نظرية كولبرغ استندت إلى تحيّز ذكوري، ولا تنطبق على النساء، وأنها لا تأخذ بالاعتبار الفروق الجنسية والعرقية التي تؤثّر في الحكم الأخلاقي على المواقف الحياتية المختلفة.
أثبتت أبحاث جيليغان أن الفتيات يَمِلْنَ إلى الحكم على الأمور من منظور العلاقات الإنسانية والرعاية والعطف على الآخرين، في حين أنّ الذكور يختارون الحكم الأخلاقي الذي يتصل بالقانون والعدالة.
بدأت أفكار الرعاية تتبلور حين أعادت جيليغان تحليل معضلة هاينز الشهيرة التي طرحها كولبرغ على فتى يدعى جايك وفتاة تدعى إيمي من ذات الفئة العمرية، ويمكن تلخيص هذه المعضلة كالآتي: يعيش هاينز في بلد أجنبي مع زوجته المريضة التي تُصارع الموت. يملك الصيدلاني دواءً باهظ الثمن يمكن أن ينقذ حياة الزوجة. لكن هاينز لا يملك المال والصيدلي يرفض إعطاءه الدواء مجاناً. هل يجب أن يسرق هاينز الدواء لإنقاذ حياة زوجته أم لا؟
أثبتت أبحاث جيليغان أن الفتيات يَمِلْنَ إلى الحكم على الأمور من منظور العلاقات الإنسانية والرعاية والعطف على الآخرين، في حين أنّ الذكور يختارون الحكم الأخلاقي الذي يتصل بالقانون والعدالة.
لا يُساور الفتى جايك البالغ من العمر أحد عشر عاماً أدنى شك في أن هاينز يجب أن يسرق الدواء. ويضيف إذا قُبض عليه، فسوف يتفهم القاضي ويخفّف عقوبته. أما أيمي فكان ردها مختلفاً، فهي تعتقد بضرورة إيجاد حل للمعضلة بعيداً من السرقة كاقتراض المال مثلاً؛ لكن ليس على هاينز أن يلجأ إلى السرقة، ولا ينبغي لزوجته أن تموت أيضاً. تشير إيمي إلى أنه إذا ذهب هاينز إلى السجن بسبب هذه الجريمة، فستكون زوجته بلا حول ولا قوة، وإذا أصيبت بالمرض مرة أخرى، فلن تجد من يساندها. تقترح أيمي أن على الزوجين مناقشة الموضوع معاً وإيجاد وسيلة لجمع الأموال اللازمة، أو محاولة إقناع الصيدلاني بمنحهما الدواء مجاناً.
تُلخص إجابات جايك وإيمي على التوالي مبادئ نظريتي أخلاقيات العدالة وأخلاقيات الرعاية. تتلاءم إجابة جايك تماماً مع مراحل نظرية كولبرج التي تضع التفكير المنطقي الاستنتاجي على رأس سلم النضج الفكري والأخلاقي. جايك يدرك منذ البدء الهيكل المعرفي الداخلي للمعضلة، أي الأولوية المنطقية للحياة على الملكية ويستخدم هذا المنطق لتبرير السرقة، ثم يقترح اللجوء إلى تساهل القانون لإنقاذ هاينز. أيمي لا تفكر في المعضلة الأخلاقية من خلال اتباع التفكير المنطقي الاستنتاجي، بل بمنطق العلاقات الإنسانية المترابطة وأهمية التواصل بين البشر. حُكم إيمي يستند إلى الاعتقاد بأنه إذا كان أحد ما يمتلك شيئاً يمكنه إنقاذ حياة شخص آخر، فسيكون مُخطئاً ولئيماً إذا لم يعطه إياه. لذلك، فإن إيمي تعيد جذور المشكلة إلى رفض تلبية احتياجات الآخرين من جانب الصيدلاني لا إلى مسألة المفاضلة بين حق الحياة وحق الملكية.
في نظام كولبيرج ، يُعد أسلوب تفكير إيمي أقل أخلاقية من تفكير جايك. بحسب نظرية النمو الخلقي لكولبرغ، فإن الحكم الأخلاقي يمر في نموه بثلاثة مستويات، كل مستوى يتكون من مرحلتين:
المستوى ما قبل التقليدي: يميل الطفل الصغير في تلك المرحلة إلى تطوير استراتيجيات فكرية معينة مثل إطاعة تعاليم الوالدين والحصول على المكافأة وتجنب العقاب.
المستوى التقليدي: يسعى الطفل لتحقيق توقعات الأسرة والمجتمع، مثل أن يحاول الاجتهاد في الدراسة لتحسين مستواه التعليمي والحصول على نتائج مُرضية.
المستوى ما بعد التقليدي: مرحلة تتميز بالنضج الأخلاقي والفكري، يطور الإنسان فيها معتقدات خاصة وأفكاراً معينة ويحاول الدفاع عنها.
يدّعي كولبرج أن التفكير الأخلاقي للفتيان يكون متقدماً في كثير من الأحيان على تفكير الإناث. فالأنثى تميل إلى الحكم الأخلاقي الذي يجعلها تبدو جيدة في نظر الآخرين، أما الفتيان فيفضلون حكم النظام والقانون.
على النقيض من النظريات الليبرالية التي تدّعي وجود إنسان حر سيد نفسه مستقل قادر على توفير احتياجاته الشخصية، تُبين التجارب اليومية الحياتية أن ذلك غير صحيح وأنّ الناجحين جداً اجتماعياً واقتصادياً، الذين يثيرون مشاعر الإعجاب والحسد أينما حلّوا، خلفهم أناس غير مرئيين يقبعون في الظل، ويقدمون لهم الرعاية الضرورية لكي يتفرغوا للمنافسة في مجال عملهم.
لكن كارول غيليغان ترفض هذا الذكوري، وترى أن لدى أيمي رؤية مختلفة وصوتاً مختلفاً لا يمكن أن يجري التعبير عنهما من خلال قوانين العدالة الذكورية المجردة. لذلك ابتدعت جيليغان مفهوم «أخلاقيات الرعاية» ووضعت كتاباً بعنوان «صوت مختلف» (1982)، الذي أصبح من أهم الكتب تأثيراً في الموجة الثانية من الحركة النسوية الأميركية.
ورأت فيه أنه يمكننا النظر إلى الأخلاق والمعضلات الأخلاقية من زاوية أخرى. ينتقد الكتاب بشدة النظام الأبوي، فضلاً عن عدد من التخصصات من العلوم الاجتماعية والفلسفة السياسية والأخلاق، لأنها تقلل من أهمية وقيمة نسيج العلاقات الاجتماعية، ومن دور التعاطف الإنساني والرحمة واللاعنف خلال معالجة المشكلات الأخلاقية.
أخلاقيات الرعاية والهشاشة الإنسانية
تقوم أخلاقيات الرعاية على فكرة أننا كبشر فانين نعاني دائماً الوهن والضعف، ونحتاج في مراحل مختلفة من حياتنا إلى أحدٍ ما كي يُقدّم لنا المساعدة المعنوية أو المادية. منذ اللحظة الأولى لقدومنا إلى هذه الحياة يبدأ احتياجنا إلى الرعاية، ثم ننمو ونصبح مستقلين نسبياً، ونعود ونكبر في السن ونغادر الحياة في حال ضعف وعجز ومرض.
على النقيض من النظريات الليبرالية التي تدّعي وجود إنسان حر سيد نفسه مستقل قادر على توفير احتياجاته الشخصية، تُبين التجارب اليومية الحياتية أن ذلك غير صحيح وأنّ الناجحين جداً اجتماعياً واقتصادياً، الذين يثيرون مشاعر الإعجاب والحسد أينما حلّوا، خلفهم أناس غير مرئيين يقبعون في الظل، ويقدمون لهم الرعاية الضرورية لكي يتفرغوا للمنافسة في مجال عملهم.
فالعالم الشهير، والكاتبة المعروفة، والنجم المتألق، والمدير الناجح كلهم لديهم فريق كبير غير معروف للجمهور، يعتني بطعامهم وهندامهم ومنزلهم وصحتهم النفسية والجسدية.
وتشير عالمة السياسة والناشطة النسوية جوان ترونتو (1952) إلى ذلك بجدارة حين تقول «لا يشعر موظف المكتب بالضعف أمام عامل النظافة الذي يقوم، كل يوم، بإزالة النفايات وتنظيف المكاتب وترتيبها. ولكن إذا توقفت هذه الخدمات، فسيظهر مدى ضعف الموظف للجميع».
تقوم أخلاقيات الرعاية على فكرة أننا كبشر فانين نعاني دائماً الوهن والضعف، ونحتاج في مراحل مختلفة من حياتنا إلى أحدٍ ما كي يُقدّم لنا المساعدة المعنوية أو المادية. منذ اللحظة الأولى لقدومنا إلى هذه الحياة يبدأ احتياجنا إلى الرعاية، ثم ننمو ونصبح مستقلين نسبياً، ونعود ونكبر في السن ونغادر الحياة في حال ضعف وعجز ومرض.
الاستقلالية التي يبالغ المجتمع الليبرالي في تقديسها، هي مجرد وهم كبير. والحقيقة التي لا غُبار عليها، هي أننا لسنا أقوياء على الإطلاق، بل ضعفاء جداً وبحاجة دائماً إلى الآخرين لكي يدعمونا ويقيلوا عثراتنا. نحن نعاني الهشاشة حتى إن أي حادث يسير قد يقلب حياتنا رأساً على عقب. عوالمنا متصل بعضها ببعض، ولا بدّ لنا من أن نتعاون كي نستمر في الحياة والقيام بواجباتنا، سواء في العمل والأسرة. هكذا جاءت نظرية أخلاقيات الرعاية لتؤكد أن ليس من إنسان يستطيع الاكتفاء بنفسه وحسب، والجميع يلجأ خلال حياتهم إلى علاقات توفر لهم الحماية أو العلاج أو التنمية الذاتية.
مع ذلك، يجري تجاهل أهمية هذه العلاقات في المجتمع الرأسمالي الذي يُثمن القوة والسلطة والنزعة الفردانية، وغالباً ما يجري تهميش الذين يقدمون الرعاية إلى الآخرين. وكثيراً ما نلاحظ أن هؤلاء المهمين جداً لتسيير أمورنا الحياتية لا يتلقون رواتب جيدة ولا ينالون أي تقدير اجتماعي.
هكذا جاءت نظرية الرعاية لإعادة تسليط الضوء على أهمية خدمات الرعاية، سواء منها الصحية أو المنزلية أو التربوية، ولتؤكد ضرورة توعية المجتمع من أجل إعادة الاعتبار إلى الذين يعملون في هذا المجال.
من ناحية أخرى، إذا نظرنا من حولنا بدقة نجد أن مسؤوليات الرعاية تقع في معظم الأحيان على عاتق النساء، وبخاصة اللواتي ينتمين إلى الطبقات الدنيا من المجتمع أو الأسر الأجنبيات القادمات من بلاد فقيرة مُعدمة. النساء هن من يعتنين بالأطفال والمرضى. النساء هن أيضاً من يقدمن الرعاية إلى المسنين في الأسرة، وهن من يقمن بإعداد الطعام وغسل الثياب وتنظيف المنزل.
كل هذه النشاطات التي يستخف المجتمع بها ولا يقدرها حق قدْرها تقوم بها عادة المرأة لا الرجل. علماً أنه من دون هذه الخدمات، لا تستقيم أمور المجتمع، ولا يستطيع أحد الذهاب إلى عمله والتفكير في بناء مستقبله.
جاءت نظرية الرعاية لإعادة تسليط الضوء على أهمية خدمات الرعاية، سواء منها الصحية أو المنزلية أو التربوية، ولتؤكد ضرورة توعية المجتمع من أجل إعادة الاعتبار إلى الذين يعملون في هذا المجال.
السبب في هذا التقسيم الجنسي للعمل وفقاً لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930-2002) ليس اختلاف الطبيعة البيولوجية بين الرجال والنساء ولا سِمات خاصة أنثوية تتحلّى بها المرأة تدفعها إلى التضحية، بل هو نتاج تاريخ طويل من الهيمنة والتنشئة الاجتماعية التي تُربي الفتيات منذ الصغر على ضرورة الحب والاهتمام بالآخرين والقيام بالواجبات المنزلية، فيما يترك للذكور حرية أكبر في الاختيارات الشخصية، فلا يتعرّضون للضغوط التي تتعرض لها الفتيات، بل على العكس يجري توجيههم منذ الصغر نحو المهن التي تتمتع بحظوة اجتماعية لافتة.
وهو يؤكد في كتابه «الهيمنة الذكورية» أن النظام الاجتماعي يشرعن علاقات هيمنة من خلال تأصيلها في طبيعة بيولوجية هي نفسها بناء اجتماعي مُطبّع.
يعد تعليم الأطفال، هنا من قبل خادمة ابنة أحد العبيد عام 1900، جزءًا من مجال أعمال الرعاية.
هل نظرية أخلاقيات الرعاية نسوية؟
مع أن نظرية أخلاقيات الرعاية انطلقت أساساً من فكر نسوي بحت، إلا أنها لقيَت انتقادات من عدد من النسويات اللواتي اعتبرن أن هذه النظرية تساهم في ترسيخ توزيع الأدوار الاجتماعية المعروفة للنساء، من خلال تطبيع السلوكيات النمطية الموروثة من النظام الأبوي التي احتج عليها أنصار تحرير المرأة منذ البدء.
وتعتقد بعض النسويات أن جيليغان تعيد في كتابها «صوت مختلف» حصر دور النساء في العناية بالآخرين وتقديم العون لهم. للوهلة الأولى تبدو أخلاق الرعاية كنظرية «أمومية» من خلال تشديدها على جعل الأمومة والعناية هما صفة المرأة الأساسية. هذا هو الاتجاه الذي يبدو أن الفيلسوفة النسوية نيل نودينجز (1929-2022) تسلكه أيضاً من خلال إعطاء تصور لأخلاقيات الرعاية مستوحىً من نموذج العلاقة بين الأم والطفل. فوفقاً لنودينجز تُعد الأمومة «تجربة بيولوجية ونفسية قادرة على أن تكون بمثابة أساس لمفهوم التعاون الاجتماعي الذي يقوم على رعاية الآخرين". لكن عالمة النفس كارول جيليغان تفسر في إحدى المقابلات ما جاء في كتابها مُعتبرةً أن القيم المرتبطة بالرعاية والعناية قد أخذتها النساء على عاتقهن بشكل رئيس عبر التاريخ، أي إن هذه السلوكيات هي نتاج تاريخي للتنشئة الاجتماعية، لذلك تتجنب نسبها إلى جنس معين، وتفضّل شرحها على أساس البيانات الثقافية والاجتماعية.
تعتقد غيليغان أن سلوكيات الرعاية قد جرى إهمالها واحتقارها مُنْذُ أَمَدٍ بَعيدٍ لأن من يقوم بها هن النساء اللواتي يحتللن مرتبة أدنى في المجتمع من مرتبة الرجال. وإذا كانت قرون من التاريخ قد صاغت سلوكيات وعقليات ذكورية حتى إنّها أصبحت متأصلة في النظام الاجتماعي، فهذا لا يعني أن أخلاق الرعاية يجب أن تكون من اختصاص النساء فقط. وتدعو جيليغان إلى استلهام سلوكيات الرعاية وتعميمها على جميع أفراد المجتمع من أجل تطوير أخلاقيات أقل تجريداً وحيادية مع مراعاة خصوصية كل حالة إنسانية. كما تدعو جيليغان إلى دمج العدالة في الاهتمام والرعاية بهدف تخفيف المعاناة عن كاهل الآخرين وتقديم المساعدة للذين يستحقونها فعلاً.
الرعاية: علاقة غير متساوية
الرعاية تقوم على شخص يمنح الاهتمام والعناية وشخص آخر يتلقاها، وهي غير متساوية بسبب وجود الشخص الأول في موقع قوة لكونه يملك المعرفة والقدرة المادية والمعنوية على تقديم المساعدة، والثاني في موقع ضعف لكونه يعاني الهشاشة ويحتاج إلى العون.
هدف علاقات الرعاية الأساسي هو إخراج الشخص الضعيف من حال الاضطراب والوهن التي يعانيها وإيصاله إلى حالٍ من الاستقلالية النسبية تُمكّنه من العودة إلى الحياة الطبيعية.
لذلك يُخشى أن يستغل مُقَدِّم الرعاية سلطته على الآخر لإخضاعه وممارسة الهيمنة عليه. وعليه، لا يكفي فقط التمتع بالقدرة على العناية للعمل في هذا المجال، بل يجب أن يتحلى الشخص اللازم وبإرادة قوية ورغبة حقيقية في العناية بالآخرين، ويجب تطوير علاقة قائمة على التضامن والترابط الإنساني والاحترام، من خلال إدراك أننا جميعاً كائنات قد نقع أسرى المرض والعجر ونحتاج يوماً ما إلى أحد يعتني بنا. ومن هنا تبرز أهمية قوننة الرعاية وتنظيمها واعتبارها عملاً شرعياً كاملًا مُحدّداً بشروط وواجبات.
يجب ألا ننسى أن هدف علاقات الرعاية الأساسي هو إخراج الشخص الضعيف من حال الاضطراب والوهن التي يعانيها وإيصاله إلى حالٍ من الاستقلالية النسبية تُمكّنه من العودة إلى الحياة الطبيعية.
يجب التمييز أيضاً بين الرعاية الجيدة والرعاية السيئة، فالمستعمرون الذين احتلوا بلادنا مثلاً تذرعوا بخطاب الرعاية وبأنهم يحملون معهم رسالة الحضارة والتطور إلى الشعوب المتخلفة، وذلك بهدف نهب خيرات البلاد والعباد. من أجل ذلك، يجب أن نفكر دائماً في الأهداف الحقيقية والنهائية للرعاية لكي يصار إلى تقويم نتائجها موضوعياً.
نحو تسييس الرعاية وبناء دولة الرعاية الاجتماعية
طورت عالمة السياسة والناشطة النسوية الأميركية جوان ترونتو نظرية الرعاية التي وضعتها كاورل جيليغان، ورأت أن أخلاق الرعاية ليست مجرد فضائل أخلاقية نسائية، بل هي مجموعة من النشاطات والتجارب التي تهدف إلى الاهتمام بالآخر وبالبيئة وأيضاً بالعالم الذي نعيش فيه، وهذه النشاطات يجب ألا تكون حكراً على النساء.
هكذا، انتقلت فكرة الرعاية من المجال الأخلاقي إلى المجال السياسي والحقوقي ووصلت إلى مجال الفلسفة أيضاً في فرنسا مع ساندرا لوجييه وباسكال مورينييه. وتُعرّف ترونتو مفهوم الرعاية على النحو التالي: «نشاط عام يتضمن كل ما نقوم به للحفاظ على "عالمنا" وإدامته وإصلاحه، حتى نتمكن من العيش فيه قدر الإمكان. يشمل هذا العالم أجسادنا وأنفسنا وبيئتنا، وجميع العناصر التي نسعى لربطها بشبكة معقدة لدعم الحياة».
بفعل التجاهل والتهميش، تتحول الرعاية إلى خدمات زهيدة الأجر يُقدّمها المُهَيْمن عليهم للأقوياء المهيمنين الذين يملكون السلطة والمال.
تنتقد ترونتو في كتابها «عالم ضعيف: نعم لسياسة رعائية» الآليات التي يجري من خلالها تهميش الرعاية في مجتمعاتنا والتبخيس من شأن الذين يقدّمونها، إذ يجري تكليف النساء بها وبخاصة الملوّنات واللاجئات، وحتى العمال الفقراء المهاجرون.
هكذا، بفعل التجاهل والتهميش، تتحول الرعاية إلى خدمات زهيدة الأجر يُقدّمها المُهَيْمن عليهم للأقوياء المهيمنين الذين يملكون السلطة والمال. علماً أن الرعاية تشكل جزءاً كبيراً من حياتنا اليومية، ولكننا لا نوليها الأهمية التي تستحق، ولا نعترف بصعوبة عمل الرعاية، وأنه يستحق أجراً لائقاً وتقديراً اجتماعياً.
إن إعادة تعريف الرعاية يعني استنكار عملية تهميش نشاطاتها وتحقير العاملين بها. والأهم من ذلك، أن جوان ترونتو تؤيّد إعادة التفكير في العلاقة بين الأخلاق والسياسة، بل وأكثر من ذلك، إعادة ترسيم حدود الأخلاق. في الواقع، الأيديولوجية الليبرالية المستقاة من النظريات الكانطية التي تبناها الفيلسوف جون رولز(1921-2002)، والتي تجعل من الفرد المستقل العقلاني قيمة أخلاقية كبيرة، تُخفي داخلها التوزيع غير المتكافئ للسلطة والموارد والاختلافات الاجتماعية. لذلك فإن إعادة تعيين حدود الأخلاق تعني تالياً التشكيك في القيمة الأخلاقية للفردانية الليبرالية وتطوير أخلاقيات سياسية جديدة تمنح العلاقات الإنسانية قيمة أعظم.
على عكس الكتاب التأسيسي لجيليغان، تدعو ترونتو إلى تجاوز مسألة الدفاع عن أخلاقيات المرأة -أي أخلاق الأقلية المتمثلة في الاهتمام والرعاية– وتقترح بناء نظام سياسي واجتماعي قانوني كامل قائم على الرعاية، يأخذ نشاطات الخدمة الاجتماعية وجميع نشاطات المؤسسات الإنسانية التي تتولى مسؤولية تأمين الحاجات المادية والمتطلبات الضرورية للأفراد والجماعات على محمل الجد.
إن إعادة تعريف الرعاية يعني استنكار عملية تهميش نشاطاتها وتحقير العاملين بها. وتؤيد ترونتو إعادة التفكير في العلاقة بين الأخلاق والسياسة، بل وإعادة ترسيم حدود الأخلاق.
تدعو ترونتو أيضاً إلى إضفاء الطابع المهني على السلوكيات المرتبطة بالرعاية، وتطالب بتقاسم هذا العبء بين الرجال والنساء. بالنسبة إلى ترونتو فإنّ الرعاية عمل مرهق جداً يستحق أجراً جيداً؛ لذلك علينا التخلّص من الموقف العاطفي الذي من شأنه أن يجعل العلاقة بين الأم والطفل -علاقة ثنائية أساساً- نموذجاً لأخلاقيات الرعاية، ولا مانع من دمج أخلاقيات العدالة في مفاهيم الرعاية للمطالبة بالمساواة التي تدعو إليها العدالة في أي مجتمع ديمقراطي (على سبيل المثال، هناك حاجة إلى نظرية العدالة لتمييز أكثر الاحتياجات إلحاحاً، وضعفاً وتوجيه العناية الاجتماعية نحوها).
كيف نستطيع الوصول إلى الرعاية الجيّدة؟
الناس بمعظمهم لديهم أعذار ووسائل عديدة للتهرب من تقديم الرعاية الاجتماعية. الطريقة الأولى هي دفع المال إلى شخص ما في مقابل القيام بما لا أريد القيام به، أو ليس لديّ الوقت الكافي للقيام به. ولكن هناك أيضًا الامتيازات الخاصة، فالمجتمع الذي نعيش فيه قائم على مبدأ الإعفاءات. يُعفى الرجال مثلاً، من تقديم الرعاية بذريعة أنهم يقدمون للنساء الحماية الجسدية أو المالية.
الإعفاء الثاني هو التذرع بالإنتاج: أنا أعمل وأجلب المال وهذا أكثر الأشياء أهمية، لذلك ليس لدي الوقت لإضاعته: على شخص آخر القيام بمهمات الرعاية. الإعفاء الثالث يتعلق بقيم المجتمع الليبرالي الذي نعيش فيه والذي يُنَمي المشاعر الأنانية ويتحدث فقط عن المسؤولية الشخصية: «أنا مسؤول عن نفسي فقط وأنا أعتني بأسرتي، هذا صعب بما فيه الكفاية، فلا يطلُبَنّ أحد مني بذل مزيد من الجهود».
هناك أيضاً إعفاء «الصدقة»: هناك أناس يتضورون جوعاً، ولا يستطيعون حتى الحصول على رعاية صحية، وأنا أهب المال للجامع أو الكنيسة، والجامع بدوره يهبها لأناس فقراء جائعين، وهكذا أعفي نفسي من مسؤوليتي تجاه المجتمع، وأشعر بأنني أدّيت واجبي على الوجه الأكمل. لذا، فإن أول شيء يجب فعله عند الحديث عن مجتمع رعاية ديمقراطي أن نضع امتيازاتنا وأعذارنا جانباً، ونعيد توزيع مسؤوليات الرعاية على نحو عادل على كل أفراد ومؤسسات المجتمع.
فضلاً عن ذلك، يجب أن تُعطى أعمال الرعاية أجراً عادلاً، وهذا لن يكون من دون القواعد الاقتصادية لتوزيع الأجور، ومن دون التوجّه نحو اقتصاد أخلاقي. لماذا مثلا ًيجب أن يتلقى عامل النظافة راتباً أقل بكثير من المحاسب أو المحامي، مع أن عمله لا يمكن الاستغناء عنه على الإطلاق، وتأثيره كبير في حياتنا وحياة أسرنا؟
تُقدّم جوان ترونتو رؤية سياسية حقيقية للمستقبل، فوفقاً لنظريتها سيتحوّل العالم من مجموعة من الأفراد الأنانيين الذين يسعون لتحقيق أهداف شخصية عقلانية ومشاريع حياة (كما تقترح النظريات الليبرالية)، إلى مجموعة من المترابطين في شبكات رعاية وحماية اجتماعية والملتزمين بتلبية احتياجات الآخرين من حولهم. كذلك حددت جوان ترونتو أربع مراحل ضرورية للرعاية الجيدة وهي الاهتمام والمسؤولية والكفاءة والاستجابة.
بالنسبة إليها، فإن الاهتمام بشخص ما يعني إدراك وتحديد ما يحتاج إليه من رعاية مادية وعاطفية. الرعاية تستدعي أيضاً تحمل المسؤولية بصورة جادّة عن العمل الذي يجب القيام به. تفترض الرعاية كذلك صفة الكفاءة التي يجب ألا تُفهم أنها مهارة تقنية وحسب، بل صفة أخلاقية كذلك. الحصول على الرعاية يتطلب أيضاً دراسة استجابة الشخص الذي يعتنى به لكي نستطيع تقويم مدى نجاح عمل الرعاية فيما بعد.
تطرح ترونتو رؤية سياسية للمستقبل، حيث سيتحوّل العالم من مجموعة من الأفراد الأنانيين الذين يسعون لتحقيق أهداف شخصية عقلانية ومشاريع حياة (كما تقترح النظريات الليبرالية)، إلى مجموعة من المترابطين في شبكات رعاية وحماية اجتماعية والملتزمين بتلبية احتياجات الآخرين من حولهم.
إن تقدير فضائل الرعاية ودمجها في النظام السياسي والاجتماعي سيسهمان بفعالية في جعل العدالة أكثر إنسانية من خلال مراعاة كل من القيم والقواعد العالمية. كذلك المواقف الفردية والحالات الخاصة. إذا كانت قواعد العدالة القائمة على الثواب والعقاب ضرورية لحُسن سير المجتمع، فلا يمكن أن يكون احترامها دائماً كافياً لإسعاد الناس. لهذا السبب يجب أن نُنمي فضائل أخرى تقوم على العناية بالآخرين وإغاثة الملهوفين للحفاظ على وحدة المجتمع.
لذلك من المهم الاعتراف هنا ببعض مزايا الفكر النسوي الذي ساهم في إبراز دور الـرعاية في العلاقات الاجتماعية، وعلى جميع مستويات الوجود البشري. ولكن في المقابل، من المهم جداً الخروج من الثنائية التي تقابل بين أخلاقيات الذكر والأنثى، وبين نظرية العدالة الذكورية والرعاية كأخلاقيات أنثوية، والتوجه نحو رؤية عالمية متوازنة للأخلاق تجمع بين العدالة والرحمة والعطف والاهتمام بالآخر.
المصادر
Carole Gilligan, Une voix différente, Paris, Flammarion, 2008.
Pascale Molinier, Sandra Laugier, et Patricia Paperman, Qu'est-ce que le care? Souci des autres, sensibilité, responsabilité, Paris, Payot & Rivages, 2009.
Pierre Bourdieu, La domination masculine, Paris, Seuil, Coll. Liber, 1998.
Joan Tronto, un monde vulnérable, pour une politique de care, Paris, La découverte, 2009.
https://drasah.com/Description.aspx?id=4988